كانت لدي محاضرة حول كون الزهراء سلام الله عليها الكوثر الرباني و التي امتحنها رب العالمين … في إحدى الحسينيات فطلب مني بعض الإخوة كتابة خلاصة الموضوع ، فأقول متسعيناً بالله جل و علا :
– – – – – – – – – –
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطناك الكوثر * فصل لربك و انحر * إن شانئك هو الأبتر * صدق الله العلي العظيم و صدق رسوله الكريم ..
نعلم جميعاً أن سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام من أصدق مصاديق الكوثر الرباني جل و علا و قد أشرنا في محاضرات أخرى أن لهذه الكوثرية أبعاداً و جوانب كثيرة و لسنا في هذا المقال المختصر بصدد بيان ذلك بل الهدف في هذا المكتوب بيان السبب في كونها أو صيرورتها كوثراً ربانياً ..
غير خافٍ عليكم أنه ليس بين الله تعالى و بين أحد من خلقه صلة قرابة كما أن صلة القرابة الجسمانية لأحد بالأنبياء و الأولياء ليست بحدّ ذاتها ميزاناً و ملاكاً للفضل و الكرامة و الكمال و القرب العبودي إلى الله العظيم جل جلاله و إن كانت ميزة يمكن للإنسان أن يستفيد منها لتحقيق هدف الخلق و هو الكمال بالقرب العبودي إلى الله تعالى ..
و بناءً على ذلك ليس فضل الله على الزهراء عليها السلام و كرامتها لدى الله ناتجاً عن كونها بنتاً لخاتم النبيين و أشرف الخلق أجمعين صلى الله عليه و آله و سلم – و إن كان لذلك تأثير نسبي – فقد يكون لأحد صلة قرابة جسمانية بالنبي أو الولي و لكن الله تعالى ينفي صلته به و كونه أهلاً له كولد نوح عليه السلام حيث قال تعالى عنه مخاطباً نبيه نوحاً عليه السلام : ” إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ” كما أن من الممكن أن لا يكون لإنسان صلة قربة جسمانية بنبي أو ولي من أولياء الله تعالى إلا أن الله عز و جل أو النبي أو الوليّ يعدّه أهلاً للنبي و الولي كسلمان الفارسي الذي قال النبي عنه أنه منا أهل البيت بنقل الفريقين – و لا يختص نقل ذلك بالشيعة كما يروّج البعض و يقول أن الرافضه يسمونه بذلك بل قد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مستدرك الحاكم النيسابوري ج ٣ص ٥٨٩ و مجمع الزوائد للهيثمي ج ٦ ص ١٣٠ و ج ٩ ص ١١٧ و ١١٨ و غيرهما و عمدة القاري للعيني ج ٢٠ ص ١٦٧ و … –
فالملاك و الميزان هو الأهلية المعنوية و الروحانية لا الجسمانية ، فالمؤمن العامل بالصالحات من أهل البيت و إن بعدت لحمته و العاصي ليس منهم عليهم السلام و إن قربت صلة قرابته و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : ” … إن ولي محمد من أطاع الله و إن بعدت لحمته و إن عدو محمد من عصى الله و إن قربت قرابته ” – نهج البلاغة الحكمة ٩٦ – كما أن القرآن الكريم يؤكد ذلك على لسان إبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى حكايةً عنه عليه السلام : ” … فمن تبعني فإنه مني … “ – سورة إبراهيم الآية ٣٦ – و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام في صدر تلك الحكمة : إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به ، ثم تلا : ” إن أولى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا ” ، و الملفت للنظر أنه عليه السلام ذكر في البداية أن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به فجعل الملاك و الميزان بالأولوية بالأنبياء و القرب منهم العلم بما جاءوا به و لكنه عليه السلام استند إلى آية تدل على العمل و الإتباع العملي للأنبياء ، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العلم المجرد عن العمل لا يكفي في كمال الإنسان و لا في صيرورته من أولى الناس بالأنبياء و أقربهم إليهم ، كما أن العمل بلا علم و معرفة و بصيرة أيضاً ليس له التأثير المتوقَّع في تحصيل الكمال و حصول القرب إلى الأنبياء و الأولياء عليهم السلام بل قد يؤدي إلى البُعد بدلاً من القرب فيلزم اقتران العلم بالعمل ليتحقق المطلوب و