عارفاً بحقه :

الجزء العاشر :

بسم الله الرحمن الرحيم

    الرابع : حمكة ترتب هذه البركات العظيمة على الزيارة مع معرفة حقهم عليهم السلام : 

   المحور الرابع و الأخير في هذا المقال هو حكمة هذا الثواب العظيم أي أنه لماذا جُعل هذا الثواب العظيم للزيارة المقترنة بمعرفة حق الإمام عليه السلام ؟ فما الذي تُحقِّقُه هذه الزيارة كي يكون لها هذا الأثر و الثواب العظيم؟ 

     و الجواب هو أن هدف إرسال الأنبياء و  تنصيب الأئمة و الأولياء و إنزال الكتب السماوية هو إيصال المكلفين إلى كمالهم الذي من أجله خُلقوا و هو القُرب العبودي من رب العالمين – و للقرب درجات غير متناهية يصل السالك فيها إلى درجات لا يرى فيها غير الله تعالى و ما يشاهده في الكون إنما هي آيات لله فينظر إليها بما أنها آيات و مَرائي تعكس جمال الله و جلاله و المرآة بما هي مرآة لا شأن لها إلا إراءة ما ينعكس فيها و ..  و هذا بحث شريف قد تطرقنا لإجمال بعض جوانبه في بعض الأجوبة على أسئلة المؤمنين – و لهذا الكمال عناصر كثيرة إلا أن أساس تلك العناصر هو طهارة الروح بتهذيب النفس و تزكيتها و تربيتها و العلم و المعرفة و قد أشار القرآن الكريم إلى هذين الهدفين – التزكية و التعليم – في آيات متعددة منها الآيات التي تبين حكمة بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كقوله تعالى : ” لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ” آل عمران ١٦٤  – و للتزكية و التعليم وسائل مختلفة ، و التكاليف الإلهية و لا سيما العبادية منها مشتملة على عنصر التربية و التهذيب فمثلاً الصوم تمرين على التقوى بالسيطرة على النفس بترك المحللات إلى جانب المحرمات و يستمر هذا التمرين و ترويض النفس في شهر رمضان لمدة شهر حتى يتحقق بذلك صفاء القلب و طهارته من دنس الذنوب و ظلمات المعاصي و الرذائل فيعود العبد بذلك إلى ربه الكريم و فطرته التوحيدية السليمة المطهرة من الذنوب و  ظلماتها وهذا العَود هو العيد الحقيقي كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الأعياد : ” إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه و شكر قيامه و كل يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد ” فعيد المؤمن عوده إلى ربه و إلى فطرته الطاهرة بالتقوى التي جعلت حكمة لفرض الصوم : ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ” و نظير ذلك وارد في الحج  حيث أن الحج أيضاً تمرين على ترك المحللات إلى جانب المحرمات لفترة معينة و محددة و في حالة الإحرام كي يتمكن المؤمن بذلك التمرين من ترك المحرمات على أقل تقدير بعد الخروج عن حالة الإحرام ، مضافاً إلى أن نفس أعمال الحج أيضاً تمرين على ذلك كما أنها رموز  ترمز إلى المعرفة بالرب الكريم و الشعور بعظمته جل و علا  فتتحقق بذلك التقوى فالطواف حول البيت يعني فيما يعني أن نجعل الله تعالى محور حياتنا ، و رضاه محور سلوكنا و أعمالنا و تصرفاتنا و أخلاقنا و… فنغلق به أبواب الشر السبعة التي هي أبواب النار – و هذا ما يحتاج إلى بيان موكول إلى محله – … ثم نصلي و نتعبد لله تعالى و نظهر عبوديتنا له جل و علا ثم نسعى بين الصفا و المروة لنكتسب صفاء القلب و المروءة في الدين بإزالة الكبرياء عن أنفسنا بالسعي و الهرولة فيه و .. و نذهب إلى عرفات لنعترف بذنوبنا و نعرف ربنا ، ثم إلى المزدلفة و المشعر الحرام لنحقق الشعور الدقيق و المعرفة العميقة بالله تعالى بعد المعرفة الحاصلة في عرفات و بذلك و بسائر عناصر التعبد لله تعالى نزدلف و نقترب إليه جل و علا و بعد ذلك نزدلف إلى منى لننال الأمنيات بعد هذا السير و السلوك الروحاني نحو  الكمال فنرمي الشيطان لنبعده عن أنفسنا و …  و العبد العاصي الذي قد غلبت عليه الجوانب البهيمية و الحيوانية إذا جاء إلى الحج و سلك صراط التهذيب و ترويض النفس على التقوى و تمكن من السيطرة بعقله و فطرته على أهوائه و على الشيطان و طهر نفسه من الظلمات و الكدورات أثناء قيامه بأعمال الحج فقد حقّق المطلوب و بلغ المُنى و إلا – إن لم يروض و يهذب نفسه بتلك الأعمال و على حد تعبير الرواية إذا كان  كافراً – جاءه الشيطان عند الرمي و همس في أذنه : ” بإستك ما رميت ” فأنت باقٍ على الحيوانية و البهيمية و لم تغير بحجك هذا شيئاً في نفسك فلم يتحقق منك الرمي  فكيف ترمي الشيطان و تبعده عن نفسك و أنت من جنوده و .. 

