بسم الله الرحمن الرحيم
وردني ملف صوتي يستدل فيه المتحدث – في مناظرة له مع بعض عوام الناس و قد تكون مسرحية لإظهار قوة استدلالهم و عدم قدرة الطرف الآخر على الرد ، و على أية حال يستدل – على عدم صحة الوصية لعلي عليه السلام بالخلافة و يقول أن هناك أربعة موارد يقول القرآن فيها أن الله مع بعض الأشخاص كموسى و هارون و من جملتها آية الغار حيث يقول القرآن حكاية عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مخاطباً صاحبه في الغار : ” لا تحزن إن الله معنا ” و لا يمكن أن تكون الآية منسوخة لأن النسخ في الأحكام لا الأخبار ، و الآية ناظرة إلى أبي بكر بالنقل القطعي كما يقول الطبطبائي في الميزان .. فلو كان أبو بكر قد انقلب على وصية رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بشأن خلافة علي عليه السلام فمعناه أن الله مع الظالمين و الفاسقين و المرتدين..
و النتيجة أنه إما أن نكفر بالآية أو ننكر الوصية و لا يمكن إنكار الآية و الكفر بها فيلزم إنكار الوصية و هو موافق لقوله تعالى : ” ما كنت بدعاً من الرسل ” بمعنى أنه صلوات الله عليه ليس مبتدعاً و لا يأتي بشيء جديد و كل ما فعله الأنبياء فهو يفعله لا غير ، و نعلم أن الأنبياء لم يوصوا لمن بعدهم – لا موسى و لا إبراهيم و لا آدم و لا .. – فيلزم أن لا يكون النبي صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً قد أوصى بالخلافة و إلا لكان بدعاً من الرسل قد جعل الخلافة كنظام كسرى يوصي كل واحد لمن بعده من أولاده ،
فالخلل في فهم الروايات لأن أهم رواية يستدل بها الشيعة هي رواية الغدير و في الغدير لم يكن معه إلا أصحابه الذين كانوا معه في المدينة و أما أهل مكة و الطائف و اليمن فلم يكونوا معه ، و أما ما يقال من أنه كان معه مأة و عشرون ألفاً من المسلمين فليس بصريح لأن هذا العدد كان في حجة الوداع و ليس في الغدير و القصة أن علياً عليه السلام كان في اليمن فالتحق بالنبي بعد الحج و لم يكن مع النبي و قد كثر الشكاة عليه لأنه أخذ شيئاً من الغنائم لنفسه فأجابهم النبي بأن حصة علي من خمس الغنائم أكثر مما أخذ ثم قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله ، فالنصر قبال الخذلان كما أن الموالاة قبال المعاداة و المعنى المقابل للمعاداة هو المحبة فإذن النبي قد دعا إلى حب علي لا إلى خلافته ..
* و أما حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، فهو دليل على عدم الإستخلاف لا الإستخلاف لأن هارون قد مات قبل موسى ، و من استلم الخلافة بعده هو يوشع لا هارون و لو كان المقصود الإستخلاف لقال أنت مني بمنزلة يوشع لا هارون ..
* و من جهة أخرى كيف يمكن أن يستجيب الناس لأبي بكر في استخلاف عمر و لا يستجيبوا لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في استخلاف علي عليه السلام ؟ و كيف قاتل علي لأجل الخلافة التي استلمها من الناس بعد عثمان و لم يقاتل لأجل الخلافة التي أعطاه الرسول إياها ؟
هذا كل ما ورد في حديث المتحدث المذكور ..
و أما الجواب فهو أن هذا الكلام الذي يتصور المتحدث أنه كلام علمي ، خالٍ عن الإستدلال و البرهان الصحيح لأنه يشتمل على عدة مغالطات و سنشير إليها ضمن النقاط التالية :
* مُدَّعى المتحدث هو أن المعية لا تكون إلا للحفظ – و لم يقل أن المعية للنصرة مع أن استدلاله متوقف على معية النصرة لا الحفظ و لكن لنفترض أنه يقصد معية النصرة – فنقول : أن الواقع يختلف عن مدعاه و لا تنحصر المعية بالمعية للنصرة كما أنه لو كانت المعية في مورد ما بمعنى النصرة – أو قلنا أن مصداقها في ذلك المورد هو النصرة – لم يدل ذلك على دوامها ، مضافاً إلى أن الآية التي يستشهد بها لا تدل على العموم و أضف إليه أن ذيل الآية بل و صدرها أيضاً تنفيان نصرة من كان مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بيان ذلك :
لا ريب أن الله تعالى مع جميع الخلق و لا يخرج أحد أو شيء عن هذه المعية سواء كان من ذوي العقول أو لم يكن و في ذوي العقول سواء كان إنساناً أو من سائر المخلوقات ، و إذا كان إنساناً سواء كان من المسلمين و المؤمنين أم من غيرهم فهو تعالى مع جميع خلقه بلا استثناء و لكن قد تكون المعية معية قيومية – و هذه المعية لله تعالى شامل لجميع خلقه فلا يوجد في عالم الإمكان من يكون موجوداً بذاته غنياً عن الله تعالى في أصل وجوده و في بقائه و استمرار وجوده و .. – و قد تكون المعية معية الإحاطة و الحضور العلمي أو معية السيطرة أو معية الرقابة على الأعمال أو … و هذه الأقسام أو المصاديق من المعية أيضاً لا تختص بموجود دون آخر ، و قوله تعالى : ” هو معكم أينما كنتم “ ناظر إلى المعية القيومية و معية الإحاطة بل يمكن أن يكون ناظراً إلى جميع الأقسام المذكورة كما أن قوله تعالى : ” و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ” دال على هذه المعيات المختلفة .. نعم أحياناً تكون المعية للنصرة و الحفظ و لكن لا تنحصر بذلك كما ادعاه في كلامه … فلا يمكن أن تحمل المعية على الحفظ و النصرة في جميع الموارد – و هي لا تنحصر بأربعة أشخاص كما ادعى و قال أن إبراهيم عليه السلام أيضاً لم يذكر القرآن أن الله معه …
