تساؤلات عن التقليد في المنظور الشيعي

أرسل لي أحد الأساتذة من فضلاء المؤمنين ملفاً صوتياً يستشكل المتحدث فيه على التقليد بالمفهوم الشيعي وأنه ليس من باب رجوع الجاهل إلى العالم بل قد تجاوز هذا الأمر إلى مراحل مختلفة عن التقليد المتداول قديماً و .. وسيتبين إشكالاته خلال الجواب المختصر الذي سنذكره .. وإليكم الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم سماحة الأستاذ المبجل ورحمة الله وبركاته وتقبل الله اعمالكم وبلغكم آمالكم وشكر الله مساعيكم في الذود عن الشريعة المقدسة والدفاع عن معارف الدين .. وأدعو الله لكم المزيد من التوفيق  ..

في كلام المتحدث مواضع كثيرة للنظر كتفسير التقليد بغير ما يذكره الفقهاء أنفسهم وإلزامهم بما لم يلتزموا به والخلط بين التقليد والولاية المجعولة للفقيه والتي قد اختُلف في مراتبها سعةً وضيقاً وفي شموليتها للعوام والخواص بل والمجتهدين والمراجع بينما لم يختلف اثنان في أن التقليد مختص بالعوام الذين لم يبلغوا درجة الإجتهاد ولم يشك أحد في عدم جواز التقليد لمن بلغ هذه المرتبة العلمية الموجبة للقدرة على استنباط الأحكام الشرعية و .. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن مقولة التقليد مختلفة تماماً عن مقولة الولاية وإن كانت الولاية – إن قلنا بثبوتها للفقيه الجامع لللشرائط – منصباً لمن يتولى أمر الإفتاء ..

وكقوله حول حصر الدين في الفقه وما يدعيه من أن الشيعة او العلماء والحوزات قد حصروا الدين في علم الفقه وأحكامه، وهو ما لم يتفوه به أحد من طلبة العلوم الدينية فضلاً عن أعلام الحوزات العارفين بمراتب معارف الدين، فيعلم أضعف طلاب العلم أن المعارف الإلهية والأبحاث الكلامية – العقائدية – و المباحث الأخلاقية أكثر بكثير وبعضها أعمق وأدق من الفقه حتى الإستدلالي منه – و إن للفقه أيضا أبحاث واسعة ودقيقة – .. فهو لا يرى أن الفقه المتعلق بعمل الجوارح في غالبية أحكامه – وإن كانت روح الأحكام الفقهية متعلقة بعمل الجوانح لا الجوارح -لا يراه أعمق من سائر المعارف الإلهية المتعلقة بحقيقة الإنسان وروحه وملكوت وجوده بل ولا يراه في مستواها فكيف بحصر الدين في الفقه؟ ومن الذي حصره فيه؟!

وكإشكاله على استخدام المنطق الأرسطي في الفقه وهو – أي أرسطو – يوناني و ليس بمعصوم .. وهو من غرائب الإشكالات حيث أن المنطق يستخدمه جميع الناس في حياتهم و كلامهم واستدلالاتهم  من حيث يشعرون أو لا يشعرون حتى الذين يستشكلون في المنطق يستخدمون القواعد المنطقية من حيث لا يعلمون فيستشكلون على القياس المنطقي مثلاً و هم يستخدمونه في كلامهم و أبحاثهم واستدلالاتهم بل وفي نفس استشكالهم على الأقيسة المنطقية فينقضون بذلك غرضهم ويثبتون صحتها من حيث لا يشعرون و..

