التوفيق بين كون الله تعالى كريماً و بين الأمر بالدعاء و الطلب منه جل و علا

*سؤال من أحد المؤمنين :

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

كيف نستطيع ان نربط بين قوله تعالى (ادعوني أستجب لكم) و الحديث الوارد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و اله :(إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء) و أيضا الحديث الوارد عنه صلى الله عليه و آله ( سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل ، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ، و قال : ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها ، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) هذا من جهة ، و من جهة أخرى القول بأن الله تبارك و تعالى هو الكريم المطلق و هو العالم بما تخفي الصدور ، فحتى إن لم تسأل الله و تدعوه ، فهو أعلم بمصلحتك ، فإن رأى شيئا و هو من مصلحتك (أعطاك) حتى و إن لم تدعوه و تسأله ، و إن رأى شيئا و هو ليس من مصلحتك (لم يعطيك) حتى و إن دعوته و سألته ، و هو سوف يؤخره أو يعطيك بدله شيئا آخر كما في بعض الروايات.
__________

*الجواب :*

و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

لا منافاة بين أن يحب الله الإلحاح في الدعاء و أنه تعالى مستجيبٌ للدعاء و بين كرمه المطلق الذي يستوجب العطاء بسؤال و من دون سؤال ، فحبه للالحاح حبٌّ لعبده و لسماع صوته ، و سيستجيب له بعد إلحاحه بكرمه – و إن أعطاه مُناه و مطلوبه الحقيقي مع عدم السؤال الظاهري أيضاً كما سنشير إليه – مضافاً إلى أن العبد بإلحاحه سيصل إلى درجة القرب إلى الله تعالى و سيتلذذ بمناجاة ربه فيكون نفس الإلحاح كمالاً له و نوعاً من استجابة الدعاء لأن حاجة العبد هو ما يكون في مصلحته و ما ينفعه و لا مصلحة أعلى و لا نَفْعَ أرقى من الكمال بالتقرب إلى المعبود جل و علا الحاصلِ احياناً بالالحاح في الدعاء الذي هو مخ العبادة لأن العبادة إبراز للحقيقةِ – حقيقةِ العبد من كونه عين الفقر إلى الله جل و علا و .. و حقيقةِ كون الله تعالى عين الغنى و .. مضافاً إلى جوانب و أبعاد أخرى للعبادة كالظهور بمظهر العبد المملوك للمولى المالك له بالملكية الحقيقة التي تعني فيما تعنيه أن العبد بتمام وجوده عين التعلق به جل و علا و لا يتمكن من – و لا يمكن – أن يستقل منه آناً و أقل منه أبداً فوجوده و استمرار وجوده رهن إرادته تعالى و هذا من جملة معاني القيّوميّة التي هي من صفات الله تعالى الفعلية ( و لها معنى آخر تكون بذلك من الصفات الذاتية له جل و علا .. ) فبالدعاء نُظهِر حقيقتَنا و نَظْهَر بها و هو ملازم لمعرفة كوننا عبيداً له و أنه هو المولى و هو الملك و المالك لنا بالمُلكية و المِلكية الحقيقيتين و هي – أي معرفتنا بحقيقتنا و معرفة الله تعالى – من الكمالات القيّمة إن لم نقل أنها هي الكمال و إليها يرجع كل كمال ، و هذه المعرفة – التي أشرنا إلى جانب منها – منشأ الدعاء كما أنها ترتقي به بمعنى ان للدعاء أيضاً تأثيراً في ارتقاء المعرفة ، فلهما التأثير و التأثّر المتقابل في بعضهما البعض ..  –

و أما أن الله تعالى يستجيب فيما لو كانت المصلحة قاضية بذلك فلأن العبد فطرياً لا يطلب من الله تعالى إلا ما هو في مصلحته و ما ينفعه و أما ما يضره فغير مطلوب له مع أنه بحسب الظاهر يطلبه من الله تعالى و يدعوه ليعطيه مطلوبه و لكنه إنما يطلبه لأجل أنه يتصور أنه في صالحه و أنه نافعٌ بحاله فإذا انكشف له الواقع و تبين له أنه ضار غير نافع لم يطلبه و لم يكن ليدعو الله تعالى أن يعطيه إياه ، ففي الحقيقة و الواقع هو لم يسأل الله تعالى أن يعطيه ذلك الضار فلم يتحقق الدعاء و قد قال تعالى : ” ادعوني أستجب لكم ” و هذا لم يَدْعُ الله لأنه بفطرته لا يريد ما يضره في حين أن الاستجابة مُعَلَّقَةٌ على الدعاء و الطلب و السؤال ، و يستفاد هذا الأمر من جميع الآيات الدالة على أن الله تعالى يستجيب الدعاء كقوله تعالى : ” و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ ” فإذا دعا العبدُ استجاب الله له إلا أن الذي يطلب الضار لِتَصَوُّرِ كونه نافعاً ليس بداعٍ في الحقيقة و بفطرته فلم يتحقق شرط الإستجابة و هو ” إذا دعانِ ” و في المقابل : كل ما هو نافع له و موجب لكماله فهو مطلوب له بالفطرة بمعنى أن الإنسان بفطرته طالب للكمال و لكلّ ما يوصله إليه فهو بفطرته و بلسان حاله يسأل الله تعالى و يدعوه أن يعطيه ذلك سواء دعاه بلسانِ قالِه أيضاً أم لم يسأله بهذا اللسان فإن الله تعالى ينظر إلى ما يُصلحه و يَصلح له و يعلم أن هذا هو مطلوب العبد و مسؤوله و إذا كان هذا هو المطلوب له و ما يدعو الله أن يعطيه و يسأله بفطرته أن ينعم به عليه استجاب الله تعالى دعاءه و أعطاه سؤله و مناه .. كما قال جل و علا : ” و آتاكم من كل ما سألتموه ” .. و بذلك يتبين حكمة عدم استجابة بعض الأدعية أو تأخير إجابتها أو تبديل المطلوب بإعطاء نعمة أخرى أو بدفع بلية أو رفعها فإن من جملة أهم شروط الاستجابة قبل الإخلاص و سائر الشروط هو تحقق الدعاء و السؤال ، و الطالب للضار لجهله بالواقع لم يتحقق منه الدعاء و السؤال و أما ما يحتاج إليه لحياته المادية و المعنوية و لتحقيق الكمال المطلوب له بالفطرة فهو مطلوب له و كونه مطلوباً له نوعٌ من الدعاء و لكن بالفطرة و إن لم يظهر على اللسان ، و إليه يرجع ما يقال – و ما ورد في سؤالكم – من أنه تعالى كريم يعطي العباد حاجاتهم و إن لم يسألوه ..

موفقين لكل خير و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..

أيوب الجعفري

يوم الخميس ١٥ جمادى الآخرة ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٢١ / ٢ / ٢٠١٩ م

https://telegram.me/ayoobaljafary