* و أما في مورد الآية التي يستشهد بها – و هي آية الغار – فنقول صحيح أن من جملة مصاديق المعية فيها هي معية الحفظ و النصرة و لكن الحفظ ليس بمعنى كون المحفوظ المذكور مؤيَّدا مسدَّداً دائماً و أبداً من قبل الله تعالى ، فمن الذي قال أن هذه المعية دائمية ؟ فإذا كان الله تعالى مع أحد لنصرته في وقت ما لأجل ظروف خاصة و لنفترض أنه في تلك الظروف كان في حالة الجهاد في سبيل الله تعالى فهذا لا يعني أن الله تعالى معه لنصرته دائماً و في جميع أيام حياته سواء كان في حالة الجهاد أم لم يكن و سواء بقي على الحق أم لم يبق و سواء كان ناصراً لدينه أم خالف الدين و .. فغير خافٍ على أحد أن الله تعالى إنما ينصر رسله و من هو على الحق ما دام على الحق و من ينصر دينه ما دام ينصره : ” إن تنصروا الله ينصركم ” فإذا كان الله مع أحد لنصرته في ظرف كونه مؤمناً ناصراً لدينه لا يدل على كونه تعالى معه لنصرته في ظرف خروجه عن الحق و عليه أيضاً ، بل لا يمكن أن يكون معه لنصرته في هذا الظرف و إن أثبتنا كونه معه في ذلك الظرف ..
* أضف إلى ذلك أن ذيل الآية تدل على أن الله تعالى إنما نصر رسوله صلى الله عليه و آله و سلم دون من معه و لهذا قال تعالى : ” فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها ” فالآية تقول أنه تعالى أنزل السكينة على النبي و أيده بجنود لم تروها فلا يمكنكم الإستدلال بالآية على كون صاحبه منصوراً من قبل الله تعالى ..
* و من جهة أخرى هذه المعية معية النصرة ، و لكن نصرة من ؟ من المعلوم أن الله تعالى في هذه الآية بصدد بيان أنه جل جلاله ينصر رسوله لا غيره لأن المشركين كانوا قد تآمروا عليه صلى الله عليه و آله و سلم لقتله فلم يجدوه في بيته و وجدوا علياً عليه السلام مكانه و لم يقتلوا علياً صلوات الله عليه لأنهم كانوا يريدون إخماد الرسالة المحمدية صلى الله عليه و آله و سلم بقتل النبي نفسه و لم يكن لهم هدف سوى ذلك و لهذا لم يقتلوا علياً عليه السلام مع أنه كان من أقرب المقربين لدى النبي صلى الله عليه وآله بلا ريب ، كما أنهم لم يكونوا يبحثون عن أحد سواه بعد أن لم يجدوه في بيته و على فراشه ، فمن كان الله بصدد نصرته هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا غيره و لهذا قال في بداية الآية : ” إلا تنصروه فقد نصره الله .. ” و لم يقل : إلا تنصروهما فقد نصرهما الله ، أو : إلا تنصروه فقد نصره الله و صاحبَه ، أو ما شابه ذلك ..
و أما قوله تعالى حكاية عن الرسول مخاطباً صاحبه في الغار : ” إن الله معنا ” فلا يدل على أنه معهما لنصرتهما لأن الهدف هو نصرة النبي و حفظه كما ذكر ذلك في صدر الآية و لكن نصرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حفظه سيكون إنقاذاً لصاحبه أيضاً لكونه مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإذا نصر الله نبيه و حفظه صلى الله عليه و آله و سلم فنجّاه من أيدي المشركين فقد أنقذ صاحبه أيضاً لأنه كان معه و لم يكن في محل آخر ، مضافاً إلى أن النهي عن الحزن يستوجب ذكر الجمع – معنا – ليمنعه عن الخوف و الحزن الموجب لسماع صوته من قبل المشركين و المؤدي إلى العثور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. ( و أما ما قاله من أن الحزن ليس أمراً سيئاً فإن يعقوب النبي عليه السلام أيضاً قد حزن حتى ابيضت عيناه ، فهو قياس مع الفارق فإن حزن يعقوب كان على نبي من أنبياء الله تعالى و غيابه عنه و أما حزن صاحب النبي كان على نفسه للخوف من العثور عليه ، مضافاً إلى أنه لو كان حزناً إيجابياً و أمراً حسناً لما كان لنهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عنه وجهٌ … فلا يمكن النظر إلى لفظ الحزن و الحكم عليه بالحسن أو القبح في جميع الموارد كما أن البكاء إذا كان من خشية الله جل و علا كان حسناً و إذا كان للدنيا كان مذموماً و ..
