1. وجود الخالق حقيقة لا ريب فيهاسلام شيخنا .. شبهة عقائدية – يقول احدهم : أن الكون قد يكون غير مرتب و غير منظم ، بس لان احنا بس  شايفين هذا و ما شفنا غيره فبيصير حديثنا الوحيد … يعني مثل العلم القديم و الحديث ، قبل كانوا يشوفون افضل نسخة للعلم مثلا هي الافضل بينما الحين ، تشوف ان النسخة الافضل للعلم هي النسخة الحالية فلذا برهان النظم لا يدل على وجود الخالق الحكيم !

     

    __________________________________________

     

     

    الجواب :

    و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته

    قد وقع المستشكل في مغالطات متعددة و اشتبه عليه الأمر في عدة أمور ؛ و مع أنه ليس كلاماً علمياً إلا أننا و لأجل إزاحة الشبهة عن الأذهان نذكر نقاطاً يوجب الإلتفاتُ إليها التنبهَ على مواضع الخلط و وهن الشبهة ، فنقول مستعينين بالله العليم  :

    النظم غير العلم فالعلم في تكامل مستمر و قد ينفي العلم الجديد ما اكتشفه العلم القديم و قد يقره و يثبته ( لا سيما في العلوم التجريبية المبتنية على التجارب التي يتطرق لها الخطأ ) و .. و أما النظم فشيء مشهود للجميع – منه ما هو واضح بيّن و منه ما يكتشفه العلم بتطوره يوما بعد يوم – و قد أقر الجميع من لدن خلق آدم إلى يومنا هذا بوجود النظم في العالم و أن النظام السائد في هذا الكون هو النظام العِلّي و المعلولي فلا يصدر كل شيء من كل شيء و لا يكون كل شيء سبباً لكل شيء ( كما سنبينه في المحاضرات العقائدية المختصرة التي يتم إلقاؤها في المسجد بعون المعبود جل و علا ) ..

    عندما نشاهد الكون و النظم السائد فيه نجد أنه  مهما تطور العلم و تقدم لم يأتِ أحدٌ بما يدل على عدم وجود النظم بل نجد أن العلماء من لدن اكتشاف العناصر الأربعة ( الماء و الغاز و التراب و النار ) إلى يومنا هذا و الذي قد أكتشف فيه العلماء ما يفوق المأة عنصر كما اكتشفوا أن تلك العناصر الأربعة لم تكن عناصر بل هي مركبات و .. – نعم : نجد أنهم – يقرون يوماً بعد يوم بوجود النظم الدقيق في العالم من ذراته إلى مجراته بل قد اكتشفوا منظومات تشبه المنظومات الفلكية في باطن الذرات المكونة من العناصر ، و من العلماء الماديين من آمن بوجود الله تعالى من خلال اكتشاف قوانين دقيقة سائدة في المادة حيث لا يمكن أن يكون هناك قانون علمي دقيق يسود مادةً من المواد إلا أن يكون لذلك القانون مكوِّنٌ و واضع بالوضع التكويني مضافاً إلى لزوم كون ذلك الواضع المكوِّن عالماً حيث لا يمكن تحقُّق قانون علمي و فيزيائي دقيق صدفةً كما لا يمكن أن يكون فِعْلَ موجودٍ جاهل ليس له من العلم ما يوجب قدرتَه على وضع ذلك القانون التكويني المبتني على العلم الدقيق و الذي نحتاج لاكتشاف وجوده و أبعاده الخفية إلى تطور العلم و تكامل العقول ..

    و من جهة أخرى نحن نجد النظم الدقيق حتى في الأمور التي نعيشها و يدركها الجميع فنجد أن التراب يتحول إلى نبات و ثمار و تصبح النباتات و الثمار طعاماً للإنسان و الحيوان ثم بعد تغذّي الإنسان مثلاً من هذه الأطعمة تتبدل إلى بدلِ ما يتحلل في وجوده الجسماني حيث أن الخلايا – خلايا جميع أو غالب أجزاء الجسم – تتحلل وتزول و تحتاج إلى ما يكون عوضاً عنها، فالطعام الذي أصبح غذاءً للإنسان يتبدل إلى خلايا آلاتِ السمع و البصر والذوق والشم واللمس وإلى العظم واللحم والشحم والبشرة والشعر والظفر و.. كما أن اللبن لا يدر من ثدي المراة إلا إذا حملت و أولدت فما لم تحمل و لم تلد – حسب القانون العام مع غض النظر عن الاستثناءات التي تحدث لخلل في الهرمونات أو تأتي عن طريق المعجزات و غيرها و هي أيضاً مندرجة تحت قوانين خاصة أخرى – لم يدرّ اللبن ، و نعلم أن غذاء الرضيع هو من لبن الام فبمجرد أن تلد يتكون اللبن في ثديها لهذا الرضيع المولود و لا يتكوّن قبل ذلك و .. أليس هذا نظماً سائداً في الكون أو في قسم منه على أقل تقدير ؟ ..

    هذا كله اولاً ؛ وأما ثانياً : هل يمكن التعويل على المجهول فنترك المعلوم و هو وجود النظم الدقيق تعويلاً على احتمال عدم وجود نظم في سائر أنحاء هذا الكون الهائل – مع أن العلم و كما أشرنا كلما تطور أثبت نظماً أدق مما كان يتصوره البشر – ؟ أفلا يدل وجود هذا النظم على وجود خالق عالم قدير حكيم حي مريد لهذا الكون المُنَظَّم الذي يسوده قوانين علمية دقيقة ..

