أيوب الجعفري:
*الإكثار من قول : “يا علي” عليه السلام*
*استفسار من أحد فضلاء الأساتذة :*
جناب الشيخ الموقر أيوب الجعفري
السلام عليكم ورحمة الله
وأسعد الله أوقاتكم بكل خير
شاهدت مؤخرا مقطع فيديو يقرأ فيه خطيب حسيني أبياتًا باللهجة العراقية الدارجة في مدح أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام هذا نصها:
كل يوم أقولن يا علي
وكل ساعة أقولن يا علي
وكل لحظة أقولن يا علي
وبالنوم أصيحن يا علي
قالوا لي يا شيعي افتهم
يا ألله أحسن من علي
قلت أدري يا ألله أحسن من علي
وادري الله الخالق علي
وادري عبدالله علي
بس الله ما ينزل إلي
بس الله ما ينزل إلي
إليرفعني لله حب علي
* * *
وقبل أن أسأل عن الموقف الشرعي من الأبيات الآنفة، أستأذن سماحتكم في بيان إشكالات لي عليها منطلقة من أخذي للكلمات على ظاهرها وحرفيتها؛ أي أنها تعني ما تشير إليه دونما خيال أو مبالغة..
معتذرا لكم سلفا على الإطالة، وعن أي تعبير قد تجدونه متعجلا أو غير مناسب.
وإشكالاتي، يا سماحة الشيخ، هي كما يلي تباعا:
( ١ ) تفاخر الشاعر أنه دائب على ذكر علي (ع) في كل يوم وساعة ولحظة..
ولو وقف عند هذا الحد، لم يكن بكلامه كبير بأس، ولقلنا أن إكثاره من ذكر علي (ع) لا يعني أنه بالضرورة على حساب ذكره لله جل وعلا خالق علي و لمحمد صلى الله عليه وآله سيد علي وجميع الكائنات، وإن لم يفصح عن هذا الذكر..
لكنه يصرح بأن الله سبحانه غائب عن ذكره، ما جعل المخالف يعاتبه ويذكّره (يا ألله أحسن من علي). وبرغم اعترافه بأن ذكر الله سبحانه أحسن، يصر على إعراضه عن هذا الذكر بدعوى أن حب علي وذكره (ع) وحدهما كافيان لنيل رضى الله تعالى!
وهذا، في فهمي القاصر، أعظم نقض لدعوة السفراء الإلهيين الذين جاؤوا أساسا ليذكّروا الناس بالخالق ليكون جل وعلا حاضرا في قلوبهم مذكورا على ألسنتهم مكدوحا إليه بجوارحهم.
ذات الأمير (ع) يقول: “ما رأيتُ شيئاً إلا ورأيتُ اللهَ قبلَهُ وبعدَهُ ومعهُ وفيه”، وشاعرنا لا يرى إلا عليا ولا يذكر سواه!
الأمير (ع) يدعو ويعلمنا أن ندعو: “وَاجْعَلْ لِساني بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً”، وشاعرنا لا يلهج إلا بذكر علي!
أترى عليا (ع) يفرح بهكذا موقف وتعبير؟!
أحسب أن هذه إساءة أدب، لا مع الله تعالى وحده، وكفى بها إساءة، بل حتى مع أفضل الخلق محمد (ص) الذي يصف علي نفسَه بالقول: “وَيْلَكَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍ (ص)”.
يقول الله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ …
ويقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
ويقول المصطفى (ص): اللَهُمَّ *أَنْتَ* ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، *وَأَنْتَ* رَجَائِي فِيكُلِّ شِدَّةٍ، *وَأَنْتَ* لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ..
ويقول الأمير (ع): وَاجْعَلْ لِسانى بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً..
ويقول الحسين (ع): فَإِنْ دَعَوْتُـكَ* أَجَبْتَنِي، وَإِنْ سَأَلْتُـ*كَ* أَعْطَيْتَنِي، وَإِنْ أَطَعْتُـكَ* شَكَرْتَنِي، وَإِن شَكَرْتُـكَ* زِدْتَنِي.
