يا باطناً في ظهوره وظاهراً في بُطونه
السلام عليكم ورحمة الله
مأجورين مولانه
ذكر في التوقيع الشريف للشيخ محمد بن عثمان دعاءٌ مذكور فيه
أن تزيدني إيماناً وتثبيتاً *يا باطناً في ظهوره وظاهراً في بُطونه ومكنونه*
مالمراد بهذا شيخنا
____________________________________________
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
لهذين الوصفين معانٍ متعددة بعضها دقيقة يعرفها أهل المعرفة حيث يقولون أن كل موجود يأخذ من الوجود على قدر استحقاقه ، و يبرز فيه من الجمال الإلهي بقدر صفائه و خلوصه و هذه الموجودات مرائي جماله و جلاله فهو ظاهر في المرائي ، و ظهورُ هذه المرآئي ظهورُه و مع ذلك هو مقدس و منزه عنها و ليس بشيء منها .. و يمكن استفادة ذلك من أمثال قول أمير المؤمنين عليه السلام : ” مع كل شيء لا بمقارنة و غير كل شيء لا بمزايلة ” و قوله صلوات الله عليه و آله : ” داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، و خارج من الأشياء لا كشيء من شيء خارج ” كما يمكن ان يكون ذلك من جملة مقاصد قوله تعالى : ” فأينما تولوا فثم وجه الله ” و … و هذا ما يحتاج إلى بيان ليس هنا محل طرحه كما أن هذا البيان من شؤون أهل المعرفة و خارج عن عهدة غيرهم من أمثال هذا القاصر المقصر ..
و من جملة ما قيل في بيان ذلك أن جميع الموجودات الإمكانية في عالم الطبيعة و ما وراءها مراتب فعل الله تعالى فهو تعالى قد ظهر بفعله في هذه المظاهر و لكنه منزه عن أن يكون شيئاً منها فأين التراب و أين رب الأرباب فهو ظاهر بهذه المظاهر و لكنه ليس شيئا منها فهو باطن في ظهوره ..
و المعنى الآخر هو أنه تعالى عين الوجود و الوجود أظهر الأشياء بل هو – أي الوجود – عين الظهور و ظهورُ كل شيء يكون بالوجود فالله تعالى لكونه عينَ الوجود عينُ الظهور ، و للظهور مراتب و أشدها و أعلاها أخفاها فشدة الظهور يوجب شدة الخفاء و لهذا الأمر أمثلة متفاوتة كل منها يُبَيِّنُ جانباً من هذا الخفاء و البطون بنفس الظهور ، منها أن النور لفرط ظهوره غير قابل للإدراك لولا وجود الظلمة فلولا وجود الليل لما كنا نعرف معنى النور و بعد مجيء النهار نعرف أن العالَم يظهر و يخرج عن الخفاء بالنور لأن النور هو الظاهر بنفسه و المُظْهِرُ لغيره فالنور لشدة ظهوره و وضوحه لم نكن لنعرفه لولا الظلمة التي نقيس النور بها ، و نحن محاطون بنور و مظاهر الحق جل و علا ( الله نور السموات و الأرض ) و هذه الإحاطة التامة مانعة من مشاهدته .. و بعبارة أخرى : النور عين الظهور و لو لم يكن له ضد لما كنا نعرفه فنحن ندركه لأننا ندرك ضده كما أسلفنا ، و الوجود أيضاً عين الظهور و لكنه لا ضد له ( الضد بمعناه المنطقي ) و لهذا لا نتمكن من معرفة حقيقته ..
و من جهة أخرى : نعلم أن العلة التامة لوجود جميع الممكنات هو الله تعالى فهو أقرب إلى هذه الموجودات من أنفسها و لهذا قال جل و علا : ” و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ” و قال عز من قائل : ” و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه ” ( و المقصود من قلبه روحه التي هي حقيقته فالله تعالى هو أقرب إلى الإنسان من الإنسان نفسه ) و كما أن شدة البُعد يوجب الخفاء ، شدةُ القرب أيضاً موجبٌ له فلو كانت الشمس قريبة منا أكثر مما هي عليه لما كنا قادرين على مشاهدتها لقربها و شدة نورها ، فالله تعالى لشدة قربه من عباده و مخلوقاته قد اختفى عنهم بل سببُ خفائه هو شدة قربه الذي هو – اي القرب – في حقيقته سبب للظهور لا الخفاء ..