ذلك لأن العلم الحقيقي الذي هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء و به يُدرك العالِم حقارة العالَم و عظمة الباري عز وجل ، لا يكفي عن العمل بل يسوق و يدفع العالم نحو العمل و خشية الله تعالى كما قال تعالى : ” إنما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ ” فمن لا يخشاه لم يدخل نور العلم في قلبه فلم يدرك عظمة الخالق و إن كان عارفاً ببعض المصطلحات العلمية و لكنه في حقيقة الأمر قد تسمى عالماً و لم يدخل العلم الحقيقي في قلبه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : ” و آخر قد تسمّى عالماً و ليس به … ” فالعالم هو العامل عن معرفة و بصيرة و غير العامل ليس بعالم … – و للبحث في هذا الموضوع مجال واسع و ليس محل كلامنا في هذا المكتوب –
هذا ، و من جانب آخر نعلم أن للإنسان حياة و علماً و إرادةً و اختياراً ، و قوى الخير و الشر موجودة في باطنه و خارج وجوده ، و العالَم أيضاً عالَمُ التزاحم ، و في الإنسان قابليات عظيمة و يلزم أن تخرج تلك القابليات من القوة إلى الفعلية فتصبح كمالات فعلية بعدما كانت بالقوة و مجرد استعدادات ، و لا يتحقق هذا الأمر إلا بالتكليف و الامتحان و قد نُسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : ” عند الامتحان يُكرَمُ المرءُ أو يُهان ” …
و سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام التي بلغت درجة يكون رضاها رضا الله و سخطها سخطه تعالى و التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” و هي بضعة مني ، و هي نور عيني و هي ثمرة فؤادي و هي روحي التي بين جَنْبَيّ ، و هي الحوراء الإنسية .. ” – الأمالي للشيخ الصدوق رحمه الله تعالى ص ١٧٥ – ، و التي كانت و سائر المعصومين من أهل بيت النبوة و الطهارة كروح واحدة في أجساد متعددة و لهذا يعد زيارة كل واحد منهم بمثابة زيارتهم جميعهم عليهم آلاف التحية و الثناء كما في الخبر المروي في بحار الأنوار ج ٩٧ ص ١٢٢ الحديث ٢٨ : “ … فمن زارني بعد وفاتي فكأنما زار فاطمة ، و من زار فاطمة فكأنما زارني ، و من زار علي بن أبي طالب فكأنما زار فاطمة ، و من زار الحسن و الحسين فكأنما زار عليا ، و من زار ذريتهما فكأنما زارهما . ” .. نعم : هذه السيدة العظيمة لم تكن كوثراً ربانياً لأجل صلة قرابتها الجسمانية برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، بل لأجل ظهور كمالاتها الروحانية و خروجها من القوة إلى الفعل بالإمتحان الإلهي المشار إليه في زيارتها عليها السلام كما سيأتي …
و من جهة أخرى : زيارة الإنسان لغيره علامة لحبه إياه و إذا كان المزور نبياً أو ولياً من أولياء الله تعالى لم تكن زيارته دليلاً على حبه له فحسب بل هي علامة لولائه له عليه السلام و لبراءته من أعدائه ، و إذا كانت الزيارة قولية أيضاً – مضافاً إلى نفس المجيء إلى المزور و الحضور لديه – كانت مُبْرِزَةً لصفات المزور و دالة على كمالاته التي جعلت الزائر محباً و موالياً له عليه السلام ، و هذه الزيارة القولية قد تكون من الزائر نفسه فيصف المزور حسب ما يراه و يمكنه إدراكه و فهمه من كمالات و فضائل المزور ، و لكن في تكون مأثورة عن المعصومين عليهم السلام و إذا كانت كذلك فهي في واقع الأمر ليست مجرد زيارة و إبرازٍ للحب و الولاء بل هي باب من أبواب معرفة المزور – النبي أو الولي – عليه السلام فنتمكن من معرفة الكمالات و إثباتها لأهل البيت عليهم السلام من خلال هذه الزيارة المأثورة ، و قد سبق أن قلنا في مقال آخر أن قيمة الزيارة بالمعرفة فلا قيمة مهمة لزيارة بلا معرفة للمزور و فصلنا الكلام هناك فراجع ، فالزيارة مع المعرفة توجب الجنة و المقامات المعنوية العظيمة للزائر و المعرفة الكاملة تتحقق بالتأمل في الزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام لأنها باب من أبواب معرفتهم صلوات الله عليهم أجمعين ..