* و من جهة ثالثة : هدف المتحدث إثبات أن الله كان مع الخليفة و أن يثبت بذلك أن الله قد نصره و حفظه و الله لا يحفظ و لا ينصر الظالمين فلو كان الخليفة قد انقلب على وصية الرسول لم يكن الله لينصره و يحفظه فإذا ثبت أنه قد نصره ثبت أنه لم تكن هناك وصية لينقلب عليها ، فنقول : أولاً قد ثبت بما سبق أن النصرة في وقت و لظروف خاصة لا يدل على الإستمرار و ثانياً النصرة كانت للنبي صلى الله عليه و آله وسلم و لم تكن شاملة لمن معه إلا من جهة كونه مصاحباً للنبي فلم يكن بدٌّ من انقاذه بنصرة النبي صلوات الله عليه و آله و لهذا خص الله نصرته في بداية الآية بالنبي و ذكر في النهاية أيضاً أنه نصر نبيه دون غيره ، و ثالثاً لا يمكن إثبات نصرة الله تعالى لمن لم يكن مؤمناً إلى ذلك الوقت و إن كان مسلماً بدلالة نفس الآية فإن الإيمان يستلزم نزول السكينة على قلب المؤمن و هي لم تنزل على غير النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الغار بصريح الآية حيث جاء بالضمير المفرد الراجع إلى النبي من بداية الآية إلى نهايتها و ذكر أن السكينة نزلت عليه صلوات الله عليه و آله دون من سواه حيث قال عز و جل : ” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” و قد قال تعالى في آيات أخرى أن الله ينزل السكينة على المؤمنين – كما في قوله جل و علا : ” هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ” – فإذا كان هناك من يحتاج إليها و كان محزوناً خائفاً قد نهاه النبي عن الحزن و مع ذلك لم تنزل عليه السكينة بل نزلت على النبي مع أنه صلوات الله عليه و آله لم يكن يخاف من شيء لأنه كان يعلم أن الله معه ، دل بكل وضوح على أن الإيمان لم يدخل بعدُ في قلب من كان خائفاً و لم تنزل عليه السكينة و إلا لنزلت عليه لأنه في أمسّ الحاجة إليها ..
* و النتيجة أنه لا يدور الأمر بين إنكار الآية و إنكار الوصية حتى يقال بأن الآية لا يمكن إنكارها و الكفر بها فيبقى إنكار الوصية – الوصية بولاية أمير المؤمنين و خلافته عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – فإن الآية لا تدل على نصرة صاحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الغار بل هي بصدد بيان حفظ و نصرة الله لنبيه صلوات الله عليه و آله ، و حتى إذا كانت بصدد حفظ و نصرة صاحبه أيضاً لم تكن هذه المعية ” معية الحفظ و النصرة ” دائمية بل في ظرف ملاحقة الكفار للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فإذاً نؤمن بالآية و الوصية معاً إذ لا منافاة بينهما حتى يقال بأنه يلزم إما الإيمان بالآية أو الوصية و لا يمكن الجمع بينهما ، فقد تبين بكل جلاء أنه يمكن بل يلزم الجمع بينهما و أن عدم إمكان الجمع منوط بالتفسير الباطل الذي افترض صحته و هو من أصدق مصاديق التفسير بالرأي المنهيّ عنه في الروايات بل و في إشارات بعض الآيات ، كما أنه ارتكب ذلك في آية أخرى أيضاً ففسّرها برأيه و حمّل الآية ما لا تحتمله و هذا ما نشير إليه في النقطة التالية فنقول :
* استشهد المتحدث لإثبات عدم الوصية بقوله تعالى : ” ما كنت بدعاً من الرسل ” و فسر البدع بالمبتدع و من يأتي بالجديد ثم طبّق الجديد على الوصية و قال أن الأنبياء السابقين لم يوصوا فيلزم أن لا يوصي النبي صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً لأنه ليس بدعاً من الرسل و لا يأتي بجديد ، فنقول أولاً : لو كان معنى الآية ما ذكره للزم أن لا يأتي النبي بشيء جديد أبداً لا في الأحكام و لا في الأمور المعرفية مع أننا نعلم إجمالاً بوجود كثير من المعارف التي لم تكن موجودة في الأديان السابقة بل حتى المسالك الأخلاقية كانت في الأديان السابقة منحصرة في مسلكين فجاء الإسلام بمسلك أخلاقي جديد مبتنٍ على التوحيد الخالص لم يكن هذا المسلك موجوداً أو لم نعهد وجوده في الأديان السماوية السابقة على الإسلام كما تطرق له العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف في بعض أبحاثه التفسيرية ، ناهيك عن الأحكام حيث أن كثيراً منها مختلفة عما ورد في الكتب السماوية السابقة أو أنها ناسخة لها ، و أساساً لو كان المقصود أن النبي لا يأتي بشيء جديد لما كان لتعدد الشرائع معنى معقول مع أن القرآن ينص على تعددها كما في سورة والشورى حيث قال عز من قائل : ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ” فقسّم الشرائع إلى خمس