*إطلاق الحقيقة و نسبيتها*

*استفسار من أحد المؤمنين :*

سلام شيخنا

يقول احدهم:

“كما انك تظن بأن دينك هو الحق وبقية الاديان باطلة فذاك ايضاً يقول بأن دينه الحق وبقية الاديان باطلة .. وعليه فلا توجد حقيقة مطلقة ولا يمكن لأحد الجزم كون دينه هو الحق وو و”

يعني هذا الشاب يقول بعدم وجود حقيقة مطلقة بل كلٌ يرى نفسه صحيحاً فلا يمكن بذلك اقامة الحجة على أحد من دين اخر و هكذا ..

فماهو الجواب لهذه الشبهة الفلسفية؟
___________________________________________________

*الجواب :*

و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

استدلالٌ عجيب لإثبات تعدد الحقيقة !! لا يعد هذا شبهة فلسفية بل كلام عامي لا يستند إلى برهان أو شبه برهان و لكن لئلا يبقى بلا جواب أقول :

الاختلاف في “الحقيقة” لا ينفي وجود الحقيقة المطلقة الواحدة و بعبارة أخرى الاختلاف لا ينفي وحدة الحقيقة المطلقة و لا يوجب تعددها و ذلك لأن الاختلاف ينشأ عن اختلاف الأفكار أو الأهواء أو التعصبات المذهبية و الدينية أو الظروف التي يعيش فيها الناس أو الخلفيات التي تربى عليها الإنسان أو لأن الأمرَ المختلَفَ فيه غيبيٌ لا يمكن إدراكه بالحواس الظاهرة فيعتمد كلٌّ بما ورد في معتقدات دينه أو الأدلة القائمة لديه أو .. و أما الحقيقة فهي تعني الأمر الثابت في نفس الأمر أي في الواقع الخارجي و لا يمكن إنكار وجود حقيقة في كل موضوع اختلف فيه الناس لمجرد اختلافهم في وجودها، نعم من الممكن أن تكون هناك أسطورة خرافية اعتقد بها بعض الناس ثم تطور الأمر إلى الاختلاف في حقيقتها فهنا ايضا الأسطورة بنفسها كانت أمرا خياليا موهوما لا أن الاختلاف فيها سببٌ لعدم كونها ذات حقيقة خارجية أو أن الحقيقة في هذا الأمر مختلف و متعدد حسب الآراء و العقائد و الأفكار و ..

فمثلا إذا كان هناك كأس من الماء خلف الستار فقيل لعدة أشخاص ما هي حقيقة الموجود خلف الستار فهنا من الممكن أن يختلف هؤلاء فيقول بعضهم أن ذلك الموجود كأس من الماء و يقول آخرون أنه كأس من العصير و يقول غيرهم أنه ليس كأسا و لا يوجد فيه شيء من السوائل بل هو حديد أو أنه ذهب أو .. فهنا اختلفت الآراء و الأفكار في حقيقة ذلك الموجود خلف الستار و سبب اختلافهم هو أنهم لا يشاهدونه و هو غائب عن حواسهم الظاهرة – أو لأي سبب آخر – و لكن هل يمكن أن يتفوه أحد بأن ما وراء الستار حقائق مختلفة باختلاف آراء و أفكار هؤلاء و هل يتقبل من امتحن هؤلاء المختلفين و طلب منهم أن يبدوا آراءهم عن حقيقة الموجود خلف الستار ، هل يتقبل آراء الجميع و يصحح جميع الآراء و يقول : إن الموجود خلف الستار لمن يقول بأنه كأس من ماء هو كأس من ماء و لكنه لمن يقول أنه كأس من عصير فهو كأس من عصير و لمن يقول أنه حديد فهو حديد و هكذا ..