و لفاطمة الزهراء عليها السلام زيارات متعددة و قد ورد في بعضها موضوع الامتحان الإلهي لها فنقول في زيارتها عليها آلاف التحية و الثناء : ” يا ممتحنة امتحنكِ الذي خلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة .. “
فالإمتحان الإلهي هو الذي يجعل الإنسان الذي ينجح فيه ذا مراتب و مقاماتٍ و قربٍ لدى الله تعالى ، و الصبرُ في المصائب و على الطاعات و عن المعاصي و في جميع الإمتحانات دليلُ النجاح في ذلك الامتحان و علامةُ صحة الإيمان و رسوخه في القلب و الجنان و لهذا جُعل من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، و للزهراء عليها السلام أعلى درجات الصبر فلها أعلى درجات الفوز و النجاح و بالنتيجة أعلى مراتب القرب العبودي لدى الله تعالى و بذلك أصبحت كوثراً ربانياً و عطية عظيمة إلهية حباها الله جل و علا لأفضل خلقه و أشرف بريته رسول الثقلين محمد صلى الله عليه و آله و سلم ( و قد أشرنا إلى أننا لسنا بصدد بيان كوثريتها عند الله حيث عدها الله تعالى كوثراً و خيراً كثيراً باستعمال مادة الكثرة بصيغة المبالغة مع أنه تعالى يعد عالم الدنيا بتمامها متاعاً قليلاً مما يدل على أن فيها جوهراً أو جواهر روحانية لا يُقاس بها العالم المادي و هي الفضائل و الكمالات الوجودية التي هي ملاك كون الإنسان غاية الخلق …) .
و لتبيين ظرف – زمان و و مكان – الامتحان الإلهي الذي امتُحنت به الزهراء المرضية يلزم بيان هذا المقطع من زيارتها عليها آلاف التحية و الثناء : ” يا ممتحنة امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ فوجدكِ لنا امتحنكِ صابرة ” فقد قال بعض العلماء أن قولنا في هذه الزيارة : ” قبل أن يخلقكِ ” ظرف و في متعلَّقه احتمالان :
الأول أن يكون متعلِّقاً بقولنا : ” خلقكِ “ أي أنه تعالى خلقكِ في عالم أو عوالم النور قبل أن يخلقكِ في العالم المادي – عالم الطبيعة – ، و بناءً على هذا الاحتمال يثبت أن لها عليها السلام خَلْقَیْنِ فخُلقت في عالم الأنوار ثم في عالم الطبيعة ، و لكن لا يثبت في هذا الاحتمال أنها عليها السلام قد امتُحنت في عالم الأنوار قبل الدنيا ..
و الثاني أن يكون الظرف متعلِّقاً بقولنا : “امتحنك” فيكون المعنى : امتحنكِ قبل أن يخلقكِ في عالم الطبيعة ، فوجدكِ في ذلك العالم صابرة فخلقكِ بعد ذلك في عالم الطبيعة و المادة ، فهي عليها السلام – بناءً على هذا الإحتمال – قد امتُحنت في عالم الأنوار و العالم التمثّلي …
فإذا كان الظرف متعلِّقاً بقولنا : ” خلقكِ ” فمعنى الامتحان و كيفيته معلومان لنا فقد امتُحنت بالتكاليف العظيمة التي لا يحتملها أحد من غير المعصومين بالعصمة الكبرى سلام الله عليهم أجمعين و كذا بأصعب المصائب و ..
