لماذا لم يقبل إبراهيم عليه السلام معونة جبرائيل حينما ألقي في النار ؟ هل كان منافياً للتوكل ؟
أحد فضلاء المشايخ أدام الله عزه و توفيقه :
السلام على الشيخ الفاضل العلامة
أسأل الله لكم كل التوفيق والتسديد
سؤال من فضلكم:
في قضية النبي إبراهيم عليه السلام نذكر أنّ قوله لجبريل : علمه بحالي يغني عن سؤالي كجانب إيجابيّ في توكله الشديد وعدم طلبه من غير الله في حال إنّ التوسل بالأسباب لا ضير فيها بالتوكل، أليس كذلك؟
و من جانب آخر، بعض الأحاديث – الموجودة في تفسير العياشي – تصرّح بأنّ طلب النبيّ يوسف عليه السلام من صاحبه أن يذكره عند ربّه(سيده) سبّب له بالعقوبة بضع سنين، مع إنّ التوسل بالأسباب لا مشكلة فيه لانعقاد التوكل ، و من هنا قال العلامة في التفسير بعدم صحة هذه الأحاديث لأنها لا تتفق مع نص الآيات لاسيّما إنه من المخلصين على حدّ تعبير القرآن الكريم .
فالسؤال :
هل طلب النبي إبراهيم عليه السلام كان مخالفاً للأولى فتركه ؟ أم ماذا ؟
ما رأيكم في رأي العلامة بمنافاة الأحاديث هذه مع الآيات في حال من الممكن تخريج الأحاديث بشكل يوافق الآيات؟
و ألا نستطيع أن نستفيد أنّ هناك كراهية في التمسك بالأسباب في حالات معيّنة، من الحديث المروي عن سيد الساجدين عليه السلام حينما رأى سائلاً يسأل الناس في يوم عرفة، فقال له : ويلك ! أتسأل غير الله في هذا اليوم ، و هو يوم يرجى للأجنة في الأرحام أن تعمها فضل الله فتسعد .
_____
الجواب :
و عليكم السلام شيخنا الجليل و رحمة الله و بركاته ..
بسم الله الرحمن الرحيم
التوكل من جملة مراتب الإيمان العالية و هو من ثمرات التوحيد الأفعالي و فوقه مقامات أخرى كالرضا و التسليم و لكن الأعلى من ذلك هو مقام الإنقطاع عما سواه تعالى و الاستغراق التام في تجليات صفاته جل و علا ، فمقام التوكل لا ينافي التمسك بالأسباب من دون أن يكون النظر إليها استقلالياً ، إلا أن مقام التسليم المحض و فوقه الاستغراق التام في التجليات الربوبية يمنعان من التمسك بالأسباب و لا سيما أن المُستغرِق لا يشاهد في مقام الإستغراق و الفناء غيرَ الله تعالى و تجلياتِ صفاته فكيف بتأثير الغير في شيء فلا معنى للإستمداد بالغير مع هذا الاستغراق ، و قد يقال أن للتوكل أيضاً مراتب و هذا من جملة مراتبه العليا و لهذا قد ورد في بعض الروايات أنه قد طلب بعض الملائكة من رب العالمين أن ينجيه – أي إبراهيم الخليل عليه السلام – أو يأذن لهم لينصروه فقال الله تعالى لهم : آذنتكم إن قبل نصرتكم فجاءه الملك الموكل بالماء ليأذن له بأن يغرقهم ، و ملك الرياح ليعينه بالرياح ، و ملك الأرض ليخسف بهم الارض فقال لهم : خلوا بيني و بين خليلي حتى يفعل بي ما يشاء ؛ و هنا يقال انه عليه السلام توكل على الله واقترب منه جبرائيل و قال له هل لك حاجة …
و من جانب آخر : الأولياء المقربون لا يريدون غير ما يريده الله تعالى ، فمن الممكن أن يدعوا الله تعالى ليرزقهم نعمةً أو يدفع عنهم بلاءً كما أنهم يتمكنون من التوسل بالأسباب لتحقيق المطلوب و هو غير مناف للتوكل على الله تعالى إلا أنهم يرون أن جريان مشيئة الله تعالى الأُولى هو الأصلح لهم – حيث أن المشيئة الإلهية في الدرجة الأولى تتعلق بأمر ما لولا الدعاء و التوسل ، و مع الدعاء أو التوسل تتعلق بأمر آخر فهم يرون أن الله تعالى الحكيم على الإطلاق لا يريد لعبده إلا ما هو عين الصلاح لهم فلا يطلبون شيئاً و لا يتوسلون بأحد كي تجري فيهم المشيئة الإلهية الأولى ليكونوا بذلك مسلّمين أمرهم إلى الله تعالى إلى جانب تحقق المصلحة العليا ، و الظاهر ان هذا هو من جملة الأسرار في عدم مشيئة الأئمة عليهم السلام لانكشاف الواقع لهم في تناولهم الطعام أو الشراب المسموم حيث أنهم – حسب الروايات – : “إن شاءوا علموا ” فهم إن شاءوا يعلمون الغيب و لكنهم لا يشاءون أن يعلموا و ينكشف لهم الواقع ليجري فيهم ما أراده الله تعالى بالإرادة الأولية … و لهذا يقول الشاعر الفارسي :