فلا أظن أننا في مندوحة عن هذه المعاني الجوهرية، أو أنه يسعنا التفريط بها أو تمييعها لصالح تعبيرات من أي كان، بل ينبغي لنا ترسيخها في مواقفنا قولا وفعلا حتى في الشعر والأدب.
( ٢ ) قال الشاعر “بس الله ما ينزل إلي”!
وهذا تصوير للإله كتصوير السلفيين؛ بأنه فوق وبعيد جدا!
وتصوير لعلي (ع) أنه أقرب إلينا من رب عليّ!
وهذا باطل وخلاف عقيدة الإمامية بل عموم المسلمين في الله سبحانه!
ففي حين يقول الله تعالى: “… وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ …”
ويقول تعالى: … فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ …”
ويقول تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ”..
على النقيض يقول الشاعر: “بس الله ما ينزل إلي”!
وفي حين يقول الله تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”..
ويقول تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ”.
على النقيض يقول الشاعر:
كل يوم أقولن يا علي
(لا يا ألله، لأن الله ما ينزل إلي)
وكل ساعة أقولن يا علي
(لا يا ألله، لأن الله ما ينزل إلي)
وكل لحظة أقولن يا علي
(لا يا ألله، لأن الله ما ينزل إلي)
وبالنوم أصيحن يا علي
(لا يا ألله، لأن الله ما ينزل إلي).
( ٣ ) كثيرا ما نلزم أنفسنا بخواطر بشرية هائمة؛ تخطر على قلب شاعر هنا أو مدعي عرفان هناك، دون أن تُستمد هذه الخواطر بالضرورة من آية أو رواية، بل قد تتعارض مع قطعي الأثر نصا وروحا.. ما يوقعنا في شبهات عقدية من جهة، وحرج أمام المخالف المتربص المتصيد من جهة ثانية، فيضطرنا لتأويلات نحن في غنى عنها.
أليس التمسك بالنص المعصوم أولى من تكلف تأويلات باردة لتبرير نص قاله فلان وعلان؟!
( ٤ ) على فرض أنه لا إشكال عقديا مع الكلام الآنف، تُرى أليس الأجدر تركه نظرا لما قد يترتب عليه من مفاسد واجبة الدفع؛ كوقوع عوام الموالفين في الغلو، ودفع عامة المخالفين للنفور؟
إذا لم يسعنا إشاعة خطاب حكيم يقرّب الآخر، ألا يسعنا ترك الخطاب المنفّر له على الأقل؟
لماذا يوهن بعض الأدباء حضور الله في أنفسنا، ويهمّش مقام النبي في وعينا، ويجعل عليّا (ع) المحور في منظومتنا العقدية والأساس في بنائنا العاطفي والمهيمن على شعورنا ولاشعورنا؟!
* * *
وختاما مولانا، أعتذر مجددا على الإطالة، ومن أي تعبير قد لا تجدونه لائقا، لكني آثرت مصارحتكم بما يدور في خلدي؛ كي يمكنكم الرد بما ترونه مناسبا.
أشكركم شيخنا الغالي؛على سعة صدركم وحسن تفهمكم، وأتطلع لتلقي فيضكم قريبا إن شاء الله تعالى.
دمتم مؤيدين مسددين.
_____________________________________________
*الجواب :*
بسم الله الرحمن الرحيم
و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته سماحة الأستاذ المبجل ..
تقبل الله أعمالكم و أسعد الله أيامكم ..
