التوكل و التوسل و نظام الأسباب و المسببات
أحد فضلاء السادة :
بعد المطالبة باغلاق حرم الامام الرضا عليه السلام و اخته المعصومة سلام الله عليها و تحديد زيارتهما و استجابة المراجع دون اعتراض كتب احد المؤمنين : *كاذبون نحن حين كنا نردد هذه الكلمات؟!!*رددتها ألسنتنا ولحنتها حناجرنا وأطربت لها أسماعنا… الا انها لم تصل الى قلوبنا…!!! : .. لا جعله الله آخر العهد من زيارتكم، وتعظيم ذكركم، وتفخيم أسمائكم . * و إتيان مشاهدكم وآثاركم والصلاة لكم و التسليم عليكم .. * بل جعله الله مثابة لنا .. * و أمنا في دنيانا وآخرتنا .. ( و يستمر في نقل أمثال هذه المضامين العالية الواردة في بعض الزيارات )
سماحة السيد الموقر :
هل يمكنكم التعليق على ذلك و هل هناك من الشواهد ما امر المعصومون بمثل ذلك؟
——————————————————————-
الجواب :
السلام وعليكم و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم ..
قد أشرنا إلى جواب أمثال هذه الاستفسارات أو الشبهات فيما تم نشره حول هذا الموضوع قبل عدة أيام ؛ و لكن و لأجل التوضيح الأكثر نقول مشيرين إلى جوانب أخرى من الموضوع :
مما لا ريب فيه أن نظام عالم الدنيا هو نظام الأسباب و المسببات و قد ورد في الخبر المشهور : “أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها ” إلا أن الأسباب لا تنحصر بالأسباب المادية أولاً و ليست مستقلة في سببيتها ثانياً فالأسباب قد تكون معنوية تؤثر في تحقق أمور مادية أو معنوية كالتقوى و العمل الصالح الذين قد جُعلا سبباً للعلم و الرزق و الفرقان بين الحق و الباطل و المخرج من المشاكل و المآزق و .. و قد تكون أسباباً غيبية تتعلق بعالم ما وراء المادة و الطبيعة و قد تكون مادية و .. إلا أن مُسَبِّبَ الأسباب هو الله تعالى فهو من جعل النارَ سبباً للإحراق و الحرارة ، و الماءَ علة للارتواء ، و الطعامَ واسطة في تحقق الشبع و .. كما أنه هو من جعل التقوى و الإخلاص مثلاً سبباً للحكمة و العلم و الرزق و .. كما أخبر بذلك في القرآن الكريم و ورد في الروايات الكثيرة بألسنة مختلفة و متنوعة ..
هذا و مما لا ريب فيه أيضاً أن الأنبياء و الأولياء عليهم السلام لا سيما النبي الخاتم و العترة الطاهرة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين وسائط فيض الله تعالى في مختلف الأبعاد و هم العلة الغائية للخلق و هم ملجأ العباد في الأمور المادية و المعنوية و العلمية و المعرفية و .. كما يستفاد من كثير من الروايات و الأدعية و الزيارات المأثورة كالزيارة الجامعة الكبيرة و الصلوات الشعبانية و ..
فالأسباب و الوسائط كلها أسباب مجعولة من قِبَل الله تعالى و هو جل و علا من أعطاها السببية و الوساطة في الفيض – و إن كانت وساطة الأولياء على حسب قابلياتهم و كمالاتهم الاكتسابية و كذا الافاضية التي أفاضها الله تعالى عليهم تفضُّلا منه جل و علا عليهم صلوات الله عليهم – ف ” لله جنود السموات و الأرض ..
