وردني سؤال صوتي من أحد الفضلاء خلاصته أنه ألا يعد كون أكثر الناس لا يعقلون أو لا يشكرون أو .. كما ورد القرآن الكريم، نقصاً و خللاً في التدبير الإلهي و عوذاً بالله تعالى ؟ فكما أنه يتم تقييم المعلم بنسبة الناجحين من طلبته كذلك في إدارة الناس و تدبير أمورهم إذا كان أكثرهم لا يعقلون و لا يشكرون و أبى أكثر الناس إلا كفوراً و .. يمكن التقييم و القول بأن ذلك يكشف عن خلل و نقص …
و الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
المخلوقات مختلفة من حيث النشئات و من حيث الدرجات الوجودية ، و تعلمون أن الجمادات في الحضيض من حيث الدرجات الوجودية و هناك مراتب أعلى للنبات و الحيوان و.. ، كما أن الملائكة مجردات لا يوجد في عالمها الحركة و الخروج من القوة إلى الفعل بل كل كمال متوقع و ممكن لها قد أعطاه الله إياها حين خلقها فأوجدها واجدة لذلك الكمال ، و لكن الإنسان يختلف تماماً عن جميع تلك الموجودات بمراتبها فهو أشرف المخلوقات و لكن أشرفيته ليست فعليه بل له قابلية أن يكون أشرف المخلوقات كما أن فيه استعداد السير النزولي نحو الحضيض فيصبح كالأنعام بل أضل ، و السر في كونه أشرف المخلوقات مع أنه بالفعل أدنى من الملائكة ، و عناصر الكمال الموجودة في الملائكة غير موجودة بالفعل في الإنسان ، هو أنه قابل لنيل الكمال باختياره و إرادته فالملائكة خُلقوا بالکمال الذي يراد لهم و لكن الإنسان خُلق و جعل فيه قابلية الوصول إلى الكمال المطلوب منه بإرادته ، و هذه القابلية ليست قابلية صرفه بلا أدوات و وسائل الوصول إلى الكمال بل قد جعل الله تعالى فيه جميع القوى الإدراكية و التحريكية المحتاج إليها في سبيل نيل الكمال من العقل و الفطرة و غيرهما .. كما أرسل الرسل و نصب الأئمة عليهم السلام و أنزل الكتب لبيان عناصر الكمال و السعادة ، و في قبال ذلك جعل فيه القوى المضادة أو التي يمكن أن تصبح مضادة للقوى الداعية إلى الصلاح و الكمال أيضاً ، كالشهوة و الغضب داخل وجوده و الشياطين خارجه ، فأعطاه الله تعالى الاختيار و الإرادة لارتكاب ما يريد و أعطاه القدرة الكافية ليتمكن من التغلب على القوى الشيطانية الداخلية و الخارجية و لم يجبره لا على قبول الخير و الطاعة و السير نحو الكمال و لا على الميل إلى الشر و العصيان و السير نحو الحضيض ، و قد قال أن هناك دعوتين دعوة الأنبياء و دعوة الشياطين فهو قادر على أن يستجيب لدعوة الأنبياء و يلبي نداء العقل و الفطرة بحسن اختياره و متكمن من الاستجابة لدعوة الشياطين و الانحراف وراء الأهواء و الرغبات النفسانية المهلكة ، و لم يجعل الله تعالى لأحدهما – الأنبياء والأولياء من جهة و الشياطين من جهة أخرى – سيطرة عليه و أخبرنا بذلك في كتابه حيث قال تعالى بشأن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم : ” إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ” و قال عن الشيطان أنه لا سلطان له و سيحتج الشيطان نفسه بذلك يوم القيامة على من اتبعه من الناس فقال تعالى مخاطباً الشيطان : ” إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ” و قال حكاية لقول إبليس يوم القيامة: ” و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .. ” كما أن الإنسان يجد من