ليس كل ما يقوله شاعر أو خطيب منتمٍ لمدرسة أهل البيت عليهم السلام حقا و منبثقا عن معارفهم و علومهم صلوات الله عليهم أجمعين فلا يُنسب إلى المذهب الحق إلا ما صدر من أعاظم العلماء الذين درسوا الدين و معارفه وفقا لمنظومة فكرية متكاملة جامعة مترابطة يصدّق أولها آخرها و يؤكّد آخرها أولها ( مع أن احتمال الخطأ موجود حتى في العلماء إلا أنه ضعيف نتمكن معه إسناد ما يبينه العلماء و يتبنونه إلى الطائفة غالبا ) فالشاعر يطعّم كلامه بالخيال و يستعمل الكناية و المجاز و قد يمزج الحق بالباطل حتى قيل في الشعر أن أكذبه أعذبُه ( أو العكس ) .. نعم هناك من الشعراء من يستمد في أشعاره من حقائق الدين و معارف أهل البيت عليهم السلام و يسعى تجنيب نظمه عن الأوهام و نسج الخيال .. كما أن الخطيب قد يكون عالما ذا منظومة فكرية و علمية، عارفا بالقواعد العامة و تطبيقاتها بدقة عالية فيمكن الإعتماد عليه و أخذ المعارف منه بكل ثقة و طمأنينة و قد يكون مجرد مخزن لمعلومات – واسعة أو ضئيلة و في دائرة ضيقة – جمعها من هنا و هناك من دون أن تكون لديه منظومة فكرية و نظريات جامعة تدور معلوماته حولها و يستند في تفريعاته إليها فيُبتلى بطرح ما لا يلائم و روح الدين و المذهب الحق أحيانا و بذكر ما ينافي الأسس العلمية المستفادة من حاق الدين أو المستنبطة و المقنتصة من النصوص أو إشاراتها أخرى .. فلا يمكن الاشكال على دين أو مذهب من المذاهب بما يقوله شاعر لا يتجاوز في معلواته و ما ينظمه حدَّ الخيال و ما تُصَوِّره له قوتُه المتخيلة و لا يصل إلى فرش العقلانية فكيف بعرشها ، أو بقول خطيب يتخد أسلوب الخطابة و الشعر لإيصال معلوماته إلى مخاطبيه المختلفين من حيث الفهم و الأدراك .. فالمنهجية العلمية يقتضي عدم الالتفات في الإشكالات إلى القشور و الألفاظ المستخدمة بل يلزم النظر إلى اللب و مغزى الكلام فهو – أي الخطيب – مضافا إلى أنه يخاطب عامة الناس و من هم في مستويات مختلفة فيريد إيصال المعلومة لهم بطرق مختلفة و أساليب متنوعة و بالاستفادة من مبانٍ فكرية دقيقة أحيانا و من تمثيلات أو تصويرات من المتخيلة أخرى ، مضافا إلى ذلك قد لا يتمكن من إيصال المعلومة بدقة أو أنه قد لا تكون المعلومة مهضومة واضحة لديه نفسه ليتمكن من إيصالها إلى مخاطبيه بدقة و بعبارة واضحة موصلة، فنراه يتحدث عن التوحيد الأحدي أو الأفعالي أو عن القضاء و القدر أو أي مبحث آخر عقدي أو معرفي أو .. من دون أن يكون قد أدرك – هو بنفسه – المعنى الصحيح أو الدقيق لهذه المعتقدات و المعارف ..
و أما بالنسبة لما ورد في هذه الأبيات فقد لا تكون الألفاظ المستعملة فيها دقيقة و قد لا يتناسب ظاهرها و بعضَ المعتقدات و المعارف الحقة إلا أنه من الواضح أن المقصود و المعنى المراد حق و ليس خارجا عن إطار الدين و نطاق المذهب الحق ..
