*الناس بعد صنائع لنا*
*سؤال من أحد المؤمنين أدام الله عزهم :*
بسمه تعالى
اسعد الله أوقاتكم يا شيخ ايوب الجعفري المكرم ،، … ما تفسير العبارة (انا صنائع ربنا و الناس صنائع لنا ) مع خالص تحياتي لكم و لأمة محمد صل الله عليه و آله
______________________________________
*الجواب :*
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تقبل الله أعمالكم ..
للحديث معانٍ متعددة بعضها دقيق يتوقف على بيان مقدمات و مصطلحات علمية من العلوم العقلية .. و ما يمكن ذكره هنا هو أن أهل البيت عليهم السلام – و في مقدمتهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم – صنائع الله و مخلوقون له تعالى، و لأنهم أكمل الخلق على الإطلاق فلا يوجد واسطة بينهم و بين الله تعالى لأجل أن يخلقهم فأول ما خلق الله نور نبينا – كما في الأحاديث بألسنة مختلفة – و أما سائر الناس فلم يخلقهم الله تعالى من دون واسطة، و بما أنهم عليهم السلام هم أول مخلوق لله تعالى فهم الواسطة في خلق سائر الناس – بل و سائر المخلوقات أيضا حتى موجودات عالم المجردات و .. – و أما المقصود من كونهم عليهم السلام الواسطة في خلق الناس فيمكن أن يكون له معان مختلفة أيضا و من جملتها أنهم صلوات الله عليهم مخلوقون من نور عظمة الله تعالى و مَن سواهم من الخلق من الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقربين و من دونهم مخلوقون بواسطة نورهم عليهم السلام، و منها أنه لولاهم لما خلق الله تعالى أحدا و شيئا كما يستفاد من حديث الكساء و حديث “لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها” بل يستفاد ذلك من إشارات بعض الآيات أيضا، فالناس مخلوقون قد خلقهم الله تعالى لأجلهم بمعنى أن غاية الخلق هو الإنسان الكامل المتمثل في النبي الخاتم و أهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين فلولاهم لما خلق الله أحدا و لهذا يقول عليه السلام : “فإنا صنائع ربنا و الناس بعدُ صنائع لنا” و لم يقل : “و الناس بعد صنائعنا” بل “صنائع لنا” أي لأجلنا، نعم قد ورد في توقيعٍ لصاحب الأمر عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف : “و نحن صنائع ربنا و الخلق بعد صنائعنا” و لكن يمكن أن تكون الاضافةُ لاميةً فيكون التقدير : “و الخلق بعد صنائع لنا” كما نقول “إن هذا بيتُ زيد” أي إن هذا بيتٌ لزيد – و لكن يختلف معنى اللام من مورد لآخر فقد يكون لبيان الملكية و قد يكون لبيان الغاية و .. – و إن أمكن تفسيره بنحو آخر على أساس الولاية التكوينية بإذن الله تعالى و كذا على أساس بعض القواعد العقلية التي تحتاج الى بيان تفصيلي لا يمكنني الغور فيه في هذا المختصر ..