لحِکَمٍ متعددة منها تكامل البشرية من الناحية العقلية و العلمية فيلزم في كل عصر أن ينزل وحي و يأتي دين مناسب لذلك العصر و تطوره العلمي و العقلي إلى أن يأتي دور النبوة الختمية التي تستلزم نزول وحي متكامل في جميع الجهات و مناسب لجميع العصور مع جميع تطوراتها العلمية و العقلية و هذا من معجزات هذا الدين و هذا الوحي ، و قد يكون هذا من أسرار و أسباب اختلاف التعبير عن الشرائع الخمس في الآية المشار إليها حيث عَدّت سائر الشرائع وصايا إلهية لهؤلاء الأنبياء بينما عدّت الشريعة الإسلامية وحياً إلهياً لا مجرد وصية مع سائر ما في الآية من الفروق في التعبير عن الشرائع الخمس ، فإذن تكامل العقول و تطور العلوم من جملة أسباب اختلاف الأديان كما أن من جملة الأسباب الإبتلاء و الامتحان حيث قال تعالى في سورة المائدة الآية ٤٨ : “… لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ …” ، فالإختلاف في الرسالات الإلهية متحقق لا محالة و الإختلاف يعني أن هناك جديداً فكل دين يأتي ببعض ما كان كما يأتي ببعض الأحكام و الشرائع الجديدة مضافاً إلى تطورات في المعارف الإلهية العميقة – و طبعاً لا يختلف عن سائر الأديان في أصول و أمهات العقائد و الأحكام – ..
فلا يمكن أن يكون المقصود من عدم كونه صلى الله عليه و آله و سلم بدعاً من الرسل أنه لا يأتي بشيء جديد ، بل المقصود إما أنه صلوات الله عليه و آله لم يكن أول رسول بعثه الله تعالى بل قد كانت قبله رسل قد بعثهم الله تعالى – و هذا ما ذكره جل مفسري أهل السنة إن لم نقل كلهم و قد نسبه بعضهم إلى ابن عباس و بعضهم إلى مجاهد و .. – و إما أن يكون المعنى ما قوّاه العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف حيث قال : ” فالمعنى لست أخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة و في قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم فيّ من آثار البشرية ما فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي و بهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم : (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) الفرقان : ٨ ” – الميزان ج ١٨ ص ١٩٠ ، و بناءً على هذين المعنيين – و لا سيما بناءً على المعنى الأول الذي يذكره عامة مفسري أهل السنة و كذا سائر علمائهم كابن حجر في كتابه تغليق التعليق على صحيح البخاري ج ٤ ص ٣١١ – ليس المقصود أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يأتي بشيء جديد في الأحكام و المعارف ، كما أنني أحتمل معنى آخر في الآية يمكن استفادتها من الآية السابقة و ذيل نفس هذه الآية أتركه لمحل آخر و لكن إجماله أنه يتبع الوحي فقط و لا يأتي بشيء من نفسه كما كان الأنبياء السابقون أيضاً كذلك ، فلا علاقة لهذا المعنى أيضاً بالإتيان بشيء جديد أو عدمه ..
هذا كله أولاً ، و أما ثانياً فلو افترضنا أن المقصود أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يأتي بشيء جديد فمن الذي قال أن الأنبياء السابقين لم يوصوا ؟ و قد ورد و ثبت في محله أن وصي آدم ابنه شيث عليهما السلام و وصي نوح ابنه سام عليهما السلام و وصي إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام و وصي إسماعيل أخوه إسحاق عليهما السلام و وصي موسى – على رأي فإن هناك رأياً آخر سنشير إليه فيما بعد – يوشع بن نون عليهما السلام و وصي عيسى شمعون الصفا عليهما السلام ، هذا و قد ورد في شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج ١ ص ٩٩ عن أنس قال : ” قلنا لسلمان : سل النبي من وصيه؟ فقال له سلمان : يا رسول الله من وصيك ، قال : يا سلمان من كان وصي موسى ، فقال : يوشع بن نون . قال : فإن وصيي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعودي علي بن أبي طالب . و رواه المحقق في هامشه عن مصادر ، ثم قال : و رواه الحافظ عبد الغني بن سعيد في كتاب المؤتلف والمختلف ص ١٠٣، بإسناد ثالث عن سلمان . . ” فهذه الرواية – كرواية بريدة التي ستأتي الإشارة إليها و التي يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيها : لكل نبي وصي – تدل على وجود الوصاية بالخلافة في الأنبياء السابقين مضافاً إلى دلالتها على كون علي عليه السلام هو وصي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هذا ما سنتطرق له في النقاط التالية بعون المعبود جل و علا ..
