الولاية التشريعية و التكوينية :

أرسل لي أحد المؤمنين كلاماً لبعض من يستشكل على الشيعة الإثني عشرية و يقول أنهم يزعمون أن الله سبحانه و تعالى أعطى أئمتهم ولايتين . ولاية تشريعية : فأقوال الأئمة تشريع عند الشيعة الإثني عشرية يجب العمل بها و كأنها منزلة من عند الله .. و ولاية تكوينية : فهم يتصرفون في الكون( بإذن الله طبعا كما يزعمون) يتصرفون بالكون كما يشاؤون . يعلمون الغيب ، يجرون الرياح ، يشفون المريض ، و يفعلون ما يشاؤون في الكون (طبعا بإذن الله كما يزعمون) ؟!!!

و أما الجواب : لا شك أن الولاية كسائر المقامات و الصفات التي تعد كمالاتٍ وجوديةً مختصةٌ بالله تعالى و لا يشاركه فيها أحد بأن يكون واجداً لذلك الكمال من ذاته و بذاته أو يكون عين ذاته ، فالعلم مثلا – و هو من الكمالات الوجودية – من صفات الله تعالى و هو عين الذات المقدسة و ليس غيرها و بالنتيجة ليس مُكْتَسَبَاً و لا مُفاضاً عليه من قِبَلِ غيره أيضاً ، و أما غيرُه تعالى فليس العلم عين ذاته بل العلم صفة زائدة فإما أنه مُكْتَسَبٌ بالدراسة أو التجربة أو .. أو مُفاضٌ عليه من قبل الله تعالى و هو ما يسمى بالعلم الإفاضي أو الإلهامي أو اللدنّي ، و بينهما فروق متعددة لسنا بصدد بيانها في هذا المختصر – و قد نوفق لتوضيحه في المستقبل بعون الله تعالى – .. فغير الله تعالى مهما بلغ من الكمال فهو ليس عين العلم و لا العلم من ذاته و ليس عالماً من تلقاء نفسه و لكنه إذا بلغ درجات عالية من القرب إلى الله تعالى أصبح مستعداً لتلقّي الفيوضات الربانية و من جملتها فيض العلم فإذا أفاض الله تعالى العلم على عبد من عباده – سواء كان علم الغيب أو العلم بحقائق الموجودات التي يمكن الوصول إليها عن طريق العلوم البشرية و التجربة أو لا يمكن تحصيلها بالطرق المتعارفة لدى البشر – نعم إذا أفاض الله تعالى هذا الكمال ( كمال العلم ) على أحد لم يقل أحد أن هذا شريك لله تعالى و عوذاً به جل و علا و لا يتمكن من له أدنى معرفة بالأبحاث التوحيدية من أن يرمي القائل بإفاضة العلم على بعض المقربين بالشرك لأن الشرك يقتضي أن يكون الشريكان مستقلين في الوجود ( إذا كان المقصود الشرك في الذات ) و أن يكون الكمال فيهما من ذاتهما و لم يكتسباه من غيرهما و لا أحدهما من الآخر ، و أما إذا كان العلم مثلاً عين الذات في أحدهما دون الآخر ، و كان أحدهما عالماً بذاته و الآخر قد اكتسب علمه من الغير إما بالتعلُّم أو بالإفاضة و الالهام لم يحصل التساوي و الشراكة و لم يتحقق موضوع الشرك فلا يقاس العالم بذاته و من يكون العلم عين ذاته بمن يكون العلم زائداً على ذاته مُكْتَسِبَاً له أو مفاضاً عليه – فضلا عن مسألة سعة العلم و ضيقه – .. و من المعلوم أن علم الأنبياء و الأئمة و الأولياء مفاضٌ عليهم من قبل الله تعالى و لا قياس بين مفيض العلم و المفاض عليه حتى يصدق الشرك ( و قد بيّنا جوانب أخرى من هذا الموضوع في بعض الأجوبة على أسئلة المؤمنين سابقاً ) .. هذا بالنسبة للعلم و نفس الكلام جارٍ في سائر الكمالات الوجودية من القدرة و الحياة و الإرادة و ..