     هذا و قد أشار القرآن الكريم إلى حكمة جميع العبادات و أن الفائدة المرتقبة منها هي التقوى فقال عز من قائل : ” يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون ” البقرة : ٢١ – و يمكن إرجاع قوله تعالى  ” لعلكم تتقون ” إلى الخلق أيضاً فيكون هدف خلق الناس نيل الكمال بتقوى الله تعالى و.. – . 

   و إذا تبين ذلك نقول أن زيارة الإمام عليه السلام مع معرفة حقه بالمعنى الذي سبق توجب تحقِّقُ هدف التكوين و التشريع في الزائر حيث أن معرفة كونه إماماً مفترض الطاعة شهيداً و شاهداً على أعمال العباد ، و الإيمان بذلك يوجب اتباعه و طاعته عليه السلام و بذلك يتحقق الدين الحق لأن الإمام المعصوم لايأمر و لا ينهى إلا بما أمر الله به و نهى عنه ، فإذا كانت المعرفة بحقه موجبة لطاعته كان ذلك بمعنى تطبيق الدين و السير في الصراط المستقيم المؤدي إلى القرب العبودي من رب العالمين ،  فمن الممكن أن يحج و يعتمر الإنسان من دون أن يتحول إلى إنسان كامل و لا تزيده كثرة الحج و العمرة غير التعب و الإرهاق ،  و لكن زيارته للإمام عليه السلام مع معرفة حقه صلوات الله عليه و الالتزام بلوازم تلك المعرفة تعني الوصول إلى الكمال الذي قد بُعث الأنبياء و نُصب الأئمة و الأولياء و أنزلت الكتب من السماء لأجل تحققه ،  و هذا هو السبب في التأكيد البالغ على المعرفة – معرفة الله و أوليائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين التي تعدّ معرفة أسمائية لله لأنهم الأسماء الحسنى … ، بل و معرفة النفس كذلك فهي أيضاً تؤدي إلى معرفة الرب كما في أحاديث معرفة النفس كقولهم عليهم السلام :  ” من عرف نفسه فقد عرف ربه ” بتقريرات و تقريبات متعددة قد نتطرق لها في بحث مستقل – و جُعلت – أي هذه المعرفة – من حِکَمِ التكوين و التشريع – و لا يخفى أن المعرفة كمال للعارف لا لمتعلَّق المعرفة إلا فيما إذا كان العارف و متعلق المعرفة واحداً كمعرفة النفس فهي كمال للعارف الذي هو المعروف بهذه المعرفة أي النفس الناطقة و الروح الإنسانية ، و أما إذا كان متعلَّق المعرفة هو الله تعالى فمعرفة العارف ستكون كمالاً للعارف نفسه لا لله لأنه عين الكمال المطلق و اللامتناهي و لا يمكن أن يكتسب الكمال من غيره سبحانه و تعالى ، بل ينطبق هذا الأمر على معرفة الأولياء أيضاً حيث أنهم عليهم السلام لا يكتسبون كمالاً بمعرفتنا لهم بل نحن من يكتسب الكمال بمعرفتهم لأنهم الأسماء الحسنى فبمعرفتهم تتحقق معرفة الله تعالى بمعرفة أسمائه الوجودية بقدر ما معرفتنا لهم ، و من المعلوم أن معرفة الله تعالى الأسمائية كمال للنفس الإنسانية و موجبة للتعبد و التقرب العبودي إلى الله تعالى بل تؤدي إلى تحقق كثير من الكمالات الروحانية من قبيل الرضا بقضاء الله و التسليم لأمره جل و علا و ..  