* و أما ما قاله هذا المتحدث بشأن غدير خم من أنه لم يكن في غدير خم إلا صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و لم يكونوا مأة و عشرين ألف و أن هذا العدد كانوا في حجة الوداع لا غدير خم فهو من العجائب ، و هل كانت قضية و قصة الغدير إلا بعد حجة الوداع كما اتفق عليه أصحاب السِيَر ، هذا مضافاً إلى أنه لا مشكلة في كون ذلك في حجة الوداع أم في وقت آخر كما أنه إذا ثبت صدور هذا الحديث – و هو مقطوع به – لا يختلف بين ما إذا كان العدد مأة و عشرين ألفاً أم أقل لا سيما مع أخذ كون بيعة أبي بكر للخلافة من قِبَل بعض الصحابة لا جميعهم فكيف بجميع المسلمين آنذاك ، بعين الاعتبار ، فإذا كانت البيعة من قبل بعض الصحابة كافية لإثبات خلافته فمن باب الأولى يلزم أن يكون حضور الصحابة – حسب مدعى هذا المتحدث – مع النبي كافياً في إثبات الخلافة إذا كان الحديث دالاً عليه كما سيأتي .. فإذن المهم صدور الحديث و دلالته على المطلوب لا محل و وقت صدوره و عدد المستمعين لخطاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله – مع أننا قلنا أنه كان في منصرفه من حجة الوداع و كان العدد مأة و عشرين ألف حاجّ – و طبعاً الروايات و كتب التاريخ و السِيَر مختلفة في العدد بين ثمانين ألف حاجّ إلى مأة و عشرين ألفاً ..
* و يبقى هنا أمران الأول ما ادعاه من عدم دلالة الحديث على الخلافة و الوصية بدليل المقابلة بين قوله صلى الله عليه و آله و سلم : ” اللهم والِ من والاه ” و قوله : ” عادِ من عاداه ” ، و الثاني عدم انحصار الدليل بحديث الغدير بل هناك أحاديث كثيرة تدل على المطلوب و منها روايات رواها أهل السنة أنفسهم ، مضافاً إلى بيان ملاك انتخاب الخليفة فنقول :
أما قوله بأن الولاية المذكورة بمعنى المحبة و قد دعا النبي صلى الله عليه وآله إلى حب علي فمضافاً إلى عدم معقوليته في نفسه بأن يوقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم تلك الحشود من الناس و يدعو من أخذ طريقه إلى بلده للعودة لسماع كلامه صلوات الله عليه و آله ثم يقول لهم عليكم بحب علي ثم يدعو لمن أحبه و على من يبغضه مع ورود ذلك – أي لزوم حب المؤمن – في القرآن الكريم لعامة المؤمنين و أنهم إخوة و أن بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و .. فلا يعقل مع وجود هذه الآيات و مع علم الجميع بأن علياً عليه السلام هو أول المؤمنين و أن كل آية خاطب الله تعالى فيها المؤمنين كان علي أولهم و رئيسهم كما عن ابن عباس ، و مع التحذير بأن عدم تبليغ ذلك بمنزلة عدم تبليغ الرسالة من الأساس ” و إن لم تفعل فما بلغت رسالته ” و مع الإخبار بيأس الكفار من الدين الإسلامي و بأن الدين قد اكتمل بعد ما بلغ النبي هذا الأمر : ” اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ” و .. مع كل هذا لا يعقل أن يأتي و يجمع الناس و يقول أحِبّوا علياً ، فأي عقل يقبل هذا الأمر الذي لا يصدر من سذج الناس فكيف بأعظم النبيين على الإطلاق ..
هذا، و مضافاً إلى كل ذلك ، ليس الدليل على الوصية بالخلافة و أن الولاية هنا بمعنى الحكم و الخلافة ، هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم : ” اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه ” حتى يقال بأن المقصود المحبة لعلي بقرينة المقابلة بين الموالاة و المعاداة – مع أنه يمكن أن يدعو النبي صلى الله عليه و آله لمن يؤمن بولاية أمير المؤمنين و خلافته عليه السلام و يدعو على من يعاديه و لكن مع تسليم أن الموالاة هنا بمعنى الحب نقول أن الدليل ليس هذا الدعاء – بل الدليل قوله صلى الله عليه و آله و سلم قبل ذلك : “ ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه … ” و قد ورد هذا النص في كثير من مصادر أهل السنة كمسند أحمد و سنن ابن ماجة و فضائل الصحابة للنسائي و المستدرك للحاكم النيسابوري و مجمع الزوائد للهيثمي و … – و في بعضها أن بريدة الأسلمي قال : ” غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة فقدمت على رسول الله صلى الله عليه و آله فذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و آله يتغير فقال يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و ذكر الحديث ” مستدرك الحاكم النيسابوري ج ٣ ص ١١٠ ، يقول النيسابوري بعد نقل الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، و في ص ١٠٩ يذكر قصة الغدير و قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم : ” أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و آله من كنت مولاه فعلي مولاه ” ، و ينقل أحمد بن حنبل في مسنده ج ١ ص ١١٩ مناشدة علي عليه السلام و هذا نصها : ” عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهدت عليا رضي الله عنه في الرحبة ينشد الناس : أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد ، قال عبد الرحمن فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم فقالوا نشهد انا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم غدير خم ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم فقلنا بلى يا رسول الله قال فمن كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه ” ..