هذا؛ مضافاً إلى أن المنطق علم آلي يعطينا الميزان الصحيح في ترتيب المقدمات لاستكشاف المجهول وبعبارة أخرى يعرّفنا على كيفية صياغة البراهين من دون أن يتدخل في مواد الإستدلال وشأنه شأن علم النحو الموضوع لصون اللسان عن الخطأ في الكلام، فالنحو يقول أن الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب والصفة تتبع الموصوف في أربعة أمور من عشرة و.. ولا يقول أن زيداً الذي جُعل في قولنا ضرب زيد عَمْراً، فاعلاً هل هو فاعل حقاً و هو الضارب حقيقة أم لا حتى يقال أن النحو مخطئ في جعل زيد في الجملة فاعلاً، فلا معنى لأن يقال أن النحو موضوع من قبل المسلمين أم المسيحيين و .. كذلك المنطق فهو علم آلي يبين لنا كيفية صياغة المقدمات كي تكون النتيجة دقيقة من دون التدخل في مواد الإستدلال، فالفقه أو أي علم آخر يأخذ المواد التي لديه و يُقَوْلِبُها في القوالب التي يذكرها المنطق  فالمنطق لا يقول ان الصلاة واجبة أم لا و لا يقول أن ترك العمل بالواجب يوجب استحقاق العقاب أم لا أو أن هذا الشيء طاهر أم نجس أو أن العقد يجب أن يكون بالصيغة أم يكفي فيه المعاطاة و.. بل يعلمنا كيفية صياغة هذه المواد وأمثالها للاستنتاج الصحيح، فباستخدام المنطق نقول مثلاً : * المقدمة الأولى : الدم نجس * المقدمة الثانية : و كل نجس مانع من صحة الصلاة * النتيجة : فالدم مانع من صحة الصلاة (وبطبيعة الحال هذا مجرد مثال) .. فالمنطق يعلمنا أمثال هذه الصياغة في الإستدلال ولا يقول أن الدم نجس حقاً أم لا، أو النجس مانع من صحة الصلاة حقاً أم لا .. فلا معنى للإشكال في المنطق بأنه أرسطيّ، كما لا يمكن الإشكال على علم الرياضيات بأنه موضوع من قبل ملحدٍ أو مسيحي أو مسلم سني أو شيعي .. مضافاً إلى أن أرسطو لم يكن واضع هذا العلم وإنما هو مدوٍّنُ العلم حسب ما يستخدمه البشر بطبيعته وفطرته .. وللكلام في هذا الموضوع مجال واسع ..

وأما أن كتاب “من لا يحضره الفقيه” دليل على أنه لا يجب على العامي أن يقلد أهل الإختصاص بل يتمكن من مراجعة الأحاديث و يستخرج ويستنبط أحكامه و.. فهو أيضاً غير صحيح بل نفس تسمية الكتاب ب” من لا يحضره الفقيه” دليل على ضرورة ولزوم الرجوع إلى الفقيه فإن لم يجد فقيهاً يرجع إليه رجع إلى هذا الكتاب المشتمل على على الفتاوى التي يفتي بها الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه ..

والجدير بالذكر  أن بعض قدماء الفقهاء – إن لم نقل غالبيتهم – كانوا يدوّنون كتبهم الفقهية بنصوص الروايات من دون تغيير فيها فكانوا ينتخبون الروايات التي كانوا يرون حجيتها ويعتمدونها أو يعتمدون بعضها أو غالبيتها فيضعونها في كتبهم ولم يضعوا جميع الروايات المتعارضة بالتباين أو بالعموم والخصوص المطلق أو بالعموم والخصوص من وجه و … لم يضعوها جميعها بمتناول الناس كي يأخذوا ما يريدون بل قد اجتهدوا بأنفسهم واستكشفوا الروايات التي تعد حجة بينهم وبين الله تعالى وأفتوا وفقاً لها ولكنهم بدلاً من أن يكتبوا فتاواهم بعباراتهم وأساليبهم نقلوا نص الروايات التي تدل على فتاواهم والشيخ الصدوق قدس سره الشريف لم يكن مستثنىً عن هذه القاعدة، والخلاصة أن الصدوق رضوان الله تعالى عليه وضع كتاب “من لا يحضره الفقيه” لمن لا يحضره الفقيه ليأخذ بقوله ويتبعه في أعماله فإن عليه أن يأخذ الفتاوى التي يجب العمل بها من هذا الكتاب ..

هذا؛ و قد كتبت في سالف الأيام موضوعاً مختصراً عن التقليد و ضرورة المرجعية و وردتني بعد ذلك بعض الإستفسارات حول الموضوع و تمت الإجابة عليها .. فيمكنكم مراجعته ..

موفقين لكل خير و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..

أيوب الجعفري

ليلة الأحد ٢٢ربيع٢ ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٣٠ / ١٢ / ٢٠١٨ م

__________

أرسل المستشكل ملفات صوتية أخرى للاستاذ وقد تفضل سماحته بارسالها لهذا العبد .. ويعيد المهندس المتحدث في هذه الملفات إشكالاته على التقليد ويقول أن المشكلة لا تكمن في رجوع العالم إلى الجاهل بل في سلطة الفقه وذكر أنه لا يقصد من هذه السلطة ولاية الفقيه فهي موضوع آخر ويقول أنه ليس المقصود ما ذكرتموه في الجواب السابق بل المقصود من سلطة الفقه إلزام الناس بالرجوع إلى الفقهاء والفقه وأنه إذا لم يكن عمله عن تقليد سيكون باطلاً ويؤكد على أن مشكلته في إلزام الآخرين بالرجوع إلى الفقه فهذا – حسب ما يراه المتحدث – غير مقبول كما لا يحق للطبيب المعالج بالأعشاب أن يمنع الناس من مراجعة الأطباء الذين يعالجون الناس بأساليب أخرى و.. وأطنب الكلام في ذلك و ..

