الفقر و الغنى و عدل الله تعالى
سؤال من أحد المؤمنين :
سلام عليكم شيخنا، كيف حالكم .. مع زميل فالعمل من أهل العامة، كان شخص متشدد جدا … و الحمدالله تم الرد عليه و عل كثير من تساؤلاته . الآن هو شخص غير متشدد ( إلا أنه ) ترك الصلاة و يشكك في وجود الله و أن الله ليس برحيم و يذكر مثال لماذا هذا الفلان يعيش حياة كريمة و انا مبتلي بالقروض و لماذا هناك فقراء يبحثون عن الطعام من القمامة انا استطعت أن أثبت له وجود الله سبحانه و تعالى و اقتنع و لكن لم أستطع الرد على نقاطه الأخرى .
هل من واجبي الرد عليه و هو طلب مني ذالك لأن لا يعتقد أن أحد يستطيع أن يرد عليه ؟
و اعتذر على الإطالة
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم إذا تمكنتم من الإجابة على شبهاته حول عدل الله تعالى وجب ذلك …
السائل : إن لم أستطع هل يستوجب علي الرجوع إلى العلماء ؟
الجواب : نعم ..
السائل : إذا هل من الممكن الحصول على إجابة لهذا السؤال ؟ و نعتذر لكم على الازعاج
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
العدل له معان و مراتب مختلفة و من جملة معانيه و هو المتعلق بهذا السؤال هو “وضع كل شيء في محله حسب الحكمة و المصلحة” و ليس العدلُ توزيعَ الأرزاق بين العباد بالسوية فإن ذلك تسوية في العطاء و ليس عدلاً ..
و من جانب آخر الدنيا دار امتحان و ابتلاء فكل من يُعطى شيئاً أو يُسلب نعمةً فإنما هو للامتحان ، فلا يحسبنّ أحد أن الغنيَّ مدلَّلٌ مكرَّمٌ معزَّزٌ من قِبَل الله تعالى ، و الفقيرَ محقَّرٌ مُهانٌ مذلَّلٌ من قِبله جل و علا عن ذلك علواً كبيراً بل الغني يُمتحن بماله – هل يؤدي واجباته المالية أم لا ، و هل يجعل أمواله وسيلة لرقيه نحو الكمال و القرب إلى الله تعالى أم أنه يغتر بماله و يحسب نفسه مستغنياً عن الله تعالى كما قال سبحانه : ” و إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” و “يحسب أن ماله أخلده” و … – كما أن الفقير يُمتحن بفقره – هل يصبر فينال الدرجات العُلى بصبره و يدخل الجنة يوم القيامة بلا حساب كما قال جل و علا : ” إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ” و يُعطى أحسن و أعلى درجات الثواب قبال أعماله كما قال تعالى : ” و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ” بمعنى أنه لو كل لعمل ما مأة درجة و يعطي الله تعالى تلك الدرجات للمؤمنين على حسب خلوص نيتهم و حضور القلب في صلواتهم مثلاً فقد يستحق شخصٌ ما درجةً واحدة و يستحق آخر عشر درجات و … و لكن المستحق للدرجات النازلة إذا أصبح صابراً في البلايا و المصائب و على الفقر و الفاقة و على الطاعة و عن المعصية أعطاه الله تعالى جميع تلك الدرجات و رفعه مأة درجة و إن كان بحسب عمله لم يستحق إلا عشر درجات مثلاً – و هذا معنى توفية الأجر بأحسن ما كانوا يعملون – ، فهذا الفقير يُمتحن بفقره هل يصبر و ينال تلك الدرجات و يدخل الجنة بغير حساب أو يعترض على الله تعالى و لا يسلّم لما قدّر الله تعالى له من الرزق فيستحق النار و يصبح ممن خسر الدنيا و الآخرة – و بذلك يتبين أن الغِنى ليس إكراماً و إعزازاً كما أن الفقر ليس إهانةً و إذلالاً من قِبل الله تعالى بل كلٌ يُمتحن بما يليق به كما قال تعالى : ” فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعّمه فيقول ربي أكرمنِ ، و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهاننِ ، كلا بل لا تكرمون اليتيم و … ” فيقول تعالى أنه ليس إعطاء النعمة إكراماً كما يتصوره المُعطى و يقول ربي أكرمن و لا التضييق في الرزق إهانة كما يتوهم الذي قُدِرَ عليه رزقُه و يقول رب أهانن بل كلاهما ابتلاء و امتحان ولهذا عبّر عنهما كليهما بقوله تعالى :” إذا ما ابتلاه ” … فمن سعادة المرء أن يبتلى بالفقر فينجح فيه و ينجو من النار كما أن من سعادته أن يُعطى نعمة وافرة ابتلاءً من الله تعالى فينجح فيه و ينجو من النار ، و الله تعالى عالم بكل شيء يعلم بأن ما يصلح للإنسان هو الفقر أم الغنى ، و المفيد له هو الصحة أو المرض ، الشهرة أو الغربة ، الرئاسة أو المرؤسية و …
إذا تبين ذلك نقول : لو أن إنساناً يصلح له الفقر و هو ينجح في الامتحان به، أغناه الله تعالى و هو سبحانه يعلم بأنه سيسقط في امتحان الغنى فهل يعد هذا الغنى خيراً و سعادةً و إكراماً له ؟ كلا ، بل هو شر و سبب لشقائه و الله تعالى لا يفعل ما يُشقي الانسان بل يمتحنه بما هو خير له ، و الإنسان لا يطلب المال للشقاء بل للسعادة فلو علم أن المال سيهلكه لَما طلبه من الله تعالى – و هذا من جملة موانع استجابة الدعاء حيث أنه في الواقع لم يتحقق منه الدعاء و المسألة و إن طلبه بلسانه و لكنه بفطرته غير طالب له لأن المضر ليس مطلوبا للإنسان ..، و توضيحه موكول إلى محله – فلو أعطاه الله و أغناه بالمال و … و هلك لكان خلافاً لمصلحته ..