و هذا الأمر جار في جميع الأمور و الحقائق الخارجية سواء كانت من الأمور العقلية و المعادلات الرياضية أو من الأمور التجريبية أو الحقائق الدينية المعرفية و العقدية بل حتى الأحكام الفقهية التي تعد من الأمور الاعتبارية فمثلاً حكمُ الله تعالى في صلاة الجمعة في عصر الغيبة أمر واحد و لكن الفقهاء يختلفون لاختلاف الأدلة القائمة لديهم فمنهم من يقول بالوجوب التعييني كعصر الحضور مع اجتماع شروط الاقامة و منهم من يقول بالوجوب التخييري و قد يقول بعضهم بالحرمة في عصر الغيبة لكون اقامتها من منتصب الإمام المعصوم عليه السلام و يقول آخرون بأمر آخر، فهل يمكن التفوه بأن حكم الله تعالى بحسب الواقع مختلف باختلاف الآراء و المشارب الفقهية ؟ كلا و ألف كلا فإن حكم الله تعالى في كل واقعة – ما لم يتغير الموضوع و لم يطرأ عليه عنوان آخر – واحدٌ و حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة أحد هذه الأحكام لا جميعها فكما أن حلال محمد صلى الله عليه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة كذلك الحلال في الموضوع الخاص بحسب الواقع حلال لا أنه حلال و في نفس الوقت حرام لاختلاف الأفكار و الآراء ( و لهذا نقول بالتخطئة و نسمى بالمخطِّئة و لسنا من المصوِّبة ) نعم : الحكم الظاهري حسب الأدلة الشرعية مختلف فيرى بعض الحلية و يرى آخرون الحرمة و لكن هذا بحسب الحكم الظاهري و بحسب ما هو الحجة بين الأخصائيين و بين ربهم و أما الواقع فحكم واحد إما الحلية أو الحرمة مثلا و لكن من استند إلى الأدلة و استفاد الحلية فما استفاده حجة له و عليه فإذا كان موافقا للحكم الواقعي فقد أصاب الواقع و إذا كان مخالفا له كان معذورا و كذا بالنسبة لمن استفاد الحرمة من الأدلة من دون أن يتغير الحكم الواقعي عما هو عليه..

و نفس الكلام جارٍ في العقائد فالله تعالى موجود واحدٌ أحدٌ حي قيومٌ و .. بحسب الواقع فلو اختلفت الافكار و الأديان فقال بعضهم بما أشرنا و قال آخرون بأن إله الخير غير إله الشر و قالت طائفة بأن المسيح أو عزيرا ابن الله – و عوذا به – و .. أو قال قوم بوجود الله و أنكر وجودَه غيرُهم و .. فهل يختلف الواقع عما هو عليه لاختلاف هؤلاء .. و كذا بالنسبة لعدل الله تعالى و الرسالة و الإمامة و .. فبحسب الواقع إما أن يكون هناك تنصيب للامام و جعلٌ إلهي في مسألة الإمامة مثلا أو لا يكون و لا يمكن ادعاء أن الجميع على حق بمعنى أن الحقيقة مختلفة باختلاف العقائد و التعصبات و الرغبات المذهبية و الطائفية و القومية و .. بل يلزم من هذا المُدَّعى التناقض في الواقع الخارجي بل حتى في الأمور الاعتبارية، فعلى رأي البعض الله تعالى موجود و على رأي المنكرين غير موجود – و عوذا بالله تعالى – و المفترض أن كلا القولين حق و له حقيقة في الواقع الخارجي فيلزم أن نقول بأنه موجود و غير موجود في آن واحد و كذا بالنسبة للتوحيد الواحدي و الأحدي و العدل و النبوة و ..

و أما تكليفنا نحن فالواجب علينا في العقائد اتباع البراهين العقلية و النقلية الصحيحة – من حيث الهيأة و المادة – مع كون الغرض و الهدف هو نيل الحقيقة و الوصول إليه للاعتقاد بها كما أن تكليفنا هو الاجتهاد أو الرجوع إلى الأخصائيين في المسائل العملية المتعلقة بالأعمال في الفقهيات لحاجتها إلى التخصص و لا يتمكن الجميع من تحصيله فإن أصبنا الواقع فهو المطلوب و إن لم نُصِبِ الواقع كنا معذورين و لكن كوننا معذورين لا يعني أن الحقيقة بالنسبة لنا غير الحقيقة بالنسبة لهؤلاء الذين أصابوا الواقع …

موفقين مسددين ..

أيوب الجعفري

يوم الثلاثاء ٢٥ ذو القعدة الحرام ١٤٤٢ ق
الموافق ٦ / ٧ / ٢٠٢١ م