و إليكم الجواب عن ذلك :

بسم الله الرحمن الرحيم

رجوع الجاهل إلى العالم أمر عقلائي يعمل به جميع العقلاء بلا فرق بين علم وآخر وهو صادق في الفقه أيضاً – وعدم شمولية الموضوع للعقائد إنما هو لأجل أن الواجب على الجميع معرفتها وتحصيل العلم بها بالبرهان والدليل، ولا يصح التقليد فيها لأنه مستلزم للدور الباطل وبيانه يتطلب مجالاً آخر، ويمكن القول بأن الملاك في العقائد هو حصول العلم بالمُعتَقَد وإن كان عن طريق التقليد فيكون العلم هو الحجة المثبتة للعقيدة لا التقليد؛ فلا يستند عدم التطرق للعقائد في أبحاث التقليد إلى حصر الدين في الفقه – و لهذا يعرّف الفقهاء أنفسهم التقليد بأنه العمل مستنداً إلى فتوى الفقيه أو الإلتزام بالعمل به وإن لم يعمل بعدُ ، ولا يختص ذلك بالفقه فإن صحة الأبدان وعلاج الأمراض – الوارد في كلام المتحدث – أيضاً مما يُرجَع فيه إلى أهل الإختصاص لا إلى كل أحد، نعم لا يحق لمن يعالج بالأعشاب أن يمنع الناس من الرجوع إلى من يعالج بطريقة أخرى فيما إذا كانت الطرق الموصلة إلى المقصود متعددة – ولكن العقل يحكم بلزوم الرجوع إلى من يكون أقرب إلى الصواب في تشخيص المرض و دوائه و علاجه – وليس عقلائياً أن يعالج الجاهل بالطب نفسه أو غيره، وعملياً أيضاً نجد أن الناس يرجعون في علاجاتهم إلى الطبيب الأحذق والأمهر إلا إذا كان المرض سهل العلاج يمكن علاجه بمراجعة أي طبيب كان .. ونفس الأمر جارٍ في الفقه أيضاً والفرق إنما هو في كون الفقه متعلقاً بأحكام الله تعالى والفقيه يريد أن يُسند الحكم إليه جل وعلا كما أن المكلف – سواء كان فقيهاً أم لم يكن – في مقام العمل يريد أن يطبق حكم الله تعالى ويعمل بما يوجب سعادته في الآخرة مضافاً إلى الدنيا .. فالمهم في الفقه هو معرفة حكم الله تعالى والعمل به إلا أن معرفته تحتاج إلى أن يكون المكلف عارفاً بالأدلة الشرعية قادرا على حل مشكلة التعارض بين الأدلة ومعضلة التزاحم في مقام العمل كما يلزم أن يكون قادراً على معرفة القواعد العامة الواردة في نفس الأدلة الشرعية من الآيات والروايات وعلى تطبيقها على مواردها من دون ان يلتبس عليه الأمر في تشخيص وتطبيق القواعد المختلفة و.. و قد أكّد الأئمة المعصومون على ذلك فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : “إنما علينا أن نلقي عليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا ” – و قد أشرنا إلى جانب من القواعد العامة و تطبيقاتها في مقال ” ضرورة المرجعية ” .. فإذا كان المكلف قادراً على ذلك فلا مشكلة في البين ولا يُلزمه أحد بمراجعة الفقهاء بل الفقهاء أنفسهم يفتون بعدم جواز رجوعه إلى غيره وإن كان – ذلك الغير من أفقه الفقهاء – وأما إذا لم يتمكن من معرفة الأحكام عن أدلتها التفصيلية وعلاج التعارض بين الروايات في مقام تشخيص الحكم الإلهي، ومعرفة الوظيفة الشرعية عند التزاحم في مقام العمل و.. فعليه أن يرجع إلى أهل الإختصاص، ولا ينحصر الطريق بذلك أيضاً بل يمكنه الإحتياط بما يوجب العلم أو الإطمئنان بأنه قد أدى تكليفه، فكما أن أمر المريض الذي يريد علاج نفسه دائر بين أن يكون طبيباً قادراً على ذلك وبين أن يرجع إلى أهل الإختصاص أو الأخذ بأحوط أقوال الأطباء في العلاج – إن افترض تحقق مورد يمكن الإحتياط فيه في علاج الأمراض – ولا يمكن اختيار طريق آخر .. كذلك الفقه المتعلق بأحكام الشريعة المقدسة فإن الأمر دائر بين أن يكون المكلف من أهل الإختصاص وبين الرجوع إلى أهل الإختصاص أو الإحتياط ومع ذلك نقول – ويقول الفقهاء – أنه لو افترضنا حصول العلم للمكلف بخطأ الفقيه في مسألة وحكم من الأحكام لم يجب بل لم يجز له اتباعه في ذلك حيث أنه لا موضوعية لاتباع رأي الفقيه ولزوم العمل بفتواه – الذي تمت تسميته في كلام المتحدث بسلطة الفقه واعتبرها غير ولاية الفقيه مع أن الحق أن ولاية الفقيه أيضاً راجعة إلى ولاية الفقه إلا أنه اصطُلحت ولاية الفقيه في الولاية والسلطة المتعلقة بإدارة شؤون المجتمع بتفاصيلها – بل هو طريق للوصول إلى حكم الله تعالى فإن أمكن الوصول إلى حكم الله تعالى بطريق من الطرق جاز سلوكه لتحصيله ولا يتمكن أحد من إلزامه باتّباع غيره حتى يسمى بسلطة الفقه وسيطرته، إلا أن الشأن كل الشأن هو أنه هل يوجد طريق  إلى حكم الله تعالى غير الإجتهاد و التقليد و الإحتياط – مع أننا نختلف مع المهندس في تسمية ضرورة الرجوع إلى أهل الإختصاص في الفقه بالسيطرة و السلطة الفقهية حيث أنه لا توجد سلطة وسيطرة بل بيان لطريق الوصول إلى حكم الله فإذا قيل أنه يجب الرجوع إلى الفقيه والأعلم فإنما هو لأجل الوصول إلى حكم الله بمعنى أن من يريد معرفة الحكم الإلهي لأجل العمل به ولم يكن هو من أهل الإختصاص ولم يعرف طريق الإحتياط أو لا يتمكن منه لزمه الرجوع إلى أهل الإختصاص أي الفقيه الأعلم – و لزوم كونه أعلم عقليٌ و شرعي و معمول به عقلائياً – كما أن المريض الذي يريد علاج نفسه و لم يكن من أهل الإختصاص في معالجة الأمراض ولم يكن له طريق إلى الإحتياط يلزمه الرجوع إلى الطبيب الماهر ولم يتفوه أحد بأن الحكم بلزوم الرجوع إلى الطبيب الماهر سيطرة طبية كما أنه لو افترضنا أن العلاج بالأعشاب أنفع وأبعد من الضرر و الأعراض الجانبية فحكمنا على من يريد العلاج الأنفع والأبعد عن الأضرار و الأعراض بلزوم مراجعة الأخصائيين في المعالجة بالأعشاب، لم يقل أحد أن ذلك سيطرة الطب العشبي و ..