و أما إذا كان متعلَّق الظرف هو قولنا : “امتحنك” ليكون الامتحان في عالمٍ غير عالمنا الذي نعيش فيه فلا نعلم بالدقة و التفصيل ماهية هذا الإمتحان و حقيقته و كيفيته ، و لكن أياً كان هذا الإمتحان و بأية كيفية فهو مناسب و متناسب مع ذلك العالم النوري – حيث أن لكل عالم امتحاناً يناسبه و يتناسب معه كما أن لكل إنسان أيضاً امتحاناً يناسبه و يتناسب و شأنه و منزلته و سعته الوجودية ، فللمخلَص – بفتح اللام – إمتحانٌ و للمخلِص – بكسر اللام – بنحو آخر أخفّ و لعامة الناس بأنحاء أخرى على حسب مراتبهم و كمالاتهم و درجات قربهم من الله تعالى …
حقيقة هذا الإمتحان :
هناك احتمالات متعددة في حقيقة هذا الإمتحان في عالم الأنوار ذكر العالم المشار إليه آنفاً احتمالين منها و هما :
١ – يحتمل كون المقصود هو ذلك العهد المأخوذ من بني آدم بعدم عبادة الشيطان بطاعته و هو ما ورد في قوله تعالى : ” أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ “ سورة يس : ٦٠ – ٦١ ، ( أقول : و هذا العهد هو العهد العبودي الذي يبلغ بالإنسان إلى أعلى مراتب الكمال و إلى الهدف و الغاية التي خُلِقَ الإنسان لأجلها و هو القرب العبودي إلى الله تعالى المستفاد من قوله جل و علا : ” و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ” و هو ما يؤدي بالإنسان إلى بلوغ درجة المَثَل الأعلى لله و صيرورته الآية الكبرى له جل و علا فتكون إرادته مظهراً لإرادة الله تعالى فلا يريد إلا ما أراد الله و إذا أراد شيئاً تحقق لا محالة لأن إرادته مظهرٌ و ظهورٌ للإرادة الإلهية و بتعبير آخر : إذا أراد تبين لنا أن الله تعالى قد أراد و إذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون و هذا ما يشير إليه الحديث القدسي المعروف : ” عبدي أطعني تكن مَثَلي أقول للشيء كن فيكون تقول للشيء كن فيكون ” و ما ورد في كتاب مصباح الشريعة المنسوب إلى مولانا الإمام الصادق عليه سلام من قوله : ” العبودية جوهرة كنهها الربوبية ” و في أمثال هذه الأحاديث معارف توحيدية عميقة تخفى على غير أهلها )
٢ – من المحتمل أن يكون المقصود من هذا الإمتحان هو الميثاق الغليظ و العهد المأخوذ من الرعيل الأعلى من الأنبياء أو من جميع الأنبياء على نبينا و آله و عليهم الصلاة و السلام ، و قد أُخِذَ ذلك الميثاق من الزهراء عليها السلام باعتبارها قرينة للرعيل الأعلى من الأنبياء أو لعامة الأنبياء عليهم السلام ( و هذا كلام و بيان ذلك العالم الفاضل المشار إليه و لكننا نعتقد أنها أعلى من جميع الأنبياء السابقين لأدلة مذكورة في محلها و من جملتها آية التطهير الدالة على الطهارة الحصرية لأهل البيت عليهم السلام ، و من المعلوم و كما أشرنا إليه أن الإنسان كلما كان أكمل و في درجة القرب أعلى كان امتحانه أعظم و أشق و بلاؤه و ابتلاؤه و مصائبه أكثر و أشد ..) و هذا العهد هو المستفاد من قوله تعالى : ” وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * ليَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا “ سورة الأحزاب : ٧ – ٨ . فهي عليها السلام قد امتُحنت في عالم أو عوالم النور و امتحانها في هذا العالم الطبيعي العنصري مظهرٌ و ظهورٌ لذلك الإمتحان .. فامتُحنت في هذه الدنيا أيضاً امتحاناً عظيماً و شديداً ..