و ما يلزم الالتفات إليه هنا أنه لا يمكن تجاوز الأسباب التي جعلها و سبّبها الله تعالى كما لا يمكن عدها مستقلة عن الله جل جلاله – إذ أنه مضافاً إلى عدم إمكان الاستقلالية فيها ، يُعتبر ( أي عدّها مستقلةً في تأثيرها و الإعتقاد بكونها بذاتها و من تلقاء أنفسها مؤثرةً في مسبَّباتها ؛ يعتبر و يعد ذلك ) شركاً واضحاً كما لا يخفى عليكم – فإذا قالوا لنا : ” و على الله فليتوكل المؤمنون ” لا يعني ذلك إلغاء الأسباب – حيث أن الله تعالى هو من يسند أمور الكون إلى أسبابها و إن كان هو جل و علا مسبب تلك الأسباب – كما أنه إذا قيل لنا توسلوا بالأسباب المادية و المعنوية أيضاً فإن ذلك لا يعني الغفلةَ عن مسبب الأسباب و إسنادَ الأفعال إلى أسبابها القريبة و البعيدة على نحو الاستقلال و الاعتماد عليها ، بل علينا أن نتوسل بالأسباب و منها الكُمّل من الأولياء كما أن علينا أن نتوكل على الله تعالى و أن يكون كامل اعتمادنا عليه و تمام ثقتنا به جل و علا و هذا ما يفسر لنا ما ورد من الأمر بالتوكل على الله فقط و الاعتماد عليه و الثقة به جل و علا دون من و ما سواه إلى جانب الأمر بالتوسل بالأسباب و الالتجاء و الاستغاثة بالأولياء عليهم السلام ، فمع التأكيد الأكيد و الشديد على ضرورة تفويض الأمور إلى تعالى و التوكل عليه جل و علا و عدم الإعتماد على غيره ، ورد التأكيد الأكيد أيضاً بالتوسل بالأولياء ، و مع انه قد ورد هذا التأكيد على التوسل بالأولياء ورد التأكيد الشديد على عدم تجاوز الأسباب الطبيعية لقضاء الحاجات و دفع المضار و رفع الآفات و البليات و .. فلا التوكل يمنع من التوسل بالأولياء و لا التوسل بهم عليهم السلام يمنع الالتجاء إلى الأسباب الطبيعية و لا العكس أي أنه : لا الالتجاء إلى الأسباب الطبيعية يمنع من التوسل بالأولياء و لا التوسل بهم عليهم السلام يمنع من التوكل على الله تعالى فإنه لا مؤثر في الوجود إلا الله و جميع الأسباب الطبيعية و غيرها جنود الله تعالى و لهذا لا يمكننا أن نترك أكل الطعام و شرب الماء و التداوي بالدواء لأجل التوكل أو التوسل و لذا نجدهم عليهم السلام يأمروننا بعقل الناقة ثم التوكل على الله تعالى كما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حينما ترك الأعرابي ناقته و لم يعقلها و قال : ” توكلت على الله ” فقال له النبي الأكرم صلوات الله عليه و آله : ” اعقلها و توكل على الله ” كما نجد روايات كثيرة – منها ما هو صحيح أو موثق أو حسن – تأمر بالتداوي و الاحتجام بل ورد أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يكتحل كل ليلة و يحتجم كل شهر و يشرب الدواء كل سنة ، كما نُهي عن النوم في مكمن السباع و تحت الحائط المائل و السقف الآيل على السقوط و .. فإنها من مصاديق إلقاء النفس في التهلكة المنهي عنه في القرآن الكريم ، و كما ورد الأمر بالاستعداد و إعداد القوة العسكرية لمقارعة الأعداء :” و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم ” ” و ليأخذوا حذرهم و أسلحتهم ” و الأمر بالاستتار عن الأعداء في قوله تعالى : ” فأسرِ بعبادي ليلا إنكم متبعون ” و من المعلوم – كما قال السيد الجزائري رحمه الله تعالى – أن المسير بالليل اختفاءٌ ، و قد استتر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في طريق هجرته إلى المدينة المنورة في الغار ، و في رواية عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر ( الباقر ) عليه السلام : “هل يعالج بالكيّ ؟ قال : نعم إن الله جعل في الدواء بركة و شفاء و خيراً كثيراً و ما على الرجل أن يتداوى و لا بأس به” و عن يونس بن يعقوب قال : ” سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشرب الدواء و ربما قتل و ربما سلم منه و ما يسلم منه أكثر قال : أنزل الله الدواء و أنزل الشفاء و ما خلق الله داءً إلا و جعل له دواء ، فاشرب و سَمِّ الله تعالى ” و …
و محصل الكلام أن التوكل لا يمنع من التوسل و التوسل لا ينافي اتخاذ الإجراءات الوقائية التي يوصي بها الأخصائيون ، و اتخاذ الإجراءات الوقائية لا يعني ابتغاء البدل عنهم و الإعراض عنهم عليهم السلام بل الأمر بالعكس تماماً فإنهم ( مع غض النظر عن طولية الأسباب و كون سببية ما و من سوى الله تعالى بتسبيب الله تعالى لها كما مرت الإشارة إليه ) إنهم صلوات الله عليهم أجمعين هم الذين أمرونا بالوقاية و العلاج و التداوي و اجتناب المهالك و عدم الالقاء بالنفس في التهلكة و .. و قد أمرنا الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسك بهم عليهم السلام ، و التمسك بهم صلوات الله عليهم أجمعين يكون بامتثال أوامرهم و نواهيهم و التخلق بأخلاقهم و الإعتقاد بما يعتقدون به و .. فعدم اتخاذ الإجراءات الوقائية تركٌ للتمسك بالثقلين و قد فاز من تمسك بهما و خاب من تركهما و تخلف عنهما ..
و بذلك يتبين أنه لا منافاة بين كون مشاهدهم عليهم السلام مثابة و أمناً بل كونهم عليهم السلام العلة الغائية في الخلق و هم الأمان لأهل الأرض بل لجميع موجودات عالم الإمكان ، و بين التوسل بالأسباب الطبيعية و اتخاذ الإجراءات الوقائية لدفع أو رفع البلايا و الأمراض و ..
موفقين مسددين و من كل سوء و شر محروسين بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
أيوب الجعفري
ليلة الثلاثاء ٨ رجب الأصب ١٤٤١ ق
الموافق ٣ / ٣ / ٢٠٢٠ م
https://telegram.me/ayoobaljafary