*صيانة القرآن من التحريف*
*سؤال من أحد المؤمنين :*
شيخنا العزيز .. السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
ارجو الإجابة عن هذا السؤال لحاجتي الماسة إليه : ما الادلة القطعية على أن القرآن الكريم هو كلام الله لفظا و معنى ؟ جزاكم الله خيرا و شكرا ..
______________________________________
*الجواب*
و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته
الإجابة على هذا السؤال يحتاج إلى بحث مفصل حول صيانة القرآن عن التحريف و إجمال الكلام فيه :
يشتمل هذا السؤال على شقين الأول كون القرآن كلام الله لفظا و الثاني كونه كلامَه جل و علا معنىً – و فيه نوع من التجوُّز و التسامح في التعبير كما سنشير – فأقول في الجواب : أما من جهة المعنى فلا معنى للقول بأن القرإن كلام الله تعالى معنىً في جميع ما نفهمه من مقاصده لأن الناس بل و العلماء قد يختلفون فيما قَصَدَه الله تعالى من بعض الآيات و إن كان فَهْمُ الأخصائي حجةً بينه و بين ربه كما أنه إذا كانت المسألة فقهية كان فهم الفقيه حجة له و لمقلديه و الحجية غير مطابقة المفهوم مع المقصود بحسب الواقع ..
هذا من جهة، و من جهة أخرى : من الممكن أن يقوم بعض الناس من أصحاب الأهواء بتحريف المعنى فيفسروا القرآن بما يعلمون أنه غير مقصود لله تعالى ليضلوا عباد الله جل و علا و لهذا لم يقل أحد بصيانة القرآن من التحريف المعنوي و الذي يعني أن يُفَسَّرَ القرآنُ بخلاف المعنى المقصود لله تعالى و تُحمل الآيات على ما تقتضيه الأهواء الفردية أو الاجتماعية – في مختلف الجوانب – و هذا ما يُعبَّر عنه في لسان الشرع و المتشرعة بتفسير القرآن بالرأي و قد ورد في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في ذكر الملاحم قوله و إخباره صلوات الله و سلامه عليه عما سيقوم به صاحب الأمر و الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الظهور : “يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، و يعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي” .. و هذا الكلام يعني فيما يعني أن هناك من سيتأول القرآن و يحمله على آرائه و يفسره بما تقتضيه أهواؤه قبل ظهور الإمام المنتظر عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف فيأتي الإمام عليه السلام و يصلح الأمور و يرد الآراء إلى القرآن و يحمل أصحابها على ما هو الصواب من مقاصد القرآن الكريم … فلا معنى لأنْ يقال أن القرآن كلام الله معنىً ..
هذا كله على أساس أن المقصود من قولكم أن “القرآن الكريم هو كلام الله .. معنىً” هو صيانته من التحريف المعنوي و إلا فنفس هذا الشق من السؤال في حد ذاته غير صحيح لأن المعنى من مقولة و الكلام من مقولة أخرى، فلا يصح أن يقال أن معنى القرآن كلام الله إلا من باب المجاز و التسامح في التعبير ..
و أما كون القرآن من الله تعالى لفظا و كون ألفاظ آياته مصونةً عن التحريف فهذا ما نثبته بأدلة قاطعة و نقول بأن القرآن كلام الله تعالى و لم يطرأ عليه تغيير بزيادة أو نقيصة و لم يتمكن أحد من تحريفه بحيث يُتلقّى بالقبول في أوساط المسلمين فالقرآن الذي بأيدينا هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و إن حاول البعض تحريفه بحذف بعض آياته أو كلماته – كما قام بعض الهالكين بحذف كلمة “قل” من القرآن بحجة أنه خطاب من الله تعالى للرسول فلا معنى لأن نقول نحن أيضا “قل” و لكن رفض المسلمون عامةً هذا القرآن المُحَرَّف و نقول في رد هذا الاستدلال بأن القرآن النازل من الله تعالى على رسوله باعتراف هذا الهالك نفسه قد نزل مشتملا على لفظ “قل” فيلزم الحفاظ عليه كما نزل، و نحن عند قراءتنا و تلاوتنا للآيات المشتملة على كلمة “قل” لا نريد أن نخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم بهذه الكلمة التي هي من صِيَغ فعل الأمر ( أمر الحاضر ) بل نحكي مخاطبة الله تعالى للنبي صلوات الله عليه وآله و بالنتيجة مخاطبة الله عامة المؤمنين آمرا لهم بقوله جل و علا “قل” … – ..