و من جهة أخرى معرفة حقهم عليهم السلام تعني الإيمان بولايتهم و عصمتهم الربانية و علومهم اللدنية و أنهم حجج الله على البرية ،  و معنى ذلك أن نأخذ أحكام الشريعة المقدسة و المعارف الإلهية منهم عليهم السلام ،  بمعنى أننا سنأخذ أحكام الصلاة و الصوم و الحج  و سائر العبادات منهم صلوات الله عليهم كما أننا سنتعرف على العقائد بشكل صحيح كالتوحيد الحق و الصحيح و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد و المعارف المتعلقة بها ،  عن طريقهم و ببيانهم الصحيح و الدقيق و هذا يعني أننا سنأخذ منهم الدين بتمام معارفه و جميع أحكامه ، فبولايتهم نعرف الدين و نصونه من التحريف كما نحافظ على أنفسنا من الانحراف فمعرفة حقهم صيانة للدين عن التحريف و للمؤمنين عن الانحراف كما أن عدم المعرفة موجب للإنحراف و التحريف الذين ابتلي بهما الكثيرون ممن ابتعدوا عن أهل البيت عليهم السلام فلم يتمكنوا من معرفة التوحيد الصحيح – بل اتهموا أهل التوحيد الحق بالشرك جهلاً منهم بالمفهوم الصحيح للتوحيد ..  – و لا العدل الإلهي بشكل دقيق – بل ابتلي بعضهم بما يؤدي إلى نفي العدل الإلهي و عوذاً بالله تعالى و ..  – و كذلك في الأحكام فقد ابتُلوا باستنباطها من طرق لا حجية فيها كالقياس و الاستحسانات العقلية و المصالح المرسلة و .. و بذلك نعرف قيمة معرفة الإمام المعصوم المفترض الطاعة و لهذا ورد أنه ما نودي أحد بمثل ما نودي بالولاية و في الحدیث عن أبي حمزة قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام : إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا قلت : جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال : تصديق الله عز و جل و تصديق رسوله صلى الله عليه وآله و موالاة علي عليه السلام و الائتمام به و بأئمة الهدى عليهم السلام والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عز وجل .  الكافي ج ١ ص ١٨٠ ب معرفة الإمام ح ١  ، و في حديث آخر عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الاسلام على خمسة أشياء : على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية ، قال زرارة : فقلت : و أي شئ من ذلك أفضل؟ فقال : الولاية أفضل ، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن ، قلت : ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال : الصلاة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : الصلاة عمود دينكم …. ثم قال ذروة الامر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء و رضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، إن الله عز وجل يقول : ” من يطع الرسول فقد أطاع الله و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ” أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله عز وجل حق في ثوابه و لا كان من أهل الايمان ، ثم قال : أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته .  الكافي ج ٢ ص ١٨ – ١٩ باب دعائم الإسلام ح ٥ 

و لا يخفى عليكم ما يشتمل عليه هذان الحديثان الشريفان من معارف و منها أن معرفة الإمام من معرفة الله تعالى و أن عدم المعرفة بولاية الأئمة عليهم السلام تؤدي إلى الضلال ،  مضافاً إلى بيان أن الولاية أفضل أسس الإسلام مع ذكر حكمة ذلك و .. فتأملوا في الحديثين الشريفين .. 

