نحن نعلم أن الناس هم من يختارون فعل الافعال باختيارهم (هم يمتلكون الاختيار بأنفسهم) لا أن الله اجبرهم على ذلك
و لكن السؤال لماذا هم يختلفون في اختياراتهم؟
لابد أن يكون مثلا أساس خلقهم مختلف، فالذلك كان هناك اختلاف في الاختيار، و إلا الكل اختار نفس الشيء.
زيد اختار أن يذهب للصلاة في الجامع
عمر صلى في المنزل
كل منهما باختياره فعل ذلك
و لكن لماذا زيد اختار الصلاة في المنزل؟
مثلا سنفترض ايمانه كان أكمل.
لماذا ايمانه كان أكمل؟
لأنه تفكر و اجتهد و سعى لأن يعرف الله مثلا.
لماذا اختار أن يتفكر و يسعى لمعرفة الله بينما عمر لم يفعل؟
لابد أن يكون الاساس مختلف. مثلا عندما خلق الله زيد خلقه بعقل أفضل و لذلك كان اختيار أفضل.
و لو قلنا أن الله اعطى العقول و النبوات و غيرها بناء على علمه المسبق بأن فلانا من الناس سيختار ان يفعل كذا فالذلك اعطاه النبوة،
فلا يزال السؤال في محله لم يجاب: هو علم أن فلانا سيختار كذا و لكن لماذا هو سيختار كذا و غيره سيختار امر آخر.
و لو قلنا أن الله اعطى العقول بناء على الاختبار الذي اجراه في عالم الذر. مثلا أعطى محمد ص النبوة لأنه اول من قال بلى.
فلماذا ذرة محمد ص كانت اول من اختار ان تقول بلى.
لابد ان في خلقها كان اختلاف فالذلك نشأ الاختلاف في الاختيار.
سلام عليكم شيخنا الجليل.
هذا هو سؤال الاخ.
___________________________________________________
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
للإجابة على السؤال المذكور يلزم الالتفات إلى عدة نقاط :
١ – الدنيا دار ابتلاء و امتحان فمن الضروري أن يكون هناك اختلاف و تفاوت بين العباد كي يمكن الامتحان في مختلف الأصعدة و من جملتها في نفس و بنفس هذا التفاوت و الإختلاف ، مضافاً إلى أن نظام الحياة الدنيا لا يتمشّى إلا مع وجود التفاوت و الإختلاف كما سنشير إليه ..
٢ – التفاوت بين الخلق لا يختص بجانب من جوانب الحياة دون آخر ، و لا بما برتبط بالإيمان و المعرفة و الكمالات الروحانية دون غيرها بل هو سارٍ في جميع الأبعاد و القوى الظاهرية و الباطنية المتعلقة بالعلوم و الفنون العلمية و العملية ، فالبعض أذكياء و البعض الآخر عباقرة و البعض متوسطون في الإدراك و الفهم و الحفظ و هناك من هم دون ذلك ، كما أن البعض يفهم العلوم العقلية الدقيقة و لكن لا باع له في الفنون العملية و البعض الآخر على العكس من هؤلاء و … و لولا ذلك لما تمكن البشر من العيش في هذا النظام الدنيوي و لما أمكن توزيع أعمال الدنيا و أشغالها حسب القابليات المختلفة كما لا يخفى ، فوجود التفاوت في هذه الأبعاد أمر ضروري لعالم الدنيا إلا أن هذا التفاوت يوجب اختلاف نوعية التكليف في بعض الأمور و لا يحاسب أحد على هذا التفاوت الطبيعي ..
٣ – بما أن الدنيا دار تكليف و مدرسة لتحصيل الكمال بالإختيار و لم يخلق الإنسان كاملاً بالفعل بل هو قابل لتحصيل الكمال في جانبي العلم و العمل و ليس الإنسان كالمجردات و الملائكة حتى يكون جميع كمالاته متحققة له بالفعل من بداية خلقه و .. بهذا الاعتبار يحتاج هذا الإنسان إلى وجود من بلغ الكمال بالفعل كي يوصله إلى كماله المطلوب له و المخلوق لأجل الوصول إليه ، فوجود الإنسان الكامل المبيِّن لعناصر الكمال و المرشد إليه بعلمه و عمله في صالح الجميع – الكامل و من له قابلية الكمال – بل وجوده ضرورة تكوينية و تشريعية ..