فمحل الإستشهاد هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَرَّعَ ولاية علي عليه السلام على ولايته التي ذكرها بلفظ الأولولية و من المعلوم أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ” ألست أولى بكم من أنفسكم ” بمعنى الولاية على الأنفس و بطريق أولى على الأموال و لا تتحقق الولاية المذكورة إلا بكون المراد منها ولاية الحُكم لا ولاية الحب ، ثم فرّع عليه بقوله فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه فإذا كانت ولاية الرسول ولاية الحكم لزم أن تكون الولاية المتفرعة عليها لعلي عليه السلام أيضاً ولاية الحكم إذا لا ارتباط بين ولايته صلى الله عليه و آله و سلم بمعنى ولاية الحكم و بين حب علي حتى يُفَرِّعَه عليها .. و أما قوله صلى الله عليه و آله و سلم : ” اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه .. ” فهو دعاء لعلي عليه السلام بعد تنصيبه للخلافة و ولاية الحكم بأن يحب الله و ينصر من يحب و ينصر علياً و يعادي من عاداه ، إن لم نقل أنه دعاء له بأن يوالي من يؤمن بولاية أمير المؤمنين عليه السلام و يعادي من يعاديه .. ( و يبدو أن هذا المتحدث و أضرابه الذين يحملون كلامه صلوات الله عليه و آله على حب علي و أن النبي دعا بحب علي و أن يحب الله محبه و يعادي من عاداه ، قد غفلوا عن أن الحمل على هذا المعنى يستلزم القول بكون أعداء علي عليه السلام الذين حاربوه في حرب الجمل و صفين أعداء الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه ، و هم لا يلتزمون بذلك لأنهم من الصحابة و هم يقولون بعدالة الصحابة و عدم فسقهم فكيف بكونهم أعداء لله .. )
هذا ، و من المعلوم جلياً أن أدلة الإمامة و خلافة أمير المؤمنين عليه السلام و الأئمة من ولده عليهم السلام لا تنحصر بحديث الغدير بل هناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك و قد ورد الكثير منها في مصادر أهل السنة ، مضافاً إلى أدلة أخرى تدل بطريق غير مباشر على إمامته و خلافته لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، من جملتها حديث المنزلة التي تدل بكل وضوح على أن علياً هو خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في غيابه و بعد موته و أما كون هارون قد مات قبل موسى فلا يدل على أن النبي لم يكن يريد الخلافة – كما ادعى المتحدث – فإن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يستثنِ إلا النبوة و من المعلوم أن هارون كانت له مناصب متعددة قد ذكرها القرآن الكريم حيث طلب موسى من الله تعالى : ” اجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي ، اشدد به أزري ، و أشركه في أمري ” فاستجاب له الله تعالى فقال : ” قد أوتيت سؤلك يا موسى ” و قال موسى في آية أخرى مخاطباً أخاه هارون : ” اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين المفسدين ” فإذا لم يكن المستثنى سوى النبوة لزم ثبوت باقي المناصب و المنازل لعلي عليه السلام و منها الخلافة ، و أما موت هارون قبل موسى فلا يقدح في دلالة الحديث لأن الحديث دال على أن من جملة مناصب هارون كانت خلافته لموسى و أما موته فهو أمر خارج عن الموضوع فلو كان هارون قد بقي حياً لما عزله موسى بل – و على حد تعبير أبي المجد الحلبي و غيره من الأعلام – : ” لاستحال عزله من الخلافة ، و لمّا بقي علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثبت له ما أثبته و اختص بما خصه به “ – إشارة السبق ص ٥٤ – مضافاً إلى أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أراد إثبات جميع منازل هارون غير النبوة لعلي عليه السلام و لم تكن تلك المنازل ثابتة ليوشع و إنما ثبتت له الخلافة فقط فلزم أن يجعل منزلته منه بمنزلة هارون من موسى ، و أضف إليه أن هناك قولاً بأن يوشع لم يكن خليفة لموسى بل كان نبياً يوحى إليه بعد موسى و الخلافة كانت في أولاد هارون و هناك أجوبة أدق نغض الطرف عنها …
و أما الأدلة و الروايات الأخرى و التي يرويها أهل السنة أيضاً فكثيرة ، منها ما رواه بريدة – و هو من انتقص عليا عند النبي بعد رجوعه من اليمن – عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ” لكل نبيٍ وصيٌ و وارثٌ و إن علياً وصيي و وارثي “ يقول الطبري بعد نقل هذا الحديث في باب اختصاصه بالوصاية و الإرث : ” و إن صح هذا الحديث فالتوريث محمول على ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال علي : يا رسول الله ما أرِثُ منك ، قال ما يرث النبيون بعضهم من بعض : كتاب الله و سنة نبيه . و الوصية محمولة على ما رواه أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وصيي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو … ” ذخائز العقبى للطبري ص ٧١ ، فنقول تفسيره لكون علي وارثاً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يثبت مدعانا فإنه أولاً ذكر هذا الحديث في باب اختصاص علي عليه السلام بالوصاية و الإرث فما ورد في الباب مختص بعلي عليه السلام فهو الوارث و الوصي لا غيره و ثانياً يثبت في الحديث الأول الذي فسره بهذا الحديث أن لكل نبي وصياً ، فيبطل مدعى المتحدث الذي كان يفسر قوله تعالى ما كنت بدعاً من الرسل بأن النبي لا يأتي بشيء جديد غير ما جاء به الأنبياء و الأنبياء لم يوصوا لمن بعدهم ، و ثالثاً إذا كان علي عليه السلام هو الوارث للكتاب و السنة و قد قلت – أيها الطبري – أن الوصاية و الإرث من خصائص علي عليه السلام فهذا يعني أن الوارث الوحيد للكتاب و السنة هو علي عليه السلام لا غير و إذا كان هو الوارث لهما لا غيره فمن الضروري عقلاً و عقلائياً أن يكون هو الحاكم بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لأنه هو الوارث للكتاب و السنة الذين يجب أن يكونا مصدر الحكم في الدولة الإسلامية كما أنه لا يجوز أخذ الدين من غير علي عليه السلام لأن غيره لا يعرفون الكتاب و السنة لأنكم أقررتم أن علياً هو الوارث للكتاب و السنة ، فكيف يحكم من لا علم له بالكتاب و السنة و كيف يأخذ الناس دينهم ممن لم يرث الكتاب و السنة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟ !
