سماحة الشيخ حسب معلوماتنا سبب فرض الصيام هو معاقبة النفس عندما خلقها الله فقال لها من انا قالت انت انت وانا انا فكفرت
_____________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
قد بيّن القرآن الكريم الحكمة في تشريع الصوم ، و هي التقوى حيث قال عز من قائل : ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ” و للتقوى درجات منها تقوى العوام و هي صيانة النفس من ارتكاب المعصية فإذا قام المؤمن بواجباته الشرعية و ترك الذنوب و المعاصي كما ورد في الشريعة المقدسة فهو مُتّقٍ …
و منها تقوى الخواص و هي مضافاً إلى فعل الواجبات و ترك الذنوب و المعاصي ، عبارة عن اجتناب الشبهات أيضاً – و إن كانت الشبهة مما يجوز ارتكابه من الناحية الفقهية و أحكام الفقه الأصغر حيث أن الشبهات مختلفة يجب الاحتياط في بعضها و تجري أصالة البراءة في بعضها الآخر و اختُلف في ثالث كما هو مُبَیَّنٌ في علم أصول الفقه – فلا يُقْدِم على عملٍ و لا ينطق بكلمة و لا يأكل طعاماً و لا … إلا بعد أن يعلم أنه لله رضىً ..
و منها تقوى الأولياء الذين هم خواص الخواص و هي مضافاً إلى ماسبق و إلى ترك المكروهات ، ترك المباحات أيضاً لا بمعنى أن لا يشرب و لا يأكل و لا يمشي و لا ينام و لا .. بل بمعنى أن ينوي و يقصد القربة – التقرب إلى الله تعالى – بفعل المباحات فلا يشرب الماء و لا يأكل الطعام و لا ينام و لا … إلا قربةً إلى الله جل و علا فينوي في أكله مثلاً أن يقوى به على طاعة الله و عبادته مضافاً إلى الحفاظ على النفس لأجل وجوبه الشرعي حيث لا يجوز للإنسان أن يعرّض نفسه للخطر فيحافظ على نفسه بالأكل قربةً إلى الله تعالى ، و إذا نظر إلى الأكل بهذا المنظار فسيكتفي بقدر الضرورة من الطعام … فتتحول حياة هذا الإنسان إلى عبادة مستمرة و سيكون هذا المتقي في حالة التقرب إلى الله جل جلاله في جميع لحظات حياته و لا تمر عليه لحظة إلا و قد تقرب فيها إليه جل و علا و ارتقى درجة أعلى من الكمال و …
و هناك درجة أعلى من تقوى خواص الخواص – أو الأولياء – و هي تقوى الأنبياء و المعصومين عليهم السلام المقربين لدى الله الذين فاقت درجتهم درجة الأبرار ، و ليست هذه الدرجة معلومة لنا بالدقة فأهلها هم من يعلم بحقيقتها و ما نعلمه نحن هو أن في هذه الدرجة و المرتبة تكون حسنات مَنْ دون أصحاب هذه الدرجة سيئات لهم كما قيل : ” حسنات الأبرار سيئات المقربين ” و هذا ما يتطلب بحثاً آخر لا مجال للغور فيه حالياً و طبعاً هو بحث عميق و ذو تفصيل و يتفرع عليه أمور و أبحاث متعددة كاستغفار و توبة الأنبياء و المعصومين عليهم السلام و تفسير استغفارهم و …
و الخلاصة أن التقوى بمراتبها هي الحكمة الرئيسية لتشريع الصيام ، و سائرُ الحِکَم مندرجة فيها …
و أما كيفية حصول التقوى بالصوم في المراتب الدانية و المتوسطة فبطرق مختلفة نشير إلى واحدة منها و هي أن الصوم يربي المؤمن على اجتناب المحللات فيحرم عليه الأكل و الشرب و بعض الأعمال الأخرى التي يحل ارتكابها في غير حالة الصوم ، مضافاً إلى ترك المحرمات ، و بعد شهر على هذا التمرين و ترويض النفس إذا كان عن التفات تام إلى مداليله ، تتحقق التقوى فيعود الإنسان بذلك إلى الشريعة المقدسة و إلى الفطرة التوحيدية التي فطر الله عباده عليها و هذا هو العيد الحقيقي للعبد و كأنه لذلك جُعل أول أيام شوال – بعد إكمال الصيام في الشهر الفضيل – عيداً للمسلمين كما جُعل العاشر من ذي الحجة عيداً لهم لأجل أن الحجاج يتمرنون و يتدربون و يُرَوِّضون أنفسهم في حالة الإحرام على ترك المحرمات بترك المحللات و المحرمات معاً في تلك الحالة فيرجعون و يعودون بذلك إلى الشريعة المقدسة و الفطرة الإلهية فيصبح ذلك عيداً لهم و لهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في بعض الأعياد : ” إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه و شكر قيامه و كل يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد ” فالعيد عيدٌ لأجل العود إلى الشريعة المقدسة و الفطرة التوحيدية كما أنه عيد لأجل ما يناله المؤمن من فوائد و عوائد من الله تعالى لأجل صومه و تقواه الناتجة عن صومه …