و هذا العبد مع قصور فهمه لا يجد في عبارات هذه الأبيات – أو لِنَقُل في مقاصدها – ما يتنافى و دعوة السفراء الإلهيين فإن دعوة الأنبياء و الأولياء منحصرة في الهداية و الدعوة إلى الحركة نحو الكمال بإزالة العيوب و النقائص عن طريق تهذيب النفس و تحصيل – و من ثم ترسيخ – عناصر الكمال بالعلم و المعرفة و الأخلاق و العمل الصالح و كل ذلك للوصول إلى القرب العبودي و المعرفي إلى الله تعالى الذي هو جل و علا عين الكمال فيكون الكمال هو القرب إلى من هو عين الكمال و هو – اي القرب الذي له درجات كثيرة منها الفناء و فوقه درجات .. – الهدف الأعلى و النهائي للتكوين و التشريع .. و لكن الإنسان فيه استعداد و قابلية الوصول إلى عليا درجات الكمال التي من أجلها أمِرت الملائكة و من لم يكن منهم بل عُدّ منهم، أمِروا بالسجود له أو لله لأجله و لشكر الله على خلقه ، فهذا الاستعداد موجود في الانسان إلا أنه مجرد قابلية مع قوىً مُعِيْنَةٍ له على ذلك فليس الإنسان بحد ذاته واجدا لتلك المراتب بالفعل بل عليه تحصيلها و يحتاج لتحصيلها إلى هادٍ قد بلغ تلك الدرجات ليهديه إليها – لأن فاقد الشيء لا يعطيه – فإذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين هم الكُمّلَ الذين وصلوا مقامات القرب و كمالهم هو قربهم ممن هو عين الكمال و لا يمكن ذلك إلا بكونهم متخلقين بأخلاق الله و أن يكونوا مظاهر أسمائه الحسنى و صفاته العليا ، إذا كانوا كذلك كان حبهم حبا لله لأن حبهم ناتج عن حب ذلك الكمال الحاصل بالقرب إلى الله تعالى فمنشأ حبهم حب الكمال و الله هو عين الكمال ولهذا يكون حبهم قنطرة إلى حب الله كما يصرح الشاعر و يقول ان الذي يرفعني إلى الله هو حب علي حيث أننا نجده مظهر أسماء الله و صفاته كما قالوا صلوات الله عليهم أجمعين : “نحن و الله الأسماء الحسنى” بل نقول – بالبيان السابق – فوق ما يقوله الشاعر فإن حبهم ليس مجرد قنطرة إلى حب الله بل هو ناتج عن حب الله بل هو عين حب الله عز و جل و لولا حب الله الذي هو عين الكمال و الجمال و الجلال لما أحببناهم عليهم السلام لأن ملاك و منشأ الحب هو الكمال و الجمال و الله عين الكمال و الجمال و هؤلاء مظاهر لذلك الكمال و الجمال فحبهم حب الكمال و الجمال أي أن حبهم حبٌّ لله مضافا إلى أنهم مجاري فيضه تعالى في أصل الوجود و استمراره في عالم الإمكان ..
فليس هناك تصريح بغياب الله عن ذكره بل تصريح بأن حب علي هو الرافع إلى الله تعالى فهو تصريح بأن الهدف هو القرب إلى الله تعالى و لكنني و لأجل نقصي و تعلقي بعالم المُلك و الطبيعة و عدم خروجي عن نطاق هذا العالم – عالم التزاحم و تراكم الحجب – غير قادر على الارتقاء إلى عالم الملكوت و ما فوقه من دون أن يكون هناك هادٍ يكون مظهرا لصفات الله و أسمائه الحسنى و مجرىً لفيضه في قوسي النزول و الصعود، فالهدف هو القرب العبودي و المعرفي إلى الله تعالى و الموصل إلى ذلك هو الإنسان الكامل و حبُّه – أي حب الإنسان الكامل – أولاً حبٌّ للكمال و الله هو عين الكمال و ثانيا دافعٌ قلبيٌّ و باطني إلى الحركة نحو ذلك الكمال فلا يكون حب علي مستقلا عن حب الله تعالى فكيف بأن يكون منافيا له، فليس حب علي جُنّة من النار فحسب بل حبه عبادة لله تعالى لان حبه عليه السلام حبٌّ للنبي و حبُّ النبي حبُّ لله كما في الروايات و هل الدين إلا الحب كما في روايات أخرى، و لهذا قد ورد في بعض الروايات التصريح بكون حب علي عبادة ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام : ” حبّ علي عبادة، و أفضل العبادة ما كتم – و في رواية أخرى : و خير العبادة ما كتمت ” فحب علي سيرٌ و حركة نحو الكمال المؤدي و الموصل إلى درجة يتمكن الإنسان بوصوله إليها أن يقول : ” ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله و بعده و معه و فيه ” و الأدق أن نقول – و كما أسلفنا – أن حبه ناتج عن حب الله فحبه حب الله و ليس مستقلا عنه فضلا عن كونه منافيا له ..