و من جملة ما رواه أهل السنة هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن علي عليه السلام : ” إن علياً مني و أنا منه و هو ولي كل مؤمن بعدي ” – مسند أحمد ج ٤ ص ٤٣٨ و راجع مستدرك الحاكم النيسابوري ج ٣ ص ١٣٤ و مجمع الزوائد للهيثمي ج ٩ ص ١٢٠ و … و قد رواه البعض عن صحيح البخاري أيضاً ، و في لفظ آخر : ” … و هو وليكم بعدي ” كما في مسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٦ و مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٨ و راجع السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٣٠ و خصائص أمير المؤمنين ع للنسائي أيضاً ص ٦٤ و . .
و من المعلوم أن الولي في هذه الرواية و أمثالها لا يمكن حمله على ولاية الحب – فمضافاً إلى عدم حُسن هذا الإستعمال في حد ذاته لأن الولي صفة مشبهة على وزن فعيل و هو إما بمعنى الفاعل أو المفعول فإذا كان بمعنى الفاعل يكون بمعنى الوالي و لا يستعمل الوالي بمعنى المُحِبّ بل بمعنى الحاكم فيدل على مطلوبنا لا مطلوبهم ، و إذا كان بمعنى المفعول كان معنى الحديث : عليٌّ محبوبُ كل مؤمن بعدي و هو تعبير غير بليغ لإيصال المقصود إلى المخاطب و لكن لو سلّمنا صحة الإستعمال و بلاغته ، نقول أنه لا يمكن أن يكون هذا المعنى هو المقصود و ذلك : – لأن ولاية الحب قد ورد في القرآن لجميع المؤمنين كما سبق ، هذا أولاً و أما ثانياً فحب علي عليه السلام كان مفروضاً عليهم حتى في زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم – بل قد رووا أن علياً حبه إيمان و بغضه نفاق و كانوا يعرفون المنافقين ببغضهم لعلي عليه السلام – فلا معنى لتقييده بما بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، فلولا كون المقصود ولاية الحكم لما صح تقييدها بما بعده صلى الله عليه و آله و سلم كما لا يخفى … ، فإذا كان كذلك نقول : هل كان الذين تولوا الحكم و تقمصوا الخلافة قبل أمير المؤمنين عليه السلام من المؤمنين أم لا فإن كانوا منهم كان علي عليه السلام ولياً و حاكماً عليهم لا العكس ، و إن لم يكونوا منهم لم يحق لهم تولي خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله فغير المؤمن لم يُجعَل له ولاية الحبّ أيضاً فكيف بولاية الحكم …
و الأحاديث التي يمكن الإستدلال بها لإثبات الوصية لعلي عليه السلام و أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المروية من طرق أهل السنة كثيرة جداً نقلنا لكم جانباً منها من باب المثال فقط فلا نطيل الكلام أكثر من هذا …
و أما قول المتحدث من أنه كيف يمكن أن يستجيب الناس لأبي بكر في استخلاف عمر و لا يستجيبوا لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في استخلاف علي عليه السلام ؟ فهو كلام فارغ و خال عن الدليل و مجرد استبعادٍ لا يغني من الحق شيئاً كما أن استبعاد المشركين للمعاد و الحياة بعد الموت و في القيامة في مثل قولهم : ” ذلك رَجْعٌ بعيد ” ليس دليلاً على عدم وجود حياة أخرى و عدم الرجوع إلى الله تعالى ، هذا مضافاً إلى أن هؤلاء الذين لم يستجيبوا لم يكونوا معصومين بل غاية ما يمكن أن يقال بحقهم هو كونهم عدولاً كما يدّعون و العدالة لا تنافي الخطأ و الإشتباه في تشخيص التكليف و العمل به و لهذا نجدهم كثيراً ما يقولون بأن الصحابي الفلاني اجتهد و أخطأ مع أن المورد لا يحتمل الإجتهاد مثل الخروج على خليفة المسلمين بالإجماع و هو أمير المؤمنين عليه السلام – و توضيحه يتطلب مجالاً آخر – فنقول أنهم مع وجود هذه الأدلة على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مباشرةً لم يقبلوا و لم يستجيبوا لذلك و في أحسن الأحوال إذا أردنا أن نُحْسِنَ الظن بهم فنحمل فعلهم هذا على المحامل الحسنة نقول أنه خطأ منهم لا أن نرفع اليد عن الأدلة القاطعة الواضحة لأجل تصرف و عمل من ليس معصوماً و لا يعدّ فعله و لا قوله حجةً شرعية ، و لو كان حجة – و قالوا أننا نرى حجية فعلهم – تعارض مع تلك الأدلة و في مقام الترجيح يلزم تقديم أدلة الخلافة و الولاية على هذا الفعل الذي لا لسان له لكثرة تلك الأدلة و وضوحها و كونها أدلة لفظية لا يمكن رفع اليد عنها لأجل فعل هؤلاء ..