فهذا بيان إجمالي لاحدى حِکَمِ الصوم و أما ما تفضلتم به من كون الصوم عقاباً للنفس لقولها : ” أنا أنا و أنت أنت ” فلم أجده في الأدلة الشرعية ، و هذه الجملة يمكن تفسيرها بما لا يليق بالكُمّل من الأولياء و الأنبياء حيث أنها تشتمل على شرك خفي فقد جعل القائل بذلك لنفسه وجوداً قبال الله تعالى و العبدُ الواصل إلى درجة الفناء لا يرى لنفسه هويةً بل لا يرى إلا الله و كل ما يراه فإنما يراه ظلاً و آية و علامة من علامات جلال الله أو جماله أو كليهما فنظرُه إلى ما سوى الله نظرٌ إلى جلال الله و جماله من خلال آياته – و طبعاً لذلك مراتب أعلى و أعمق مما أشرنا إليه إلا أن ما ذكرناه كافٍ للغرض فيما نحن فيه – .. كما یمكن تفسيرها -أي جملة أنا أنا و أنت أنت – في سياق الدعاء و الاستغفار بمعنىً صحيح كما روي عن آصف على نبينا و آله و عليه السلام أنه قال في دعائه : ” إلهي و سيدي أنت أنت و أنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب علي و كيف أستعصم إن لم تعصمني ؟ و أغثني و إلا لأعودن و لأعودن و لأعودن ، فأوحى الله تعالى إليه أن قد صدقت يا آصف أنا أنا و أنت أنت ، استقبل التوبة إلي فقد تبت عليك و أنا التواب الرحيم ” ( و لا يخفى عليكم بما بيناه أن توبة آصف يندرج تحت مبحث تقوى الأنبياء فليست التوبة من الذنوب التي نعهدها من عامة الناس بل هي توبة تناسب مقام الأنبياء كالتوبة من التوجه إلى الخلق و ..) و هذا الدعاء و الاستغفار بهذه الجملة – أنا أنا و أنت أنت – يعني – و الله العالم – أن حقيراً مثلي لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضراً بل لا يملك وجوده و هو عين الفقر و الفاقة و الحاجة إليك و أنت الله القادر على كل شيء و المالك لكل شيء و معطي الوجود لكل شيء و .. فأنت العظيم و لا عظيم سواك إذا لم تتب على هذا العبد اللاشيء فكيف يمكنه أن يتوب و إذا لم تعصمه فكيف و بماذا يمكنه أن يستعصم و .. و قد أقره الله على ذلك فقال صدقت يا آصف أنا أنا و أنت أنت …
فهذه الجملة يمكن تفسيرها بكلا المعنيين فتكون بالتفسير الأول منافياً لمقام الأولياء و المقربين و إن صدر من عامة الناس و المتوسطين حيث أنهم و إن حُکم عليهم بالإسلام و لكنهم غافلون عن بعض مراتب الشرك فيما يقولون أو يعتقدون كما أشير إليه في قوله تعالى ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” – و للشرك المجتمِع مع الإيمان في هذه الآية مصاديق متعددة كالرياء الذي هو شرك خفي و كالقول بالتوحيد الذاتي دون الصفاتي كمن يقول بالقدماء الثمانية ، أو يقول بالتوحيد الذاتي و الصفاتي و لا يتمكن من معرفة التوحيد الأفعالي فلا يعتقد بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله و .. – و لكن المعنى الثاني صحيح لا مشكلة فيه ، و مع ذلك لم أجد رواية تقول أن الصيام عقوبة لأجل هذه الجملة مضافاً إلى أن الصيام – و كما سبق – تكليف إلهي حكمته الأساسية تحصيل التقوى و نيل الكمال وفقنا الله و إياكم لنيله بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين …
أيوب الجعفري