الحكمة في وجود الألطاف الخفية

*سؤال من أحد المؤمنين :* عندي تساؤل !!؟.. ما الحكمة من وجود الالطاف الخفية لله سبحانه و تعالى جل اسمه . لماذا لا تكون الألطاف جميعها ظاهرة واضحة للعباد؟!!

_____________________________________

*الجواب :*

*بسم الله الرحمن الرحيم :*

لهذا السؤال جوانب مختلفة و يحتاج إلى جواب تفصيلي إلا أنه و لضيق الوقت و كثرة الأسئلة أشير إلى جواب إجمالي و قد أُوَفَّق للجواب التفصيلي مستقبلا بعون المعبود جل و علا ..

جميع نعم الله تعالى – المادية منها و المعنوية – ألطاف منه على العباد بل و العباد أنفسهم نِعَمُ الله تعالى لهم أنفسهم أو لهم و لغيرهم ، كما أن تأييد العباد و تسديد المؤمنين و إنزال الرحمة عليهم و تعبيد طريق الكمال لهم أيضاً ألطاف منه جل جلاله عليهم .. إلا أن ألطافه جل و علا قد تكون جلية واضحة للعباد و قد تكون خفية ، و لخفاء أو إخفاء الألطاف الإلهية عللٌ و حِكَم فمن الحِكم هو أنه لو كانت جميع الألطاف جلية واضحة أصبحت أمورا طبيعية عادية لا يهتم الإنسان بها ( كما نقول ذلك في المعاجز فإن الإنبات و إحياء النباتات و خلق الانسان من التراب المتحول الى النبات و من ثم الى غذاء الانسان و الحيوان و من ثم إلى أجزاء جسم الانسان و إلى النطفة و من ثم إلى العلقة و المضغة و … و الأعظم من الجميع نفخ الروح فيه أو إنشاؤه خلقاً آخر – حسب التعبير القرآني – كل ذلك من الأمور الإعجازية إلا أنها و لكونها أمورا جلية أو مشهودة للانسان طوال حياته و بكثرة ، تعتبر أمورا عادية و ليست من خوارق العادة فلا يراها و لا يعتبرها الإنسان معاجز إلهية أو يغفل عنها و .. و الألطاف الإلهية أيضا إذا كانت جميعها جلية لأصبحت أمورا عادية ) و قد يغفل عنها فلا يؤدي شكرها فالهواء و الماء و الطعام و الصحة و الأمان و قوة الإبصار و السمع و القدرة على التعقّل و التعلّم و .. نِعَمٌ و ألطاف إلهية يغفل الكثير منها و لا يستشعر بها إلا إذا فقدها فلو كانت جميع الألطاف و النعم الإلهية هكذا لغفل الإنسان عنها و لَربما ابتُلي بالعجب – بحصول كل ما يريد و يأمل بكل وضوح و جلاء و من دون بلاء و ابتلاء – و أدى به إلى الكفران بل و الطغيان احيانا و .. فمن الضروري أن تكون هناك ألطاف خفية يستشعر بها الإنسان بعد ظهورها فيشعر بجهله و ضعفه و حاجته المطلقة إلى من يفيض هذه النعم و يلطف بعباده و ينعم عليهم بهذه الألطاف ، فيُصان بذلك عن كفران النعم و الطغيان و تجاوز الحدود أيضاً و .. مضافا إلى حصول المعرفة باليد الغيبية التي تدير الكون و تدبر عالم الوجود بنحو إعجازي لا يتوقعه الانسان فيزداد و يترسخ إيمانه بالغيب كما تقوى ثقته و من ثم علاقته بعالِم الغيب و الشهادة العزيز المتعال ..