هذا؛ والفقه متعلق بعناصر السعادة و الشقاء في يوم القيامة – مضافاً إلى الدنيا ولكن الأصل والأهم هو الآخرة لأنها دار البقاء و الحياة الأبدية – فإذا كان العقل والعقلاء يحكمون بلزوم الرجوع إلى أحذق الأطباء لعلاج مرض الجسم فمن باب الأولى يحكمون بلزوم مراجعة الأعلم في الفقه الأخبر بعناصر السعادة والشقاء في يوم القيامة، نعم؛ أسلم الطرق وأفضلها هو الإحتياط والأخذ بأحوط الوجوه والإحتمالات والأقوال إلا أنه طريق صعب عَسِر علما وعملاً، أما عملاً فواضح أن الإحتياط أمر صعب على الغالبية وأما علماً فلأن تشخيص موارد الإحتياط يحتاج إلى معرفة جميع الأقوال والوجوه والإحتمالات الواردة في كل حكم من الأحكام ومعرفة الأدلة الشرعية وملاحظة أوفق الوجوه لها و معرفة موارد مطلوبية الإحتياط من غيرها و الموارد التي يقتضي الإحتياط فيها تركَ الإحتياط و … فإن لم نقل بأن معرفة ذلك متعذرة على الأكثرية فهي متعسرة عليهم ، فيبقى أن يعمل بما فهمه هو من الأدلة الشرعية إن كان من أهل الإختصاص بالبيان المشار إليه أو أن يتبع آراء وفتاوى من هو قادر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية  ..

و الله ولي التوفيق و هو المعتمَد و عليه التكلان  ..

أيوب الجعفري

ليلة الأحد ٢٩ ربيع٢ ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٦ / ١ / ٢٠١٩ م

https://telegram.me/ayoobaljafary