من گروهی می شناسم ز اولیا
كه دهانشان بسته باشد از دعا
( أي أنني أعرف طائفةً من الأولياء لا يفتحون أفواههم و شفاههم بالدعاء )
و لهذا نجد أنه قد ورد في بعض الروايات أن إبراهيم عليه السلام دعا و لكنه لم يذكر أنه يريد النجاة أو أمراً آخر بل دعا الله ببعض أسمائه و في نهاية دعائه أشار إلى توكله على الله تعالى فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : ” إن إبراهيم ناجى ربه في تلك الساعة : يا أحد يا أحد ، يا صمد يا صمد ، يا من لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد ، توكلت على الله ” و نظير ذلك ما ورد في دعا السحر في شهر رمضان المعروف بدعاء البهاء فعندما يقول الإمام عليه السلام : ” اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه … من جمالك بأجمله .. من جلالك بأجله و … ” لم يذكر ماذا يريد فهو يريد ما يريده الله و لا يريد ما لا يريده .. فمضافاً إلى أنه يتقرب إليه تعالى بالدعاء الذي هو مخ العبادة ، لا يطلب منه شيئاً باقتراحه بل هدفه ينحصر في أن يدعوه و يطلب منه – و يظهر بمظهر الفقير فيصبح بل يظهر في مُلكه كملكوته من كونه عين الفقر – من دون ذكر المتعلَّق لأنه يريد أن يكون المتعلق ما شاء الله لا ما شاءته نفسه الشريفة فيقول يا رب إني أسألك بأبهى بهائك و بأجمل جمالك و بأجل جلالك و لكنه لا يقول ماذا يسأل ( لأن قوله عليه السلام : “من بهائك” متعلق بقوله : ” بأبهاه ” كما أن قوله : ” بأبهاه ” متعلق بقوله : ” أسألك ” كما لا يخفى عليكم فليس المطلوب هو البهاء أو الجمال أو .. )
و أما ما ذكره العلامة قدس سره الشريف فهو أن إرجاع الضميرين في قوله تعالى : ” فأنساه الشيطان ذكر ربه ” إلى يوسف ينافي كونه من المخلصين لأن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم ( و قد أظهر الشيطان يأسه من إضلالهم من بداية خلق آدم حيث أنه أقسم بعد الوسوسة لآدم و زوجه بأنه سيغوي الجميع ” إلا عبادك منهم المخلصين ” حيث أن المخلَص لا التفات له إلى غير الله تعالى و من جملتهم إبليس فلا التفات له إلى إبليس فكيف بوساوسه و لهذا يمتنع عليه إغواءه و لهذا استثناه إبليسُ نفسُه ) فلا يمكن أن يكون من المخلَصين و مع ذلك يكون الشيطان هو الذي أنساه ذكر ربه لأن المخلَص هو من لا سبيل للشيطان إليه و النسيان بفعل الشيطان سبيل فهو منفي عن المخلَص و إلا لناقض كونه من المخلصين ..
و أما في البحث الروائي فيشكك – اي العلامة قدس سره الشريف – في مضمون الرواية التي تقول إن صاحبيه في السجن كانا موكلين عليه من قبل الملك لأن ظاهر الآية أنهما كانا مسجونين لجرم ارتكباه لا أنهما موكلان من قبل الملك و لهذا يذكر القرآن ظن النجاة في حق أحدهما فيقول : ” و قال الذي ظن أنه ناج منهما ” و الموكَّل ليس في ورطة يحتاج إلى النجاة منها ..
موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
أيوب الجعفري
ليلة السبت ١١ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٢٨ / ٤ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary