مخاطبة الأموات و التوسل بهم
سؤال من أحد المؤمنين : سلام عليكم .. إذا أمكنكم أريد جوابا على من يستشكل على التوسل بالأموات و مخاطبتهم ، و الاستشهاد بالآيات و روايات أهل السنة غير آية ” أحياء عند ربهم يرزقون ” .
الجواب : و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك آيات متعددة تدل على الحياة البرزخية للمؤمنين و الكفار جميعاً و قد فصلنا الكلام حول ذلك في أجوبتنا على بعض أسئلة المؤمنين سابقا و سأشير لكم هنا إلى بعضها بشيء من التوضيح فمنها :
١ – الآية التي أشرتم إليها و نظيرتها و اللتان تتحدثان عن الشهداء الذين يُقتَلون في سبيل الله تعالى فيقول تعالى في إحداهما : ” بل احياء عند ربهم يرزقون ” كما يقول في الأخرى : ” بل احياء و لكن لا تشعرون ” ، و يلزم الالتفات إلى أن الخلاف في اصل الحياة البرزخية و ليس في شموليتها للجميع و لهذا فإن من ينفي هذه الحياة ينفيها من الأساس لا أنه ينفيها عن البعض و يثبتها لبعض آخر ، كما أن من يثبتها يثبتها للجميع ، فإذا ثبت بدليل أن قسماً من الأموات أحياءٌ ثبت أن الجميع أحياء لعدم القول بالفصل ، و بعبارة أخرى النافي للحياة البرزخية يلزمه نفيها عن الجميع و إثبات عدم وجود هذه الحياة لأحد لأنه لو ثبتت للبعض – و لو كان لشخص واحد – ثبتت للجميع فلا يتمكن من ادعاء امتناع هذه الحياة و لا ادعاء اختصاصها بالبعض ، و من المعلوم الذي لا غبار عليه أن هاتين الآيتين تدلان على أن بعض الأموات أحياء و هم الشهداء فيلزم الاعتراف أولاً بالإمكان – و إن كان إمكان الحياة فيما بعد الموت قبل يوم الحساب عقلاً مما لا ريب فيه إلا أن الدليل النقلي أيضاً مثبت له – و ثانياً بالشمولية للجميع ، و للكلام في هذا الجانب مجال واسع إلا أننا نكتفي بهذا المقدار روما للإختصار ..
٢ – قوله تعالى عن مؤمن سورة يس و الذي استشهد في سبيل الله تعالى : ” قيل ادخل الجنة ، قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين ” فقوله تعالى “قيل ادخل الجنة” يدل على أنه حي كما أن قوله “يا ليت قومي يعلمون” يدل على أنه ليس في القيامة لأن الناس و قومه في القيامة سيعلمون أنه دخل الجنة فقوله يا ليت يدل على أنهم لا يعلمون بل يستحيل – استحالةً عادية لا ذاتية – أن يعلموا لأن “ليت” للتمني و التمني يكون فيما لا يتحقق عادة كقول الشاعر : ” ليت الشباب يعود يوما” و من المعلوم أن الشباب لا يعود عادة و الأحياء أيضا لا يعلمون بما يجري على الميت لولا إخبار الوحي و من له اتصال بعالم الغيب و .. فيلزم أن تكون هذه الحياة غير الحياة في القيامة لانه يتمنى أن يعلم قومه بغفران الرب له و بكرامته و هم في القيامة سيعلمون ذلك قطعا و لا معنى لتمنّي علمهم فهي الحياة البرزخية التي لا يشعر بها الأحياء في الدنيا عادةً ، فالجنة التي يتحدث عنها القرآن في هذه الآيات جنةٌ برزخية ..
٣ – بالنسبة للكفار يقول تعالى عن آل فرعون : ” .. و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً و عشياً و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ” فالنار التي يعرضون عليها ليست نار القيامة لأن نار القيامة دائمية و ليس العرض عليها في الصباح و الليل فقط مضافاً إلى أنهم في يوم القيامة سيدخلون النار لا أنهم يعرضون عليها كما أن قوله بعد ذلك :” و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ” يدل على أن النار التي يعرضون عليها غير نار القيامة فهم أحياء و لهذا يعرضون عليها و أما في القيامة فهم سيدخلون أشد العذاب ..
٤ – يقول تعالى عن قوم نوح الذين أغرقوا : ” مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصاراً ” و من المعلوم أن الفاء في قوله تعالى “فأدخلوا” للتفريع أي أنهم بمجرد الغَرَق أُدخلوا نارا و لو كان المقصود دخولهم في النار يوم القيامة لكان الصحيح أن يستعمل لفظ “ثم” الذي يدل على التراخي مضافاً إلى أنه كان المناسب أن يستعمل الفعل المضارع فيقول : ” ثم يدخلون أو سيدخلون ..” – و إن صح استعمال الماضي في المستقبل المحقَّقِ الوقوع – فدل ذلك على أن النار التي دخلوها هي نار برزخية .. مضافا إلى أن القيامة لم تَقُمْ بعدُ حتى تكون النار التي أدخلوا فيها مباشرة بمجرد الغَرَق نار القيامة ..
و هناك آيات أخرى أيضاً تدل على الحياة البرزخية بعد الممات و قبل يوم القيامة إلا أننا نكتفي بهذا المقدار فإنه إذا ثبت أمر بالقرآن و لو بآية واحدة كفى في الإثبات و الإعتقاد و لا داعي للإكثار ..
و من جانب آخر هناك آيات تدل على وجود الارتباط بين الأحياء و الأموات و أن الموت لا يعني الانقطاع التام كقوله تعالى عن قوم صالح لما عقروا الناقة : ” فعقروا الناقة و عتوا عن أمر ربهم و قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين ” ( الاعراف : ٧٧ – ٧٩ ) فدلت الآيات – بناء على أحد الاحتمالين فيها – على أن صالحاً على نبينا و آله و عليه السلام كلّمهم بعد ما نزل عليهم العذاب و أصبحوا في دارهم جاثمين حيث يقول أنه بعد ما أصبحوا كذلك تولى عنهم صالح و قال يا قوم لقد أبلغتكم .. لدلالة الفاء في “فتولى” على التفريع أي متفرعاً على أخذ الرجفة إياهم و صيرورتهم جاثمين في دارهم قال لهم ذلك ، و إن احتمل البعض أن يكون ذلك من تمام الاحتجاج حينما كان يحاورهم و يحاجّهم فكان ذلك اتماما للحجة عليهم إلا أن الذي يظهر لهذا العبد هو أن الاحتمال الأول هو الاقوى لا سيما مع ملاحظة “الفاء” في قوله تعالى : “فتولى” كما أشرنا فيكون مدلول الآية نظير الروايات التي تنقل لنا مخاطبةَ أمير المؤمنين عليه السلام لطلحة بعد مقتله في وقعة الجمل و حديثَه مع أهل القبور بعد رجوعه من صفين و الذي قال فيه بعد انتهائه من الحديث معهم مخاطِباً أصحابَه : ” أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى ” فأثبت حياتهم و أنه من الممكن أن يخبرونا بما هو خير الزاد لما بعد الموت إلا أن المانع من ذلك عدم الإذن الإلهي – و هو ما يحتاج إلى بيان آخر حول هذا الإذن و حقيقته – …
و نظير ذلك ما ورد عن النبي شعيب عليه السلام مع قومه بعد نزول العذاب عليهم كما في سورة الأعراف من الآية ٩٠ الى ٩٣ ..
هذا مضافاً إلى أن الله تعالى يأمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يسأل الأنبياء السابقين كما في قوله تعالى : ” و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ” و قد ورد في بعض رواياتنا أن السؤال قد وقع بالفعل و ذلك ليلة المعراج ، و هذا ما ورد في بعض روايات أهل السنة أيضاً ففي الدر المنثور للسيوطي ج٦ ص ١٩ : عن سعيد بن جبير في قوله : ” و أسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ” قال : ليلة أسري به لقي الرسل ، و اخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله : ” و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ” قال : بلغنا أنه ليلة أسري به أُري الأنبياء فأري آدم فسلم عليه و .. و أخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ” قال : جُمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس ( و قد ورد هذا الحديث في مصادر أخرى لأهل السنة أيضا كجامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري ج ٢٥ ص ٩٨ الحديث ٢٣٨٨٨ و .. ) ..
أضف إلى ذلك الآيات التي تذكر السلام على الأنبياء السابقين إبراهيم و موسى و هارون و آل ياسين و في بعض الآيات ” سلام على المرسلين ، و أما الروايات التي تدل على جواز السلام على الاموات من الشيعة و السنة فهي كثيرة .. و هم في الواقع الخارجي أيضاً عندما نزور النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد النبوي يقولون ” سلِّم ” فقط و لا تقل شيئا آخر ، كما أن الجميع يسلمون على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في تسليمة الصلاة فيقولون ” السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته ” و بعض فقهاء و مذاهب أهل السنة يرون وجوب هذا السلام في الصلاة ، و الكثير من الفقهاء شيعةً و سنةً يرون الاستحباب .. ، من المعلوم أنه لو كان ميتاً كالجماد – و عوذا بالله تعالى – لا يسمع لم يكن للسلام معنى .. فكل ذلك يدل على بقاء العلاقة و الصلة بين الأحياء و الأموات و بين الأنبياء و سائر الناس فما هي المشكلة في مخاطبتهم و التوسل بهم عليهم السلام …
هذا ، و من المعلوم أن الحياة متعلقة بالروح لا الجسم فإن حياة الجسم تكون بتدبير الروح له و بمجرد خروج الروح يموت الجسم و في الأعم الأغلب يتحول إلى تراب ، و الروح تخرج عن تدبير الجسم و لا تفنى و لهذا يعبر القرآن عن قبض الروح بالتوفّي و التوفّي لا يعني الفناء بل الأخذ وافياً فالله تعالى يتوفى الأنفس أي يأخذها وافياً ( و توضيح ذلك يتطلب مجالاً أوسع ) فإذا كانت الأرواح على قيد الحياة بعد الخروج من هذه الدنيا أمكن مخاطبتها و التوسل بها حيث انه لا يمتنع ذلك عقلا و الأدلة النقلية تثبته ..
و لكي يكون لنا مثال حقيقي منقول في مصادر أهل السنة نقول أنه ورد في كتاب وفاء الوفاء ج٢ ص ٩٣٧٤ و نقله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري ج ٢ ص ٤١٢ – و قال : روى ابن ابي شيبة بإسناد صحيح .. – و المصنف لابن شيبة و … : “أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي فقال يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتاه رسول الله ص في المنام فقال : ائت عمر فأقرئه السلام و أخبره أنهم مُسقَون” ؛ و نُقل عن السمهودي أنه بعد ما نقل الرواية في كتابه دلائل النبوة قال : “و محل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه ص و هو في البرزخ و دعاؤه الله في هذه الحالة غير ممتنع ، و علمُه بسؤال من يسأله قد ورد ، فلا مانع من سؤال الاستسقاء و غيره منه كما كان في الدنيا” .
و ورد في وفاء الوفاء أيضاً – ج٢ ص ١٣٨٠ – ١٣٨٥ من طبعة مصر : إن اعرابياً جاء إلى المدينة بعد ثلاثة أيام من دفن النبي ص فرمى بنفسه على قبر النبي و وضع من ترابه على رأسه و قال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، و وعيت عن الله ما وعينا عنك ، و كان فيما أنزل عليك : “و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً” و قد ظلمت نفسي و جئتك تستغفر لي ..
و قد كان التوسل و الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مشهورا بين المسلمين و كان من الكثرة بحيث كتب بعض علماء أهل السنة كتاباً في ذلك حيث يقول السمهودي بعد ما ينقل وقائع كثيرة عن الاستغاثة و طلب الحاجة من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : أن الإمام محمد بن موسى النعمان كتب حول هذا الموضوع كتابا باسم : مصباح الظلام في المستغيثين بخير الانام . و يقول الصالحي الشامي في كتاب سبل الهدى و الرشاد ج١٢ ص ٤٠٨ : و قد ألف الإمام العلامة سيدي أبو عبد الله ابن النعمان في ذلك كتابا سماه “مصباح الظلام في المستغيثين بخير الانام في اليقظة و المنام” أتى فيه بالعجيب العجاب الذي لا يشك فيه من له أدنى تمييز فعليك به فإنه جامع في بابه .
و هناك روايات متعددة تنقل توسل عمر بالعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، و ينقل ابن حجر العسقلاني انه لما توسل الناس بالعباس عم النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال العباس في دعائه : ” … و قد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك ..” ..
و في رواية أن صفية عمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم توسلت بالنبي بعد وفاته في أبيات من الشعر فقالت : ” ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا * و كنت بنا براً و لم تك جافيا * و كنت بنا براً رؤوفاً نبياً * ليبكِ عليك القوم من كان باكيا ” .
فهي قد توسلت بالنبي أن يكون رجاءَها و ذلك بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الدنيا ، فقد خاطبت النبي بعد الرحيل من الدنيا مضافاً إلى أنها توسلت به ليكون رجاءها ..
هذا و قد نقلت المصادر المعتبرة لدى أهل السنة كالطبراني في المعجم الصغير و الحاكم النيسابوري في المستدرك و البيهقي في دلائل النبوة و السيوطي في الدر المنثور و الآلوسي في روح المعاني و .. أن النبي آدم عليه السلام لما أذنب توسل بالنبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم فقال : ” أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى الله إليه و من محمد ؟ فقال تبارك اسمك ، لما خُلقت رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله و محمد رسول الله ، فقلت إنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى إليه أنه آخر النبيين من ذريتك و لولا هو لما خلقتك ” ..
فالنبي آدم عليه السلام يتوسل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل خلقه في عالم الدنيا و لم ينهه الله عن ذلك فإذا صح و جاز التوسل قبل الخلق كان جوازه و صحته بعد الخلق في عالم الدنيا أولى و إن كان ذلك بعد الممات لأنه بعد الممات تكون حياته و روحه باقية كما أشرنا إلى بعض أدلته في البداية و أما قبل الخلق فحسب روايات أهل السنة فقد كان اسمه مكتوباً لا أنه كان موجوداً و حياً ( نعم نحن نقول بأنه و أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قد خُلقوا قبل الجميع فالنبي هو أول من خلقه الله تعالى .. )
هذا و قد نقل عن الإمام مالك أنه قال لمنصور الدوانيقي في حرم النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما سأله هل يستقبل القبلة أم النبي – قال : ” و لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام الى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله و استشفع به فيشفع لك عند الله تعالى ” ..
موفقين لكل خير ..
أيوب الجعفري
ليلة الاثنين ١٤ رجب ١٤٤١ ق
الموافق ٩ / ٣ / ٢٠٢٠م
https://telegram.me/ayoobaljafary