عارفاً بحقه :
الجزء السادس :
بسم الله الرحمن الرحيم
سبق أن ذكرنا أن من جملة أسس المعرفة بحق الإمام عليه السلام هو المعرفة بشهادته عليه السلام ، و قلنا أن للشهادة معنيين أو مصداقين ، الأول بمعنى القتل و الإستشهاد في سبيل الله تعالى ، و قد تطرقنا له ببيان إجمالي ، و الثاني هو كونه عليه السلام من شهداء الأعمال ، فالمعرفة و الإعتقاد بهذا المقام للإمام عليه السلام من جملة أسس معرفة الحق الموجبة لترتب تلك البركات و المثوبات العظيمة المشار إليها في الروايات .
المقصود من شهادة الأعمال :
المقصود من كون الإمام عليه السلام من شهداء الأعمال أنه صلوات الله عليه يشهد و يرى أعمال المكلفين ليشهدوا بها عند الله جل و علا يوم الحساب و ذلك لأن لشهادة الأعمال ركنين الأول تلقّي الشهادة بمشاهدة الأعمال و الثاني إلقائها عند الله تعالى كما أن الشاهد في الدنيا أيضاً يرى و يشاهد ما صدر من المتهم ثم يشهد بما رآه عند القاضي ليُصدِرَ الحكم المناسب ، و الله سبحانه و تعالى و إن كان عليماً محيطاً بكل شيء و لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض إلا أنه قد جعل نظاماً خاصاً لعالم التكليف – كما وضع قوانین و سنناً تكوينية لإدارة شؤون الكون تكويناً – و من جملة النظامات لعالم التكليف هو جعل شهداء على أعمال المكلفين ليتلقّوا الأعمال ثم يُلقوها يوم القيامة أي أنهم يشهدون للمكلفين أو عليهم يوم الحساب ، و هذا مقام عظيم لا يناله إلا الأوحدي من الناس ، نعم قد يكون إنسان مؤمن قد بلغ درجات عالية من الإيمان و طهارة النفس فيصبح بذلك من شهداء الأعمال و لكن في حدود خاصة و بقدر طهارة روحه و درجة إيمانه ، و أما أهل بيت النبوة و الرسالة – بمن فيهم و على رأسهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم – فهم شهداء أعمال جميع المكلفين بإذن الله تعالى و هو – أي كونهم شهداء أعمال الجميع – مقام عظيم و منزلة رفيعة لا ينالها غيرهم سلام الله عليهم من جهة الشمولية أولاً لأنهم في أعلى مراتب الطهارة و أرقى درجات الإيمان و المعرفة فلا يقاس بهم أحد من الخلق ، و من جهة أن شهادة الأعمال يستلزم العلم و المعرفة بظاهر الأعمال و باطنها ، جسمها و روحها ثانياً ، و بيان ذلك :
من جهة الشمولية :
نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم و أهل بيته عليهم السلام مظاهر أسماء الله و صفاته تعالى فهم مظاهر علم الله و قدرته و .. من جهة ، و من جهة أخرى هم نفس الأسماء الحسنى كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ” و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها ” قال عليه السلام : ” نحن و الله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا ” أصول الكافي ج ١ ص ١٤٤ باب النوادر الحديث ٤ . ففي الجهة الأولى قد تجلت فيهم أسماء الله و صفاته تعالى فبمعرفتهم عليهم السلام نتمكن من معرفة أسماء الله و صفاته تعالى بالقدر المقدور و كل على قدر وسعه و سعته الوجودية ، و في الجهة الثانية هم الأسماء الحسنى لأن الإسم بمعنى العلامة و الآية فلا ينحصر الإسم باللفظ بل قد يكون الإسم وجوديا فوجودهم دليل و آية على الله تعالى ، و صحيح أن جميع السموات و الأرضين و ما فيها و ما فوقها و .. بهذا المعنى آيات لله تعالى إلا أن أكمل المخلوقات و أشرفها و أحسنها هو أكمل و أشرف و أحسن الآيات فغيرهم عليهم السلام آيات لله تدل بوجوداتها و قواها و صفاتها على الله تعالى و صفاته جل و علا و لكن أهل البيت عليهم السلام هم الأسماء الحسنى و الآيات العليا التي ليس مثلها آية و لا يدانيها إسم من الأسماء الدالة على الله تعالى و صفاته العليا جل و علا ، و لهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : ” ما لله آية أكبر مني ” فهم عليهم السلام الآيات الكبرى و الأسماء الحسنى و هم الأدلاء على الله بوجوداتهم و كمالاتهم و فضائلهم كما أنهم الأدلاء على الله بكلماتهم و خطبهم و أدعيتهم أيضاً – و لهذا الموضوع تفصيل لا يسعنا الغور فيه في هذا المختصر و إنما أشرنا إليه لنستنتج أنهم عليهم السلام مظاهر أسماء الله تعالى و صفاته جل و علا و من جملتها أنه تعالى : ” لا يشغله سمع عن سمع ” فإذا كانوا مظاهر هذه الصفة فهم – و لكونهم شهداء الأعمال – لا يشغلهم سمع عن سمع و لكن بإذنٍ و تمكينٍ من الله تعالى فيسمعون كلام المكلفين و يبصرونهم و يرون أعمالهم ليتحقق تلقّي الأعمال فيشهدوا بها يوم الدين و هذه الشهادة بجانبيها – التلقّي و الإلقاء – لا تختص بعمل مكلف دون مكلف بل يشهدون و يرون الجميع بإذن الله تعالى .. فشهادة الأعمال من هذه الجهة منزلة عظيمة قد منحها الله إياهم لقربهم و جلال منزلتهم لدى الله تعالى أولاً و ليعرف الناس و سائر المكلفين هذه المنزلة العظيمة لهم عليهم السلام يوم القيامة ، فمن عرفها و عرف هذا الحق لهم في الدنيا قبل القيامة فهو ممن عرف هذا الجانب من حقهم ، و بذلك يستحق تلك المثوبات العظيمة ويترتب على زيارتهم بهذه المعرفة تلك الدرجات العلية يوم القيامة ..
هذا كله من حيث الشمولية ، و أما من حيث كون الشهود شاملاً للظاهر و الباطن ، و المُلك و الملكوت ، و الأعمال و النيات فسيأتي بيانه في الجزء التالي بعون الله تعالى ..