و من جانب آخر الدنيا دار ابتلاء و امتحان فيلزم ان يُبتلى الناس بالصعوبات و البلايا فتظهر كمالاتهم أي تخرج عن القوة و الاستعداد إلى كمالات فعلية ، فيبتلى الإنسان بما هو في باطنه لطف و نعمة و رحمة من الله تعالى لأن الصعوبات و البلايا مضافا الى أنها مدرجة للكمال و الرقي إلى مقام الرضا بقضاء الله و قدره و مقام التسليم و .. و ذلك بالصبر عليها و تحملها و .. تَحمِل في طياتها خيراتٍ و بركاتٍ خفيةً لا يعرفها الإنسان إلا بعد ظهورها و لهذا يقول جل و علا : ” و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم .. ” و يقول جل جلاله : ” فعسى ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا ” فقد يكره الإنسان بلاء و محنة نزلت به أو بأحبائه و لكنها تحمل في باطنها خيرا ، و قد يُدفع أو يُرفع عنه ما هو بظاهره خير و لكنه يحمل في باطنه شرا .. و هذا من جملة ما يفسر لنا ما ورد من الحمد على المصائب كما في زيارة عاشوراء القدسية حيث نحمد الله تعالى حمد الشاكرين على المصيبة و نحمده على عظيم الرزية فنقول ساجدين له جل و علا : ” اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم الحمد لله على عظيم رزيتي .. ” .

و بهذا يتبين لنا سبب ذلك ايضاً أي أنه يتبين لنا العلة في وجود ألطاف خفية – مضافا الى حِكَمها و الفوائد المترتبة عليها – فإن من جملة العلل الأساسية في كونها خفيةً جهلُ الإنسان و عدم علمه ببواطن الأمور و حقائق الأشياء ، و من المعلوم أن لإنسان بطبيعة الحال لا يكون عالما بكل شيء بل لا يقاس علمه بجهله و لا تقاس معلوماته بمجهولاته و لو كان عالما بكل شيء و بظاهر العالم و الكون و النعم الإلهية و باطنها ، لما كانت الألطاف الخفيةُ خفيةً عليه إلا أنه لا يتحقق هذا الأمر بل قد يستحيل تحقق بعض مراتبه للجميع ، و للجهل بالخفايا أيضا حِكَمٌ منها ما أشرنا إليه كأن يبقى الإنسان شاكراً لأنعم الله تعالى و عارفاً بحقيقته و حاجته الذاتية و المطلقة و فقرِه التام بل و كونه عين الفقر الى الله تعالى ، و بجهله و سعة دائرة مجهولاته مما يحوجه الى الالتجاء إلى العليم القدير اللطيف و … مضافا الى اقتضاء التكليف و الامتحان و الابتلاء لذلك الخفاء كما تقتضي ضرورة التعبد بأحكام الله تعالى و التسليم لأمره جل و علا خفاءَ كثير من علل الأحكام بل و حِكَمها أحيانا و .. و لهذا عندما يتطرق سبحانه و تعالى إلى ألطافه الخفية يصف نفسه باللطف و العلم و أحيانا يُقْرِنه بنفي العلم عن الناس فيقول عز من قائل – ذيل الآية السابقة – : و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم *و الله يعلم و أنتم لا تعلمون* ” و يحكي جل جلاله كلامَ النبي يوسف على نبينا و آله و عليه السلام بعد بيان ألطافه تعالى الخفية و الجلية عليه سلام الله عليه فيقول : ” وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي *إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* ” و يقول عز و جل بعد بيان بعض نعمه : ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً *إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* ” و آيات أخرى تُقرِن العلم باللطف .. و بما أن الإنسان جاهل بكثير من الحقائق و بالنعم الكامنة في حوادث الكون و الألطاف المترتبة على ما هو بظاهره من المصائب و .. يكون كثيرٌ من الألطاف الإلهية بالنسبة إليه خفية ..

موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..

أيوب الجعفري

ليلة الخميس ١٧ ذو القعدة الحرام ١٤٤١ ق
الموافق ٩ / ٧ / ٢٠٢٠ م
https://telegram.me/ayoobaljafary