و أما ما ورد في كلامه من أن الله تعالى لا ينزل إلي فليس المقصود تجسيم الله تعالى و عوذا به فهو بعيد كل البعد عن مذهب أهل البيت عليهم و مدرستهم صلوات الله عليهم أجمعين فقد عارضوا و حاربوا فكرة التجسيم ببيان واضح و استدلالات دقيقة عقلية و نقلية من الكتاب و السنة .. فإذا قال أن الله تعالى لا ينزل فلا يعني التجسيم بل على العكس من ذلك تماما فإن المقصود أن الله تعالى ليس بجسم حتى ينزل إلي و من جانب آخر أنا لم أبلغ درجة أتمكن من مشاهدة الله تعالى ببصيرتي فأحتاج إلى من يكون مظهرا لصفات الجمال و الجلال لأتمكن من مشاهدة جماله تعالى عن طريق مشاهدة مظاهره و من هو أكبر آيات الله ( ما لله آية أكبر مني ) فالله أقرب الينا من حبل الوريد و لكننا نحن المحجوبون فليس المقصود انه تعالى محجوب ليس بحاضر لا يرانا و .. بل نخن المحجوبون بأنواع مختلفة من الحجب المادية بل و المعنوية – ححب الظلمة و النور – فقد يصبح العلم و غيره مما هو في واقعه نورٌ حجابا … هذا أولا و أما ثانيا فهم وسائط الفيض و الله تعالى إنما يفيض إلى العباد و عليهم ما يفيض بواسطتهم بدءاً من أصل وجودنا إلى أبسط الأمور التي نحتاج إليها و قد أشرنا إلى أننا في قوسي النزول و الصعود محتاجون إلى وسائط الفيض ففيضان الوجود من الله تعالى على الخلق يكون لأجلهم – و المفيض هو الله لا سواه و لكن لولاهم لما أفاض الله الوجود على من و ما سواه – و بعد أصل الوجود : ” بهم رزق الورى و ثبتت الأرض و السماء ” و لهذا : ” لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها ” فكما أنه لولاهم لما خلق الله الخلق كذلك لو خلت الأرض عنهم و هم الحجج الإلهية لما بقيت حكمة لبقاء من سواهم و لهذا لساخت الأرض بأهلها .. و هذا في قوس النزول مضافا الأبعاد المعرفية و نزول المعارف الإلهية بالوحي و الإلهام على قلوبهم و وصولها الينا عن طريقهم و .. و في قوس الصعود الذي من جملته الوصول إلى معرفة الله لا يكون إلا عن طريقهم لأنهم الحجج الهداة الهادون المهديون الذي وصلوا إلى ما يريدون إيصال الخلق إليه و فوقه .. فالله تعالى لا ينزل إلي بهذا المعنى مضافا إلى أن الله تعالى لا يتنزل إلى عالم المادة و الطبيعة ليكون موجودا متناسبا مع المادة لنشاهده مع أن العالم بأجمعه حاضر لديه و بمحضره .. بل نحن علينا أن نرتقي و نتجرد عن ظلمات عالم التزاحم شيئا فشيئا فنصل إلى الله تعالى فنحتاج إلى من يتمكن من مساعدتنا و هدايتنا إلى طريق التجرد المعنوي للوصول إليه جل و علا و …
فالمؤالف يلزم تثقيفه ليرتقي مدارج الكمال و المعرفة لا أن نترك ذكر المعارف كي لا يلتبس عليه الأمر ( و لا اقصد أن ما ورد في هذه الأبيات هي المعارف الراقية و التي لا يمكن الخدش فيها بل المقصود أنه اولا يمكن تفسير ذلك بنحو صحيح و ثانيا جاء الأنبياء و الأولياء لإيصالنا إلى درجات الكمال و المعرفة العليا فعلينا تبيين تلك المعارف بنحو لا يقع المؤالف في شبهات عقدية لا أن نترك بيانها .. و أما المخالف فإن كان خلافه عناداً فهو يبحث عن كل شيء لضربنا و الخدش في عقيدتنا و لا يمكن ترك ذكر المعارف لأجل أن لا ينفر هؤلاء، و إن لم يكن عنادا فعلينا إيصال الحق إليه و بيانه و بيان المقاصد بأدلتها لا أن نترك ذكر الحقائق ..