نفسه – و لو لم يكن هناك إخبار إلهي بذلك – أنه قادر على قبول دعوة الأنبياء و الأولياء كقدرته على قبول دعوة الشياطين فالإنسان كان قادراً على أن يستجيب للأنبياء و الأولياء و لكنه لم يستحب فهو بسوء اختياره استجاب للشيطان الذي حذر الله تعالى عباده منه و لم يستجب لله و الرسول و قد بين أنه يدعو الى الحياة المعنوية مضافاً إلى أنه جعل له محفزات و ما يشوقه لقبول الدعوة الإلهية ، فالله تعالى قد جعل في الإنسان كل ما يمكنه أن يكون شاكراً لأنعمه تعالى أو يكون كافراً بها ، أن يكون مطيعاً أو عاصياً، سائراً نحو الكمال و القرب العبودي أو نحو الانحطاط و حضيض الوجود و .. ، و هذا ما يتطلبه عالم الاختيار و التكليف و قد جعله الله تعالى و لم يَحِفْ على عباده فهو العدل المطلق فإن كان هناك تقصير فهو في جانب العباد أنفسهم أي أن فاعلية الفاعل تامة و قد فعل ما لزم و لكن القابل مع أن الله تعالى قد منحه القابلية التامة إلا أنه لم يقم بواجبه و ذلك بسوء اختياره فهو المقصر و لا تقصير في جانب الفاعل لأنه يريد من عباده السير نحو الكمال باختيارهم لا بالإجبار ، و بهذا الاعتبار يختلف الأمر مع المعلم و تلامذته و المثال الذي تفضلتم به لا يقرب إلى المطلوب لأن المعلم شغله التعليم فإن كانت فاعليته في التعليم و قابلية المتعلمين في التعلم تامتين تعلم المتعلمون ما علّمهم المعلم و إلا فلا و هذا التعليم لجانبي الخير و الشر متحقق من قبل الله تعالى و بواسطة أنبيائه و أوليائه و قد تعلم الجميع دروسهم و لكنهم تخلفوا بسوء اختيارهم عما تعلموا في العمل ، فالبحث حول التربية بالعلم و العمل و الله قد علمهم كل ما يحتاجون إليه و أعطاهم جميع متطلبات الحركة و السير نحو الكمال و لم يجبرهم على شيء و لكنهم في العمل تخلفوا عما تعلموا بسوء اختيارهم كما إذا قام المعلم بالتعليم و قد تمكن من إيصال المعلومات لطلبته بشكل كامل و بلا نقص و هم أيضاً قد تلقّوا جميع تلك المعلومات و لكنهم في الامتحان لم يجيبوا على الأسئلة بشكل صحيح لا لجهلهم أو نسيانهم بل بسوء اختيارهم لنيل لذة آنية مثلاً فلو كان جميعهم قد فعل ذلك – و لا أقول الأكثرية بل جميعهم – فهل يمكن جعل ذلك ميزاناً لتقييم عمل المعلم ؟ من المعلوم أنه لا يمكن ذلك لأنه قام بما عليه و بيّن لهم كل ما يحتاجون إليه و هم قد فهموا كل شيء و لكنهم تخلفوا لأجل لذة آنية ، و المثال بهذه الطريقة منطبق على ما نحن فيه … و لهذا لم يقل أن الأكثرية ليس لهم عقل أو علم و وسيلة للشكر و التعقل بل مع أنهم واجدون لكل ذلك و قادرون على الشكر لا يشكرون و مع كونهم متمكنين من التعقل لا يعقلون فالمنفي هو إعمال العقل لا وجوده ، و ما على الله هو إعطاء العقل و القدرة على الفهم و المعرفة و الشكر و قد أعطاهم ذلك ، و ما على العبد هو إعمال العقل و تفعيل العلم و القيام بالشكر و مع قدرته على ذلك لم يقم به فهذا تقصير منه و ليس نقصاً في التكوين و التشريع ..
مضافاً إلى أن الأكثرية التي يقول عنها الله تعالى أنهم لا يشكرون أو لا يعقلون هم من المكلفين و أما لو نظرنا إلى جميع مخلوقات الله تعالى لكان الناس غير الشاكرين و … قلة قليلة لا يعدون شيئاً قبال مجموع الكون و المخلوقات في جميع العوالم …
أيوب الجعفري