    وثالثاً : يمكن إثبات الخالق عن طريق النظم إلا أن وجود الخالق للكون لا يتوقف على النظم ، بل وجود الممكنات هو المتوقف على وجود واجب الوجود الذي يكون وجوده عين ذاته (و قد أشرنا في النقطة السابقة أن النظم و حكومة القوانين العلمية الدقيقة في مواد هذا الكون لَخيرُ دليل على أن له خالقاً عالماً قديراً … يعني أنه يثبت بالنظم و سيادة القوانين صفاتُ الخالق من العلم و القدرة و الحياة و .. فضلاً عن وجوده فإن تلك الصفات فرع وجود الموصوف بها فبالنظم نثبت تلك الصفات لموجود متصف بها و بالنتيجة نثبت وجود ذلك الموجود الذي قد أوجد هذا الكون .. بمعنى أن إثبات النظم يثبت وجود الخالق و أما إثبات عدم النظم – لو امكن إثباته – فلا يُثْبِت عدمَ وجود الخالق كما سنشير ، و طبعاً إثبات عدم النظم غير عدم إثبات النظم و ما ورد في كلام المستشكل هو الثاني دون الأول و مع ذلك نقول أن إثبات عدم النظم أيضاً لا يدل على عدم وجود الخالق و لكن إثبات النظم يدل على وجود الناظم الخالق … )

إذن : ما يتوقف على وجود الخالق هو نفس وجود الممكنات فما ليس وجوده من نفسه لا يمكن أن يوجد بدون موجِدٍ و خالق يكون عينَ الوجود و إلا لزم أن يكون لذلك الموجِد أيضاً خالقٌ و موجِدٌ و إلا لم يتحقق شيء في عالم الوجود و لكننا نعلم و نجد و نشاهد أن العالم مليء بالموجودات كما أننا نعلم أيضا أن وجودها ليس من نفسها لأنها لم تكن ثم كانت – و قد أثبتت العلوم التجريبية أن لهذا الكون الهائل مبدءاً و أنه لم يكن موجوداً فوُجد ، كما أثبت أن لهذا الكون أو لطاقاته نهاية و هو – أي إثبات النهاية – كافٍ لإثبات البداية (و توضيحه موكول إلى محله ) فإذا كان كذلك لزم وجود خالقٍ موجِدٍ لهذا الكون الذي لم يكن ثم كان ، سواء كان هناك نظم أم لم يكن كما أننا لو وجدنا بيتاً مبنياً نقول أنه لا بد أن يكون لهذا البيت بانٍ سواء رُوعيت قوانين البناء في هذا البيت المبنيّ أم لا ، فإذا كانت تلك القوانين قد روعيت نقول أن الباني كان عالماً بتلك القوانين و بهندسة البناء و .. و أما إذا لم تكن تلك القوانين قد روعيت قلنا ان لهذا البيت بانياً إلا أنه لم يكن عالماً بقوانين البناء أو أنه لم يُرِد رعايتها ، فنفس وجود البِناء دالٌّ على وجود البَنّاء و أما النظم فيدل على علمه و قدرته على البناء وفقاً لقوانينه ، كما أننا إذا وجدنا ورقةً قد كُتِب فيها بعض الكلمات و الجمل علمنا بذلك أن لهذا المكتوب كاتباً فإن كان المكتوب منظماً قد روعي فيه قواعد الكلام و ترتيب الجمل و الفواصل و التقديم و التأخير و … كان دليلا على كونه عالماً بالكتابة و أساليبها و قواعدها و .. و إذا لم يكن منظماً علمنا أن له كاتباً و لكنه غير عالم بأساليب و قواعد الكتابة أو أنه لم يُرِد تطبيق تلك القواعد .. لا أن يدل على عدم وجود الكاتب حيث أن وجود المكتوب في حد ذاته دليل على وجود الكاتب ، و الكون الامكاني أيضاً دليل على وجود واجب الوجود ( و طبعاً بيانُ برهانه الدقيق يتوقف على بيان مقدمات دقيقة ليس هنا محل طرحها ) فإن كان السائد عليه هو النظم و القوانين الدقيقة – و هو كذلك باعتراف العلم و العلماء و لعدم تمكن أحد من الإتيان بما ينافي ذلك كما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : ” الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً و هو حسير ” سورة الملك : ٣ و ٤ – نعم : إذا كان السائد عليه هو النظم و القوانين الدقيقة دل ذلك على كون الخالق عالماً قديراً حياً … و إذا لم يكن النظم و القوانين العلمية الدقيقة سائدةً عليه دل على عدم تحقق تلك الكمالات – من العلم و القدرة و .. – في الموجد أو عدم إرادته لوضع تلك القوانين العلمية الدقيقة و المنظمة فيه ، لا أن يدل على عدم وجوده ، فالعقل لا يقبل بل يرى استحالة أن يوجد مكتوب بلا كاتب سواء كان ذلك المكتوب مرتَّباً منظماً أم لم يكن فكيف يقبل و يحكم بإمكان وجود كتاب الكون الإمكاني – الذي لم يكتشف البشر مع هذا التطور العلمي الهائل إلا جزءاً بسيطاً منه – بلا كاتبٍ موجِدٍ له ؟!!

و للكلام في هذا الموضوع مجال واسع و نطاق شاسع لا يمكننا أن نغور فيه في أمثال هذه الأجوبة المختصرة ..

موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..

أيوب الجعفري

ليلة الإثنين ١١ رجب الأصب ١٤٤٠ ه ق
الموافق ١٨ / ٣ / ٢٠١٩ م

https://telegram.me/ayoobaljafary