و منها أن الوجود أظهر الأشياء مفهوما و لكنه أخفاها حقيقيةً فنحن نعلم معنى و مفهوم الوجود و لكننا لا ندرك حقيقته و كنهه فكُنه الوجود أخفى الحقائق و هذا الخفاء ناتج عن شدة الظهور و هذا ما أشار إليه المحقق السبزواري في منظومته الحِكْمية حيث قال مشيراً إلى شدة ظهور مفهوم الوجود و شدة خفاء حقيقته و كنهه :
مفهومه من أعرف الأشياء * و كنهه في غاية الخفاء .
و قال مشيراً إلى كون منشأ شدة الخفاء هو شدة الظهور ( بالنسبة لله تعالى ) :
يا من هو اختفى لفرط نوره * الظاهر الباطن في ظهوره .
( و هناك بحث آخر يمكن تفسير البطون في الظهور و الظهور في البطون به و هو بساطة وجود الباري تعالى و تجرده التام و المجرد التام ليس مركباً و ليس له حيثيتان كي يكون ظهوره بحيثيةٍ و بطونه بحيثية أخرى بل يكون ظهوره بنفس ما يكون به بطونه و بعبارة أخرى : ما به البطون فيه تعالى عين ما به الظهور ، كما قال الشاعر : جمالك في كل الحقائق سائر * و ليس له إلا جلالك ساتر . و هذا ما يحتاج إلى تفصيل أكثر و بيانٍ للمراتب التشكيكية التي يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كما أن ما به الظهور فيها عين ما به البطون و الخفاء .. ) .
هذا مضافاً إلى أنه تعالى غير متناهي الوجود و غيره – أياً كان – متناهي الوجود و المتناهي لا يمكن أن يُدرِك غيرَ المتناهي و يحيط به ، فمع أنه عين الوجود و الوجود عين الظهور و لكنه لكونه غير متناهٍ – و غيرُ متناهي الوجود غيرُ متناهي الظهور أي لا نهاية لظهوره – لا يمكن للمتناهي أن يدركه فهو في عين كونه ظاهراً باطنٌ بنفس هذا الظهور غير المتناهي .. و على حد تعبير الشهيد المطهري رضوان الله تعالى عليه : مناط كونه غيباً هو أنه لا حد له و مناط بطونه و خفائه هو ظهورُه ، هذا و قد ورد في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام : ” و كل ظاهر غيره غير باطن و كل باطن غيره غير ظاهر ” ..
و من جملة التفاسير هو أنه تعالى مع كونه ظاهراً باطنٌ ، و حسب هذا المعنى ليس البطون و الاختفاء و الخفاء بنفس الظهور و بملاكه بل هو – كما جاء في توحيد الصدوق رضوان الله تعالى عليه ما خلاصته بعبارة واضحة : – أنه جل و علا ظاهر بالآيات الدالة على وجوده و توحيده و علمه و لكنه باطن محتجب بذاته فكونه ظاهراً صفة لفعله تعالى و كونه باطنا من صفات ذاته جل و علا .. كما يمكن أن يكون الظاهر بمعنى الغالب القادر على ما يشاء ( فإن الظهور يأتي بمعنى الغلبة كما في قوله تعالى : فأصبحوا ظاهرين ، أي غالبين ) و الباطن بمعنى البطون و الخفاء عن الأوهام و سائر القوى الإدراكية ..
هذا خلاصة ما يمكن قوله في تفسير هذين الوصفين العظيمين ..
موفقين مسددين و من كل سوء و شر محروسين بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
و نسألكم الدعاء ..
أيوب الجعفري
ليلة الجمعة ١٨ رجب الأصب ١٤٤١ ق
الموافق ١٣ / ٣ / ٢٠٢٠ م
https://telegram.me/ayoobaljafary