و طبعا كثيرا ما نواجه سؤالا من قبل هؤلاء و لا سيما عندما نبين لهم الحق و نثبت لهم أن الاستشفاع و التوسل ليسا من الشرك في شيء و لا يعدان عبادة لغير الله تعالى، و لا ينطبق مفهوم العبادة على شيء من مصاديق التوسل و الاستشفاع الصحيحين كما لا ينطبق مفهوم التوسل و الاستشفاع الصحيح على شيء من مصاديق العبادة، كثيرا ما نواجَه بهذا السؤال : أليس التوجه إلى الله تعالى مباشرة أفضل من التوسل إليه جل و علا بغيره ؟.
فنقول في الجواب ( مع غض النظر عن كون هذا السؤال بحد ذاته إقراراً بصحة التوسل و الاستشفاع و أنهما ليسا من مصاديق الشرك و عبادة غير الله تعالى ) أولا ليس التوسل إليه بالأولياء توجهاً إلى غيره تعالى فقد أشرنا إلى الروايات التي تدل على أن حبًّ علي حبٌّ للنبي و حبُّ النبي حبٌّ لله و التي تقول إن حبَّ علي عبادة أي أنه عبادة لله جل جلاله كما أنهم سلام الله عليهم أسماؤه الحسنى – أسماؤه الوجودية – فالتوسل بهم توسل بأسمائه الحسنى .. مضافا إلى أن الوسيلة إذا كانت من قِبل الله تعالى فليس التوسل بها توسلاً بغيره جل و علا و أضف إليه أيضاً أنه تعالى هو من أمرنا بالتوسل في آيات متعددة و روايات كثيرة ..
و ثانيا قد يكون التوجه المباشر إلى الله تعالى أفضل من التوجه إليه عن طريق الواسطة أحيانا و لكن ليس دائما فإنه قد يكون التوجه اليه بالتوسل بوسائط الفيض و المقربين لديه أفضل و لا سيما إذا كان ذلك لأجل قضاء الحوائج و طلب الغفران و لهذا يأمرنا القرآن الكريم بابتغاء الوسيلة أحيانا كما يبين لنا أنه إذا جاء الظالم لنفسه عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم مستغفرا من ذنوبه و انضم إلى استغفاره استغفار النبي صلى الله عليه و آله و سلم له لوجد الله توابا رحيما ..
و ببيان و طريق آخر ذلك : هناك ثلاث طوائف من آيات القرآن الكريم إذا نظرنا إليها بدقة و دققنا في ارتباط بعضها ببعض تبين لنا أنه يلزم أو يُفضَّل أحيانا أن نتوجه إلى الله تعالى بالتوسل و الاستشفاع بالاولياء صلوات الله عليهم أجمعين، و الآيات هي :
الطائفة الأولى هي الآيات التي تشتمل على وعد إلهي قبال عمل ما و من جملتها الوعد باستجابة الدعاء الخالص ( إذا توفرت فيه سائر الشروط ) حيث قال تعالى : ” ادعوني أستجب لكم ” و كذا الآيات التي تَعِدُ بالثواب و الدرجات في الجنة و جنة الرضوان و ..