و الأدلة على ذلك – أي صيانة القرآن الكريم من التحريف اللفظي – كثيرة منها قوله تعالى : “إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون” حيث أنه قد صرّح – مع التأكيد بعدة أدوات تدل عليه – بأن القرآن محفوظ و الحافظ له هو الله تعالى و من المعلوم أن من يدعي التحريف إنما يدعي التحريف بالنقيصة و لم يقل أحد – ممن يُعتنى بقوله – بالتحريف بالزيادة فإذا لم يكن هناك تحريف بالزيادة فستكون هذه الآية ( و إنا له لحافظون ) من القرآن الكريم و من كلام الله تعالى قطعا لعدم وجود زيادة في القرآن الكريم حسب الافتراض، و إذا كانت هذه الإية من الله تعالى فالقرآن مصون من النقيصة أيضا لأنه لو كان هناك تحريف بالنقيصة لما كان قوله تعالى ( و إنا له لحافظون ) صادقا و يستحيل أن يكون إخبار الله تعالى خلافَ الواقع – بأدلة كثيرة منها أن مخالفته للواقع قد يكون من باب خلف الوعد و لا يخلف الله الميعاد و قد يكون للجهل و هو جل و علا بكل شيء عليم و لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض، و قد يكون لأجل العجز عن الحفاظ على القرآن الكريم و هو عز و جل على كل شيء قدير و .. – فيثبت بذلك أن القرآن مصون عن التحريف بالنقيصة بمعنى أن إثبات صيانة القرآن من التحريف بالزيادة دليل على صيانته من التحريف بالنقيصة ..
و كذا قوله تعالى : “وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” فمن المعلوم الواضح أن التحريف باطلٌ – بمعنى أن للباطل مصاديقَ متعددةً و من جملتها تطرُّق التحريف اللفظي في القرآن الكريم، و القرآنُ النازل من الحكيم الحميد الذي أحكم نزوله بحيث لا يتطرق له و فيه الباطل لا في وقت النزول و لا في المستقبل “من بين يديه و لا من خلفه”، هذا القرآن عزيزٌ أي عديم النظير و لا يمكن أن يُغلَب بنفوذ و تسرُّب الباطل فيه أو إخراج الحق منه – فيلزم أن يكون التحريف بالنقيصة كالتحريف بالزيادة منفيّا و إلا لما كان هذا الإخبار صادقا و لما كان القرآن عزيزا عديمَ النظير منيعا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه …
و هناك آيات أخرى تدل على المطلوب .. كما أن هناك رواياتٍ كثيرةً تدل على ذلك منها الروايات الدالة على عرض الأحاديث المروية عن المعصومين عليهم السلام على القرآن الكريم فإن كانت موافقة للقرآن فهي من أقوالهم عليهم السلام و إن كانت مخالفة فهي زخرف و ليست من أقوالهم – و بطبيعة الحال لا يتمكن أحد من أن يقول أن الحديث الفلاني مخالف أو موافق للقرآن الكريم الا إذا كان عارفا بالقرآن و الأحاديث و مفاهيمهما و معارفهما و هو خارج عن عهدة عامة الناس بل هو من اختصاص أهل الاختصاص في فقه القرآن و الحديث .. – و على أية حال هذه الأخبار – و التي تسمى بأحاديث العَرْض – تدل بالملازمة على أن القرآن مصون من التحريف لأنه لو كان مُحَرَّفا لم يكن ميزانا لإثبات صحة الأحاديث و صدورها عن المعصومين عليهم السلام على ما هو التحقيق من كون القرآن ميزانا لتمييز الصحيح من السقيم و ليس لاثبات مجرد الحجية و بيان ذلك موكول إلى محله …
هذا خلاصة بعض الأدلة و جانب ضئيل مما يمكن أن يقال في صيانة القرآن من التحريف و أما التفصيل فيحتاج إلى بحث تفصيلي مستقل بذكر جميع أدلة صيانته من التحريف و استعراض أدلة القائلين بالتحريف مع ردها و رد سائر شبهاتهم في هذا المجال و حاليا ليس لدي مجال للخوض فيه و عَلَّنا نُوَفَّقُ لذلك في المستقبل بعون المعبود جل وعلا ..
موفقين مسددين ..
دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
ليلة الإثنين ٢ ربيع٢ ١٤٤٣ق – الموافق ٨ / ١١ / ٢٠٢١م