كما يمكن القول بأن الصنيع هو من تربى على يد غيره فالأئمة عليهم السلام هم من قد ربّاهم الله تعالى و اصطنعهم لنفسه كما اصطنع الله موسى لنفسه “و اصطنعتك لنفسي” و أما الناس فهم صنائع أهل البيت عليهم السلام إما بمعنى أنه من المفترض و يلزم أن يتربوا على أيديهم لأن الله تعالى قد جعلهم أولياء على العباد و أئمةً هداةً للبشرية فكمالهم – أي كمال سائر الناس – متوقف على أن يتربوا على أيدي كُمّل الخلق عليهم آلاف التحية و الثناء، و إما بمعنى أن من يصدق عليه أنه من الناس فهم صنائع أهل البيت عليهم السلام قد تربوا في جانبي العقل النظري و العقل العملي على أيديهم صلوات الله عليهم فإن المبغضين و المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ليسوا ناسا بل هم من النسناس كما في بعض الأخبار، فمن صدق عليه أنه من الناس أو أشباه الناس فهو من صنائع أهل البيت و ممن تربوا على أيدي من اصطنعه الله تعالى لنفسه ( و هذا ما يستفاد من الحديث القائل : نحن الناس و شيعتنا أشباه الناس و سائر الناس نسناس ، و طبعا بيان هذا الحديث ايضا يتطلب مجالا أوسع و لكن خلاصة الكلام أن الإنسان هو من يكون فيه جميع مقومات الانسانية التي تجعله مستحقا لأن تسجد الملائكة له أو لأجله و ليس ذلك إلا الإنسان الكامل و لا يوجد انسان كامل بتمام ما للكلمة من معنى إلا أهل بيت النبوة الختمية – الرسول الأكرم و أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء و الحسن و الحسين و التسعة المعصومين من أولاد الحسين صلوات الله عليهم أجمعين – فهم الناس حقيقةً و هم المصداق الأتم للإنسان الكامل، و كل من تربى و تكامل و اقترب في كماله إلى الانسان الكامل يكون شبيها بالانسان بقدر ما يتشبه به فالشيعة – و هم الذين يتبعون أهل البيت عليهم السلام في أعمالهم و أخلاقهم و معارفهم و عقائدهم – يشبهون الناس الكُمّل بقدر تشبههم بهم فهم أشباه الناس يشبهون الإنسان الكامل و من يصدق عليه أنه انسانٌ حقيقةً، و أما المخالفون لأهل البيت المعارضون لهم فهم البعيدون عن حقيقة الانسانية و ليس فيهم من الإنسان الا شكله و قواه الجسمانية المتعلقة بالجانب الحيواني من وجود الانسان و ليس الجانب العقلاني المقوِّم لحقيقة الانسان فهم ليسوا من الناس و لا أشباههم بل هم من النسناس ، و فيما يتعلق بحديث الصنائع : فالناس الذين بلغوا عليا درجات الانسانية و تشبهوا بأهل البيت عليهم السلام و أصبحوا كسلمان الفارسي الذي ورد أنه من اهل البيت عليهم السلام، و كذا أشباه الناس الذين بلغوا بعض الدرجات فيشبهون الانسان الكامل فيما بلغوه من الكمال، هؤلاء جميعا صنائع أهل البيت عليهم السلام قد تربوا في مدرستهم الطاهرة و .. ) .
هذا و يمكن بيان الحديث بنحو آخر و هو أن أهل البيت عليهم السلام هم الأسماء الحسنى و هم مظاهر صفات الله العليا فهم صنائع الله تعالى قد خلقهم الله تعالى لأنْ يكونوا أسماءً له جل و علا فيعرف الناس ربَّهم بواسطتهم عليهم السلام لأنهم الآيات الكبرى لرب العالمين كما أن من يصدق عليهم أنهم من الناس قد تربوا علما و عملا بتربية أهل البيت عليهم السلام فهم صنائع أهل البيت و بهم يتمكن سائر المكلفين أن يعرفوا أهل البيت عليهم السلام فإن عمل المؤمنين و أخلاقهم و معارفهم آية التربية الإلهية التي رباهم عليها أهلُ البيت عليهم السلام فيكون المؤمن صنيع أهل البيت و بذلك يكون المؤمن بعلمه و معرفته و عمله و أخلاقه مظهرا من مظاهر تربية أهل البيت الإلهية و عن طريق ذلك يمكن معرفة صفات أهل البيت عليهم السلام و خصالهم و كمالاتهم الروحانية بالقدر المقدور لمن سواهم …
و هناك احتمالات أخرى منها ما ذكره العلامة المجلسي رض حيث قال في بيان الحديث : صنيعة الملك من يصطنعه و يرفع قدره و منه قوله تعالى : (واصطنعتك لنفسي) أي اخترتك و أخذتك صنيعتي لتنصرف عن إرادتي و محبتي فالمعنى أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى أنعم علينا فليس بيننا و بينه واسطة و الناس بأسرهم صنائعنا فنحن الوسائط بينهم و بين الله سبحانه .
و قال بعضهم أن المقصود أن الإنسان أسير الإحسان فالأئمة عليهم السلام أسراء إحسان الله إليهم و الناس أسراء فضلهم عليهم السلام ..
موفقين مسددين ..
دعواتكم الكريمة .
أيوب الجعفري
- ليلة السبت ٤ ذو القعدة الحرام ١٤٤٣ق
الموافق ٤ / ٦ / ٢٠٢٢م