و أما قوله بأنه كيف قاتل علي لأجل الخلافة التي استلمها من الناس بعد عثمان و لم يقاتل لأجل الخلافة التي أعطاه الرسول إياها ؟ فالجواب واضح جداً فإنه الخليفة الحق و العالم بمصالح الأمة فرأى المصلحة في السكوت و الصبر في مورد و القيام لإرجاع المتمردين عن غيهم في مورد آخر سواء علمنا نحن تلك المصلحة و وجه الحكمة في فعله ذلك أم لم نعلم فإنه إذا ثبت أنه هو الإمام و الخليفة الحق – لا سيما على القول بعصمته عليه السلام كما عليه الشيعة – فعلينا التسليم له و الإيمان بصحة ما يتخذه من قرارات ، و مع ذلك نقول أن الحكمة أو بعض حِكَمِ ذلك معلومة لنا فإن خلافة أمير المؤمنين عليه السلام كانت شرعية قطعاً و الأدلة السابقة مع أنها جزء بسيط من أدلة الوصية بالخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام ، كافية في إثبات المطلوب لكل منصف يخلع منظار التعصبات المذهببة ، و لكن مع كل ذلك لم تقع خلافته و إمامته عليه السلام موضع القبول عند كثير ممن بايعوه على الخلافة في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم تتحق له المقبولية إلى جانب الشرعية فلو كان يثور و ينقلب و يحمل السيف على القوم لوقع النزاع و نشبت الحروب داخل عاصمة الإسلام آنذاك و لأدى ذلك إلى زوال الدولة الإسلامية الناشئة و لهذا أوصاه الرسول الأكرم بأن يصبر .. و قد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى وصية الرسول الأكرم بالصبر مراراً و تكراراً كما أنه عليه السلام أشار إلى أن الظلم إذا كان عليه خاصة فسيصبر ففي كلام له عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري و والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك و فضله ، و زهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه – نهج البلاغة الخطبة ٧٤ – .
و أما بعد تولّيه الخلافة الفعلية و إجماع عامة المسلمين عليه فقد اجتمعت له الشرعية و المقبولية معاً فلم يكن هناك مبرر للسكوت على المتمردين عليه و على حكمه من القاسطين و المارقين و الناكثين ، فصبره هناك كان لحكمة الحفاظ على وحدة المسلمين و على الإسلام و خروجه لمحاربة المنقلبين و المتمردين عليه أيضاً كان لأجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية و الحيلولة دون تفكك الدولة الإسلامية و بعبارة أخرى في المورد الأول كان الخروج لأخذ الخلافة بعد ارتحال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم موجباً لتفكك الأمة الإسلامية بل و زوال الحكومة الإسلامية و أما في المورد الثاني فعدم الخروج لمحاربة المتمردين على حكمه و حكومته كان موجباً لذلك فالتكليف بمقتضى الظروف في المورد الأول هو الصبر و في الثاني عدمه …
و بهذا يتبين بكل جلاء و وضوح أن خلافة أمير المؤمنين و إمامته عليه السلام حق بلا ريب و أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد أوصى بها و ذلك لاجتماع ملاك و عناصر استحقاق الخلافة للنبوة الختمية من العلم و العصمة و الحكمة و التدبير و .. في أمير المؤمنين و أولاده المعصومين عليهم جميعاً سلام الله الملك المنان فإن جميع المسلمين متفقون حسب النصوص الشرعية أن علياً عليه السلام كان أعلم الأمة و أقضاهم على الإطلاق – ناهيك عن أدلة عصمته المذكورة في محلها – و في العصور اللاحقة أيضاً كان الناس – من العلماء و الفقهاء و غيرهم – يعترفون بأن الأئمة كانوا أعلم الناس و أفقههم و أقضاهم و أتقاهم على الإطلاق كما لا يخفى على من راجع الروايات و كتب التاريخ و السيرة ، و لم يكن استخلاف علي و أولاده عليهم السلام لمحض كونهم أولاد الرسول و أبناء علي و الزهراء البتول – كما فعل بنوا أمية و بنوا العباس حيث حولوا الحكم و الخلافة الإسلامية إلى نظام السلطنة الوراثية – بل كمالاتهم الوجودية و الروحانية و قابلياتهم العملية هي السبب في استخلافهم عليهم أجمعين سلام الله و الملائكة و الناس أجمعين .. فإذا كان هناك تحويل للخلافة إلى نظام السلطنة الوراثية فهو من قِبَلِ بني أمية و بني العباس لا أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ..
أعاذنا الله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا و وفقنا لمعرفة الحق و اتباعه بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
أيوب الجعفري