هذا كله مضافاً إلى أن المنجي يوم الدين هو الإيمان و العمل الصالح و من المعلوم ضرورة تحقق الإيمان بجميع أجزائه و من جملتها ولاية أهل البيت عليهم السلام فكما أن الإيمان بالله و بوحدانيته تعالى من دون الإيمان بالمعاد أو برسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله لا يعدّ إيماناً كاملاً و لا يُحكم بإسلام من لا يؤمن برسالته صلوات الله عليه و آله ، كذلك الإيمان بجميع ما تقدم من دون الإيمان بالولاية لا يعدّ إيماناً كاملاً موجباً للفوز بالجنة و الرضوان في دار السلام ،  فالإيمان بالولاية جزء لا يتجزأ من الإيمان المطلوب في الشريعة المقدسة ،  نعم لا نحكم بكفر و ارتداد غير المؤمن بولاية أهل البيت عليهم السلام لأن عدم الإيمان بها ناتج في الأعم الأغلب عن الجهل بها و بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد جاء بها و أن الله جل و علا قد جعلها سبباً لإكمال الدين و إتمام النعمة ،  نعم العالم بذلك المنكر لها عن علم و عناد خارج عن الملة و لا أقل من أن يعامل معاملة الكفار يوم القيامة فقد اتفق الفريقان في نقل الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم القائل بأنه : ” من مات و لا يعرف إمامه – أو : إمام زمانه ، أو : و ليس عليه إمام .. – مات ميتة جاهلية .. هذا مضافاً إلى أن إنكار ما ثبت من الدين موجب للخروج عنه إذا أدى إلى إنكار الرسالة و لو كان ذلك الثابت من فروع الدين فكيف بالأصول .. 

و إذا تبين لنا ذلك لم نستعظم تلك المثوبات و البركات العظيمة المترتبة على الزيارة بمعرفة حقهم عليهم السلام ، بل سنراها نتيجة طبيعية لها ،  كما لا غرابة في جعل المودة في القربى أجر الرسالة المحمدية صلى الله عليه و آله و سلم  فإن المودة تجذب صاحبها إلى ذوي القربى فتؤدي إلى معرفتهم و طاعتهم و بالنتيجة إلى كمال الدين و تمام نعمة رب العالمين بصيانة الدين عن التحريف و حراسة المؤمنين من الانحراف عن الصراط المستقيم ببيان خارج عن موضوع بحثنا … و بذلك يتبين أن الملاك في ترتب تلك البركات و المثوبات العظيمة هو نفس المعرفة بحقهم لا الزيارة الجسمانية ،  و لكن بما أن الزيارة بالحضور  عند الأئمة عليهم السلام أو عند مقاماتهم و أضرحتهم المقدسة يؤدي إلى تلك المعرفة أو تعميقها و تعميق الارتباط الروحاني بهم عليهم السلام و ارتقاء درجة الإيمان ، جُعلت تلك الآثار للزيارة بالمعرفة ،  رزقنا الله و إياكم زيارتهم مع معرفة حقوقهم عليهم السلام في الدنيا و شفاعتهم صلوات الله عليهم في الآخرة ..

هذا و تجدر الإشارة إلى أنه قد ذكر الفيض الكاشان قدس سره الشريف وجهاً آخر لفضل زيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام على الحج و العمرة و .. فمن أراد التعرف عليه فليراجع الوافي ج ١٤ ص ١٤٨٢ ب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام ذيل الحديث ٥٣ 

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..