هذا تمام كلامه رحمه الله تعالى مع تلخيص بعض مواضعه و شرح بعض آخر منه ، و لكن لا تنحصر الإحتمالات بما ذُكر بل هناك احتمالات أخرى في امتحانها في ذلك العالم النوري و هي :
٣ – الإحتمال الثالث هو ما نُسب إلى العلامة الشيخ الجوادي الآملي دام ظله العالي و هو أن فاطمة عليها السلام كانت في تلك النشأة بحالة لو ظهرت – تلك الحالة – بمظهر الدنيا و في هذه النشأة لظهرت بصورة الإمتحان ، و أما حقيقة تلك الحالة فيلزم رد علمها حالياً إلى أهله .. انتهى كلامه دام بقاؤه .
٤ – الإحتمال الرابع هو ما بدا لهذا العبد الراقم لهذه الأسطر ، و هو أن يكون المراد الإمتحان في العلم الإلهي بمعنى أن الله تعالى كان يعلم – من الأزل – أنه سيمتحنها في الدنيا بابتلاءات و امتحانات صعبة و شديدة و أنها ستصبر عليها و ستنال بذلك عليا مراتب الكمال ، فتَفَضَّلَ عليها ربها بالكمالات العليا من بداية خلقها تفضُّلاً منه تعالى عليها فإن العدل يقتضي أن ينال العبد ما وعده الله تعالى بعمله و فوزه و نجاحه في الامتحان الإلهي جل و علا و لكن الفضل يقتضي إعطاء ذلك المقام و المنزلة قبل الإمتحان و الاستحقاق لعلمه تعالى بتحقق ذلك الإستحقاق بالنجاح في الإمتحان ، كما أنه تعالى و لعلمه بأن النبي الأكرم و أهل البيت عليهم السلام سيكونون في أعلى مراتب الطاعة و التقوى في الدنيا لم يؤجل منحهم الكمال المتوقع لهم إلى أن يولدوا و يكبروا و يطيعوا و يبلغوا درجات الإيمان العليا ليفيص عليهم علومه ، بل بتفضله عليهم قد أعطاهم كل العلوم الممكن إعطاؤها من البداية – و إن كان للتكامل أيضاً مجال – كما يستفاد من بعض الروايات ..
فالزهراء عليها آلاف التحية و الثناء ممتحنة في علم الله تعالى قبل أن يخلقها في عالم الطبيعة و كان في علمه جل جلاله أنها صابرة و ستنال بصبرها – إلى جانب إيمانها الصافي و عملها الخالص و خُلُقها الراقي – عليا درجات القرب و الكمال .. و لهذا أصبحت مجرى الفيض الإلهي على الخلق و واسطة الفيوضات الربانية .. و سنشير إلى ذلك لاحقاً بعون الله جل و علا ..
٥ – الإحتمال الخامس هو ما ذكره البعض من أنه من الممكن أن يكون المعنى أن الله تعالى قد أعلمها في العالم النوري و قبل أن يجعلها في قالب هذا البدن المادي في عالم الطبيعة ، قد أعلمها و أخبرها بجميع ما سيجري عليها في الدنيا من مصائب و ابتلاءات فصبرت عليها بعد علمها بها أي أنها صبرت على ما علمت بأنه سيجري عليها و شكرت ربها في جميع مراحل وجودها ، و هذا ثابت في جميع الذوات المقدسة كما يستفاد ذلك من بعض فقرات دعاء الندبة .
هذا تمام كلام هذا القائل ، و أقول : يمكن تشبيه ذلك بإخبار من يريد الذهاب إلى الجهاد بأنه سيحدث في جبهات القتال كذا و كذا فيقال له : قد تُقْتَل و قد تُجْرَح و قد تؤسر و … فهل تستطيع الصبر على كل ذلك فإن قال نعم ذهبوا به إلى جبهات القتال و أعطوه ما يريد ، و الله تعالى قد امتحن الزهراء بهذا الطريق فلم تقل أنها ستصبر فحسب بل وجدها الله تعالى صابرة لذلك الإمتحان ..