و أما موضوع الكلام و محط السؤال و الإشكال أعني الولاية فهي أيضاً من شؤون الله تعالى وحده لا شريك له لأنها من اختصاصات المالك الحقيقي – بالملكية الحقيقية – لعالَم الوجود لأنها بمعنى السلطة و السيطرة على التكوين أو التشريع ، فالولاية التشريعية لله تعالى وحده و لا شريك له فيها لأنه هو الخالق لجميع من و ما سواه و من جملتهم الإنسان و سائر المكلفين و هو العالم بمصالحهم و لم يخلقهم إلا للرحمة كما نبّه على ذلك بقوله جل و علا : ” و لذلك خلقهم ” كما أن الأحكام و القوانين و الشرائع الإلهية إنما وُضعت لأجل تحقيق تلك المصلحة و الرحمة – و العبادةُ و المعرفةُ اللتان قد جُعلتا حكمةً للخلق من محققات تلك الرحمة الحاصلة بالقرب من رب العالمين و توضيحه موكول إلى محله ، كما أنهما من جملة التشريعات و حِكَمِها – فالأحكام الشرعية مبتنية على المصالح و المفاسد الواقعية ، و بما أن الله هو المالك الحقيقي والخالق العالم بخلقه و بمصالحهم و ما يضر بهم فلا محالة تكون الولاية التشريعية مختصة به بالذات و بالأصالة و لكن إذا علّم أحداً من عباده تلك المصالح و المفاسد الواقعية و أذن له بأن يجعل حكماً وفقاً لتلك المصالح و المفاسد لم يكن من الشرك في شيء بل يكون جَعْلُهُ جَعْلَه جل جلاله و مع ذلك نقول أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مثلاً لا يقول شيئاً فيما يتعلق بالدين و لا يحكم إلا بوحيٍ من الله تعالى سواء كان بوحي القرآن أم بوحي السنة فهو كما قال تعالى : ” و ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ” ( إما بمعنى أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو بنفسه وحيٌ يوحى لشدة تمسكه بالوحي الإلهي و تبعيته له بحيث أصبح بتمام وجوده تجسيداً للوحي الإلهي – كما أصبح ابن نوح تجسيدا للعمل غير الصالح فقال تعالى : ” إنه عملٌ غير صالح ” – و إما بمعنى أنه ما ينطق عن الهوى بل الذي ينطق به ليس إلا الوحي ) فإذا قلنا أنه لا ولاية في التشريع لأحد غير الله جل جلاله فهو حق و يُقْصَد به أنه لا يحق لأحد غير الله الخالق العالم بمصالح العباد أن يشرّع لهم لأنه هو المالك والخالق فله الحق و هو العالم الذي يعلم بمصالحهم و ما يضرهم و غيره ليس بخالق كما أنه ليس بعالم إلا إذا علّمه الملك العلّام ، و إذا قلنا أن للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ولاية تشريعية فهذا أيضاً حق لأنه لا يُقصد أن له الولاية من قبل نفسه و أنه العالم بالمصالح و المفاسد الواقعية من تلقاء نفسه بل له الولاية من قبل الله تعالى الذي أراه الواقع و المصالح و المفاسد الواقعية بوحي القرآن و السنة بما لهما من ظواهر و بواطن كما قال تعالى : ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ” فلم يقل : ” لتحكم بين الناس بهذا الكتاب المنزل عليك ” بل : ” بما أراك الله ” الذي له مفهوم أعم من الكتاب فيشمل وحي الكتاب و السنة معا فولايته ولاية الله تعالى و ليست مستقلة عنه ..

هذا و لا يخفى على أهله أن الاحكام الولائية التي تتبع المصالح العامة و التي تتغير بتغير الظروف موكولة إلى الحاكم الشرعي و لكنه – أي الحاكم الشرعي – يستند في نفس هذه الأحكام أيضاً إلى ما حكم به الله تعالى يعني أنه يستند إلى الأحكام الأولية أو الثانوية التي هي أحكام الله جل و علا فالنبي و سائر المعصومين عليهم السلام يحكمون بما أراهم الله تعالى ( و أما غيرهم ممن جُعلوا حكّاماً من قِبلهم عليهم السلام فهم يحكمون بما ثبت لديهم و قامت الحجة الشرعية عندهم أنه حكم الله و ليس هذا ولاية تشريعية بل هي ولاية شرعية .. و توضيحه يحتاج إلى تفصيل خارج عن طور هذا المختصر ) ..

و أما الولاية التكوينية فهي أيضاً لله تعالى بالذات و الاستقلال و أما غيره جل و علا فإنما له الولاية بإذنه و تمكينه تعالى و في حدود ما يأذن له كما أذن لعيسى بن مريم عليه السلام و مكّنه من إحياء الموتى و إبراء الاكمه و الأبرص و .. و عموم المعجزات الصادرة من الأنبياء عليهم السلام ( كتبديل العصى حية تسعى و تكوين الناقة من الجبل و الإتيان بعرش بلقيس بأقل من طرفة عين – قبل أن يرتد اليك طرفك – و شق القمر و .. ) داخلة في دائرة الولاية التكوينية الإذنية ، فإذا ثبتت الولاية التكوينية بإذن الله تعالى ( و المقصود من الإذن هنا كما بينا مراراً و تكراراً هو التمكين و إعطاء القدرة ، و معطي القدرة هو الله تعالى و هذا يعني أن فعل من له الولاية التكوينية بإذن الله تعالى هو فعل الله جل و علا و ليس فعله نفسه لأنه لم يكن ليفعل ذلك و لا ليقدر عليه لولا أن منحه الله تعالى تلك القدرة … ) – فإذا ثبتت هذه الولاية للأنبياء و لكن بإذنه تعالى و في حدود ما يأذن به كان ثبوتها لغيرهم ايضاً أمراً ممكناً و إذا كان ممكنا كان واقعاً لأننا نُثبِت بالقرآن الكريم و السنة القطعية أن منزلة الأئمة عليهم السلام عند الله أعلى من الأنبياء عليهم السلام إلا النبي الخاتم صلى الله عليه و آله ، و عصمتهم أعلى من عصمتهم ، و علمهم أكثر و أوسع و أعمق و أدق من علمهم و .. و إذا كانوا أعلى من سائر الأنبياء في جميع ذلك لم يُتصوَّر أن تثبت للأنبياء كرامة غير ثابتة لمن هم أعلى منهم فإن درجات الكمال الوجودي مراتب تشكيكية فكل كمال في الموجود الأدنى متحققٌ فيمن هو أعلى منه بنحو أقوى فإذا كان أحد الأنبياء عالماً بالغيب بتعليمٍ من الله تعالى كان النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم و أهل البيت عليهم السلام أعلم منه بالغيب سعةً و عمقاً و .. و إذا كان للأنبياء ولاية تكوينية بإذن الله تعالى و تمكينه جل و علا كانت هذه الولاية ثابتة لأهل بيت النبوة الختمية عليهم السلام بنحو أقوى و أكمل و أتم و أشمل و ..

موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر ..

أيوب الجعفري

ليلة الجمعة ١٥ ( ١٦ ) ذو القعدة ١٤٤٠ ق
الموافق ١٩ / ٧ / ٢٠١٩ م

https://telegram.me/ayoobaljafary