فالعدل لا يقتضي إعطاء كل انسان كل ما يحلو له و يشتهيه بل كل ما هو في صالحه و يكون سببَ رُقِيِّهِ و كمالِه لا سيما مع الالتفات إلى أن البعد الأشرف لوجود الإنسان هو روحه لا جسمه كما أن الإنسان مخلوق للبقاء لا للفناء و البقاء لا يكون في الدنيا بل في الآخرة فما يصلح لروحه – و هي أشرف بُعدي وجوده بل هي حقيقته التي بها يكون الإنسان إنساناً – و يصلح لحياته في الآخرة هو الصالح له و إن كان هو يحب المال و الغنى في الدنيا و لكنه حب كاذب حيث أنه إذا التفت إلى أن المال و الغنى سيهلكه و يشقيه لما أحبه ، و كذا في صورة العكس … و لهذا ورد في أحاديث الفريقين بألسنة مختلفة أن الله تعالى ينظر إلى ما يصلح للإنسان فيعطيه سواء كان ذلك هو الغنى أو الفقر ، و سواء كان الصحة أو المرض و .. و أما لا يصلح له أو يفسد عليه سعادته و إيمانه و تقواه فلا يعطيه سواء كان ذلك الغنى أو الفقر و … ( و طبعاً هذا فيما يتعلق بإعطاء الله تعالى و هو لا يسلب الاختيار من الانسان فهو مُمتَحَنٌ فقد يصلح له المال فيغنيه الله تعالى و لكنه بسوء اختياره يَفْسُد و یُفْسِد و كذا العكس ، و هذا أيضاً يحتاج إلى توضيح آخر ليس هنا محل طرحه .. ) .
و من جانب آخر : الله تعالى هو المالك للكل ملكية مطلقة حقيقية و لا يملك غيره شيئاً حتى نفسَه و إن اعتبر اللهُ تعالى لنا ملكيةً اعتبارية و لكن بالحقيقة كل مالك هو مع ما يملكه بالملكية الاعتبارية مملوك لله تعالى بالملكية الحقيقية ( و للملكية الحقيقية قبال الاعتبارية معنى خاص قد نُوَفَّق لطرحه ضمن موضوع آخر ) .. فإذا كان كذلك لم يستحق أحد على الله تعالى شيئاً حتى يقال بأنه إذا أعطى يكون قد عدل و إذا منع يكون قد ظلم و عوذاً به ، تماماً كما في الانسان نفسه فلو أن غنياً أهدى لزيد مبلغاً من المال و لم يُهدِ لخالد شيئاً فهل يصح أن يقال أنه ظلم خالداً بإهدائه مبلغاً من المال لزيد دونه ؟ لا يتفوه أحد بذلك فالمال ماله و هو أراد أن يهديه لزيد لا لخالد ، و الله تعالى هو المالك المطلق للكل فإذا أعطى أعطى من دون استحقاق و إذا منع أيضاً لم يكن منعه عن استحقاق فلا يعدّ ظلماً بل إذا أعطى فهو فضل منه تعالى لمن أعطاه ، إلا أنه تعالى و كما أشرنا لا يعطي و لا يمنع إلا لحكمةٍ و مصلحةٍ و ليس جزافاً و اعتباطاً فعطاؤه و منعه للامتحان بما يصلح للإنسان …
و أضف إلى جميع ذلك أن الله تعالى قد جعلنا في دار التكليف و الامتحان و أعطانا كل ما نحتاج إليه و كلفنا بالتوزيع العادل للثروة بين العباد و لكنه لم يجبرنا بشيء لأن الدنيا دار تكليف فعلى الإنسان أن يعمل هو بتكليفه و من جملة التكاليف هو توزيع الثروة بالعدل فأصحاب القدرة و القوة الذين جُعلت الثروات بأيديهم يلزمهم توزيعها على الناس بما يسد حاجاتهم و هي كافية لذلك ، فإذا بقي مع ذلك فقير محتاج إلى قوته علمنا أن ذلك من الناس لا من الله الذي أعطاهم كل شيء و أوكل إليهم التوزيع العادل لأنهم مكلفون و في دار التكليف فلا إجبار من الله تعالى على كيفية توزيع الثروات ، كما أنه كلفهم بالصلاة و لكنه لم يجبرهم عليها و كلفهم باجتناب الكذب و لم يجبرهم على اجتنابه و هكذا .. و لهذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ” ما رأيت نعمة موفورة إلا و إلى جانبها حق مضيع ” ..
هذا، مضافاً إلى أن الله تعالى قد جعل واجباتٍ و مستحباتٍ ماليةً من الزكاة و الصدقات و الأخماس و الكفارات لسد الحاجات فيما إذا لم تَكْفِ و لم تفِ أموال الضعفاء و المتوسطين بمصاريفهم فإذا لم يقم الناس بواجبهم لم يكن لوم على المولى الكريم الذي وفَّر لنا كل ما نحتاجه و لكن جعلنا في دار التكليف فكلفنا بالتوزيع العادل باختيارنا …
و بناءً على جميع ما ذكرنا : لو كان هناك ظلم فمن الناس لا من الله و العياذ به …
وفقكم الله و إيانا للمعرفة و سلوك صراط الكمال و القرب الى الله تعالى
أيوب الجعفري