الطائفة الثانية هي الآيات التي تبين عهدنا مع الله تعالى بالطاعة له و ترك عبادة الشيطان و النفس الأمارة و طاعتهما و من جملتها قوله تعالى : ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكن عدو مبين ” و من المعلوم أن المقصود من عبادة الشيطان طاعته التي هي نوع من العبادة و هو من الشرك في الطاعة و قد ورد في الأخبار أنه : “من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق ينطق عن الله فقد عبد الله و إن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان” فعهدنا مع الله تعالى هو عدم طاعة الشيطان و مَن ينطق عنه ..
و الطائفة الثالثة هي الآيات التي تربط وفاء الله بعهده لنا بوفائنا بعهدنا له كقوله تعالى : ” أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم ” ( و إن كان الخطاب موجها الى بني إسرائيل إلا أن خطابات القرآن عامة شاملة للجميع و مخاطبة شخص أو فرقة أو قوم لا تخصصها بهم فإن المورد لا يخصص الوارد ) .. و يمكن تفسير الآيات التي تُعَلِّقُ قبولَ الصالحات و العبادات على التقوى بذلك كقوله تعالى : ” إنما يتقبل الله من المتقين ” فالتقوى وفاء بعهد الله و القبول وفاء الله تعالى بعهده لنا ..
فإذا كان الله تعالى قد وعدنا بالاستجابة و بقبول العبادات و الطاعات و طلب منا الوفاء بعهده و ما وَعَدْناه به و علّق وفاءه بعهده على وفائنا بعهده لزم أن نطيعه في كل شيء و لا نعصيه كي يتحقق الوفاء بالعهد و الوعد و التقوى ليوفي بما تعهد به لنا و وعدنا به ، و نحن نعلم أن البعض مبتلون بعدم الوفاء بما وعدوه تعالى لصدرور المعاصي منهم فلم يتحقق الشرط منهم ليتحقق المشروط به و المعلًّق عليه فلا ضمان باستجابة الدعاء أو قبول الأعمال و ترتب الثواب و نيل القرب و الرضوان، و أما الأولياء المعصومون عليهم السلام فقد تحقق منهم الشرط ( الوفاء بعهده الله تعالى ) قطعا لأنهم حسب الافتراض معصومون منزهون عن الذنوب و المعاصي مطهرون من الأرجاس و الأدناس فسيكون وفاء الله تعالى بعهده لهم أيضا قطعيا ف”إن الله لا يخلف الميعاد” ..
و النتيجة أن التوسل و الاستشفاع في أمثال هذه الموارد أقرب إلى تحقيق النتيجة لأن التوسل و الاستشفاع يرجع إلى طلب و التماس الدعاء من المعصوم عليه السلام فإذا دعا المعصوم استجاب الله له تعالى ، و بعبارة أخرى إذا دعونا الله تعالى بألسنتنا فقد يستجاب لنا بفضل الله تعالى و قد لا يستجاب بعدله جل و علا و أما إذا دعوناه بلسانٍ لم نذنب به استجاب الله لنا كما في بعض الروايات و إذا كان ذلك اللسان لسان معصوم من المعصومين عليهم السلام كانت الاستجابة قطعية لأن الوفاء بعهد الله متحقق قطعا فوفاء الله بعهده له عليه السلام أيضا سيكون قطعيا بلا ريب ..
وفي النهاية أعتذر للإطالة و قصور البيان في إيصال المقاصد ..
موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و بلاء بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
أيوب الجعفري
ليلة الأحد ٤ شوال ١٤٤٢ ق
الموافق ١٦ / ٥ / ٢٠٢١ م
https://telegram.me/ayoobaljafary