و المقطع الذي أشار إليه صاحب هذا الرأي من دعاء الندبة هو هذا المقطع : ” اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك ، الذين استخلصتهم لنفسك و دينك ، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم ، الذي لا زوال له و لا اضمحلال ، بعد أن شرطت عليهم الزهد في زخارف هذه الدنيا الدنية و زبرجها ، فشرطوا لك ذلك ، و علمت منهم الوفاء به . فقبلتهم و قربتهم ، و قدمت لهم الذكر العلي و الثناء الجلي ، و أهبطت عليهم ملائكتك ، و كرمتهم بوحيك ، و رفدتهم بعلمك ، و جعلتهم الذرائع إليك و الوسيلة إلى رضوانك .. ” فقد اشترط الله عليهم الزهد و .. و قبلوا الشرط و علم الله منهم الوفاء به و لهذا قبلهم و قربهم و … و أهبط عليهم الملائكة و .. و جعلهم الوسيلة إلى تحصيل رضوان الله تعالى ..
هذا و المستفاد من ذيل الزيارة أن ولاية الزهراء عليها السلام طهارة للروح و أنها واسطة بين الخلق و بين النبي و الإمام حيث نخاطبها و نقول : ” و زعمنا أنّا لكِ أولياء و مصدقون و صابرون لكل ما أتى به أبوكِ صلى الله عليه و آله و أتى به وصيه ، فإنا نسألكِ إن كنا صدقناكِ إلا ألحقتِنا بتصديقنا لهما لنبشر أنفسنا بأنا قد طهرنا بولايتك ” و هذه الفقرة من الزيارة تدل على عدة أمور منها أن ولاية الرسول و أمير المؤمنين عليهما و آلهما صلوات رب العالمين لا تكتمل إلا بولاية الزهراء عليها السلام – كما أشار إليه بعض العلماء – فكما لم يكتمل الدين إلا بولاية أمير المؤمنين عليه السلام كذلك لا تكتمل ولاية النبي و الولي إلا بولايتها ، و منها أن ولاية الزهراء عليها السلام واسطة و وسيلة للوصول إلى ولاية النبي و الولي عليهما السلام ، و منها أن ولاية الزهراء صلوات الله عليها سبب لطهارة الروح فإننا بحبنا لها و دخولنا في ولايتها سنبعد عن أنفسنا المعاصي و نزيل ظلمات الذنوب و الرذائل عن قلوبنا لأن الحب و الولاية يدعوان إلى طاعة رب العالمين و لا يصدقان ما لم يكن المدعي للحب و الولاية مطيعاً لرب العالمين ، و بذلك نكون قد زكينا أنفسنا و التزكية سبب للفلاح : ” قد أفلح من زكاها ” و الفلاح هو الحياة بلا موت ، و الغنى بلا فقر ، و العز بلا ذل ، و العلم بلا جهل ، و الصحة بلا مرض – و طبعاً لا يتحقق ذلك إلا يوم القيامة و في الجنة –
و النتيجة أن ولايتها طهارة للقلب و الروح ، و الطهارة و التزكية سبب لدخول نور المعرفة بالله و نبيه و وليه في القلب ، و المعرفة بالله و أنبيائه و أوليائه عليهم السلام سبب للإلتحاق بالنبي و الإمام و أن يصبح العارف المتولي لهم منهم كما أصبح سلمان من أهل البيت عليهم السلام فولاية الزهراء سبب للدخول في الولاية الإلهية المتمثلة في الولاية النبوية و الولوية ، مضافاً إلى أن طهارة الروح سبب لنزول الفيوضات الربانية المادية و المعنوية و معنى ذلك أن الزهراء عليها السلام واسطة الفيض و ولايتها مدرجة الكمال و مرقاة القرب العبودي إلى الله العظيم .. جعلنا الله و إياكم من الفائزين بولايتها و ولاية أبيها و بعلها و بنيها عليهم جميعاً صلوات الله الملك المنان …
أيوب الجعفري
ليلة الأحد ٢٠ جمادى الآخرة ١٤٣٨ هـ
الموافق ۱۹ / ۳ / ۲۰۱۷ م