٤ – لا يوجد في الكون من يستحق على الله شيئاً حتى يقال أنه إذا أعطى فلاناً كذا و لم يعطه لغيره يكون قد ظَلَمَ من لم يعطه ذلك ، بل إعطاؤه تفضّلٌ منه و عدم إعطائه إنما هو لعدم الاستحقاق ، و هذ لا يختص بالأمور المعنوية بل يجري في الماديات أيضاً فإذا جعل الله تعالى زيداً غنياً و لم يُغْنِ عمرواً لم يكن ظلماً بحق عمروٍ لأن عمرواً كزيد لا يستحق على الله شيء و ليس لأحدهما حق على الله تعالى ، فكما أنه قد يهدي شخص مبلغاً من المال لأحد و لم يُهْدِ لغيره شيئاً و مع ذلك لا يتفوه أحد بأنه ظالم ، كذلك بالنسبة لعطايا الله جل و علا ، فعطاؤه تفضل و عدمه عدل لعدم الاستحقاق – نعم سيأتي أن طلب الكمال مع عدم جعل وسيلة الوصول إليه فيه خلاف العدل بل هو قبيح يمتنع صدوره منه تعالى …
٥ – العدل لا يعني المساواة و العطية بالسوية ، بل العدل بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه و وضع كل شيء في محله ، و قد قلنا أنه لا حق لأحد على الله تعالى و لكن باعتبار أنه خلق الإنسان و سائر المكلفين للوصول إلى الكمال فمن الضروري أن يجعل له حقاً و هو توفير العناصر و الوسائل الدخيلة في الوصول إلى الكمال لكل أحد فيصبح ذلك حقاً له فإعطاؤه ذلك الحق عدلٌ و حرمانه منه ظلمٌ إذا حرمه منه و مع ذلك طلب منه الوصول إلى الكمال غير الممكن بدون توفير العناصر الدخيلة في الوصول إليه ..
و من جهة أخرى قد أشرنا في النقطة الثالثة أن وجود الإنسان الكامل في صالح الجميع – الكامل و المتكامل – بل هوضرورة تكوينية و تشريعية ، و العدل هو وضع كل شيء في محله و محلُّه هو ما يكون موافقاً للحكمة و مصلحة المخلوق ، فخلق البعض كاملاً و البعض متكاملاً – أي قابلاً لتحصيل الكمال – عين العدل و ليس من الظلم في شيء بل عدم خلق الكامل مع وجود المتكامل – من له قابلية الكمال – و مع توقف كماله على وجود ذلك الكامل خلاف العدل فيما إذا طُلب منه أن يتكامل ، بل هو أمر قبيح – أن يُطلب من موجود الوصول إلى كمال مع عدم وجود و عدم توفير عناصر ذلك الكمال و ما يتوقف كماله عليه – تأمل جيداً ..
٦ – و مع كل ما ذكرناه في كون المصلحة في وجود التفاوت بل الضرورة قاضية بذلك ، نقول أن التفاوت متحقق في العالم بالفعل و لكن الإستعداد للكمال لجميع المكلفين متحقق على حدّ سواء و ليس الإستعداد بحدّ ذاته متفاوتاً إلا أن البعض بحسن اختياره يسعى في تبديل ذلك الإستعداد إلى الفعلية و البعض الآخر يتكاسل في ذلك بسوء اختياره أو يختار طريق الشقاء و ليس ذلك لتفاوت أصل الإستعداد بل لحسن الاختيار و سوئه و الاختيار في الجميع على حدّ سواء ، و أما أنه لماذا يختار هذا كذا و ذاك أمراً آخر فإنما هو لأجل أنه مختار لا لأجل تفاوت في الاختيار فهو راجع إلى العبد نفسه لا إلى خالقه كما أنه إذا افترضنا أن طلبة صف واحد لديهم قابلية فهم المطالب بمستوى واحد و الأستاذ يبين المطالب للجميع فيستمع البعض لبيان الأستاذ جيداً بحسن اختياره و البعض الآخر لا يستمع بسوء اختياره فهذا غير راجع إلى التفاوت في قابلية فهم المطالب و لا لزيادة بيان للبعض دون البعض الآخر و مع ذلك يحصل التفاوت و لكن لأجل أن الأمر موكول إلى اختيارهم لا لأجل تفاوت مرتبة الإرادة و الإختيار من حيث الإستعداد و القابلية ، نعم تختلف مراتب الإرادة و الإختيار الفعلية و فعليه التفاوت تحدث بإعمال ذلك الاستعداد و القابلية و عدم إعماله من قِبَلِهم أنفسهم …
و إذا تبين ذلك نقول لا ضير في أن يخلق الله تعالى إنساناً كاملاً بتحقيق عناصر و مقومات الكمال فيه من بداية خلقه و ذلك لأجل علمه تعالى بأنه سيختار الخير المحض في حياته الطبيعية في عالم المُلك ، و تقديمُ العطية لأجل قوة الاستحقاق ، تقديمها قبل الاستحقاق الفعلي فضل من الله تعالى و هو فوق العدل ..
و الخلاصة أن التفاوت موجود و هو مقتضى الحكمة و المصلحة بل الضرورة التكوينية و التشريعية تقتضي وجود التفاوت فهو عين العدل و عدمه خلافه ، و لكن التفاوت راجع إلى كون المكلف مريداً و مختاراً و ليس لأجل جعل شيء زائد عن الغير في إرادة و اختيار من يريد الخير لا غيره فالإرادة استعداداً غير متفاوتة و لكنها فعلاً متفاوتة لسوء أو حسن اختيار المكلفين أنفسهم ، و ما يضر هو التفاوت في أصل الإستعداد و القابلية المجعولة من قبل الله تعالى لا فعليتها الناتجة من كون المكلفين مختارين مريدين ، و تقديم العطية على الاستحقاق الفعلي لأجل الاستحقاق الشأني – بمقتضى العلم الإلهي – فضلٌ و هو فوق العدل ، فخلق الأنبياء و الأولياء علماء معصومين فضل فوق العدل و ليس ظلماً بحق أحد مضافاً إلى أن ذلك في مصلحة الجميع كما أسلفنا ..
موفقين لكل خير …
أيوب الجعفري