هل هناك تجانس بين الإيمان و الشرك كي يُجمَع بينهما ؟
شيخنا الفاضل … السلام عليكم ورحمة اللة وبركاته، الآية .. و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون … كيف يتجانس الإيمان مع الشرك .. و كيف يعلم المؤمن أنه قد أشرك و هو فى غفلة من ذلك ؟ أفيدونا يرحمكم الله ..
________________________________________________
الجواب :
و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
للإيمان و الشرك مراتب ، فكل مرتبة من الإيمان دون الإيمان المحض الخالص الكامل يتضمن مرتبة من الشرك فكل مؤمن لم يبلغ كمال الإيمان فلا محالة يكون فيه مرتبة من مراتب الشرك .. فإذا أصبح الإيمان كاملاً خالصاً و محضاً خلا من الشرك ، و من بلغ هذه المرتبة من الإيمان كانت عبادته خالصة و خالية عن الشرك و هذه العبادة هي العبادة الحقيقية لأن ما يشتمل على الشرك ليس عبادة حقيقية أو كاملة كما أنه ليس مقبولاً أو أنه لم يبلغ كمال المقبولية ، و يمكن استفادة ذلك مما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ” .. و بعبادتنا عُبِد الله و لولا نحن ما عُبِد الله ” .. و هذه العبارة تحتمل عدة معان منها : أن عبادتنا كانت دعوة عملية إلى عبادة الله تعالى تطبيقاً لمبدأ : ” كونوا دعاةً للناس بغير السنتكم ” و : ” كونوا دعاة إلى انفسكم بغير ألسنتكم بطول الركوع و السجود ” .. كما أن غيرنا إنما عرفوا الله بنا فعرفوا عن طريقنا بأنه تعالى أهل للعبادة فعبدوه أو أنه أهل لأن يُخاف من غضبه و عذابه فيُعبَد خوفاً من ناره أو أنه أهل لأن يُشتاق في جنته فيُعبَد لنيلها و .. – على اختلاف مراتب إيمان الناس – .
و منها – و هو شاهد كلامنا – أن العبادة الحقيقية هي الخالصة الخالية عن كل شرك و شك و بما أن غير المعصومين بالعصمة الكبرى عليهم سلام الله لم يبلغوا كمال الإيمان فلا يخلو إيمانهم من شوب شرك أو شك ( إما في نفس العبادة أو في الطاعة أو في مراتب توحيد الذات أو الصفات أو الأفعال أو ما هو أعلى من ذلك و لا يعلمه إلا أهله .. كما سنشير إليه في الشق الثاني من الجواب ) فالمقصود من قوله عليه السلام : ” .. و بعبادتنا عُبِد الله و لولا نحن ما عُبِد الله ” أن العابد الحقيقي لله تعالى هم أهل البيت عليهم السلام و لولا عبادتهم لما عُبِد الله تعالى و لما كان هناك عابد له جل و علا فهم العابدون له حقيقةً دون من سواهم لأن غيرهم لم يبلغوا كمال الإيمان الخالص فلا يخلو إيمانهم من شوب شرك أو شك فلا تكون عبادتهم عبادة حقيقية بالدرجة المطلوبة لله تعالى – و إن كان الله تعالى برحمته و لطفه بعباده سيقبل عبادة العباد الواجدة لشرائط الصحة و بعض مراتب القبول لعلمه بقصورهم و عدم تمكنهم من الوصول إلى الدرجة المطلوبة له جل و علا – .. و إلى هذا المعنى أشار المرحوم الفيض الكاشاني رضوان الله تعالى عليه في عبارة مختصرة جدا حيث قال : ” و أما أن بعبادتهم عُبِدَ الله فلأن العبادة إنما تصح على المعرفة الكاملة و ليست إلا لهم كما قال سبحانه : و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” الوافي ج ١ ص ٤٢١ – ..
و هناك مراتب أخرى يمكن أن يكون إيمان المؤمن فيها مشوباً بالشرك و إليكم بعض الأمثلة :
١ – المؤمن الذي يؤمن بالله و اليوم الآخر و بنبوة النبي صلى الله عليه و آله و إمامة الأئمة عليهم السلام قد يُرائي في عمله و الرياء شرك خفي كما ورد في الحديث : ” الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ” فمع أن المرائي مؤمن من حيث الإعتقاد إلا أن فيه مرتبةً خفيةً من الشرك المتمثل في الرياء كما ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام أن : ” كل رياء شرك ” و قد قال تعالى : ” فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربه أحداً ” – الكهف : ١١٠ -فينطبق على المرائي قوله تعالى : ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” ..
٢ – الشرك في الطاعة يجتمع مع الإيمان بالله ، و قد ورد في بعض الروايات تفسير الشرك في الآية المذكورة بالشرك في الطاعة فعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” قال : ” شرك طاعة و ليس شرك عبادة ” ، فالمؤمن بالله تعالى و برسله صلوات الله عليهم و كتبه و حججه عليهم السلام قد يصدر منه الذنب فيعصي الله تعالى و يطيع الشيطان فيصبح مشركاً بالله عز وجل في الطاعة كما قال تعالى : ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ” – يس : ٦٠ – أو يطيع شيطان باطنه أي هواه فيجعله شريكاً لله تعالى في الطاعة كما قال عز و جل : ” أرأيت من اتخذ إلهه هواه ” – الفرقان : ٤٣ و قريب منه في سورة الجاثية : ٢٣ – و هذا ما يدعونا إلى التأمل في عباداتنا و صلواتنا لا سيما عندما نخاطب الله تعالى بقولنا : ” إياك نعبد ” فنحصر عبادتنا و نخصها بالله تعالى – لأن تقديم الضمير المنفصل المنصوب ( إياك ) الذي هو مفعول به ل( نعبد ) على الفعل يدل على الحصر مع غض النظر عن أصل تحقق العبادة مع غفلتنا عن الله و عما نقوله و نفعله في صلاتنا – بمعنى أننا يا إلهنا نعبدك و لا نعبد سواك ، فهل نحن صادقون في خطابنا هذا ؟ أفنُطيعه تعالى بقول مطلق و لا نعصيه ابداً كي لا نكون ممن يعبد الشيطان و الأهواء ؟ فإذا كنا كذلك فنحن صادقون في قولنا : ” إياك نعبد ” و إلا كنا مشمولين لعتابه تعالى : ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ” و شملنا قوله جل و علا : ” أرأيت من اتخذ إلهه هواه ” ، فتعالوا يا أحبتي نسعى و نحاول الإبتعاد عن المعصية التي تُدخلنا في الشرك في الطاعة كي نتمكن من تقديم عمل مقبول لدى الله تعالى و كي نكون صادقين في قولنا : ” إياك نعبد ” و لئلا يشملنا قوله تعالى :” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” ..
٣ – جميع ما في الكون جنود الله تعالى : ” و لله جنود السموات و الأرض ” – و تفسيره و تطبيقه على جميع الموجودات حتى الشياطين و أعداء الله تعالى يتطلب مجالاً آخر لسنا بصدده الآن كي لا نخرج عن الموضوع و لا نطيل الكلام – و لا يوجد في عالم الإمكان من يكون مستقلا في وجوده أو أفعاله أو الفيوضات الجارية على يديه الواصلة عن طريقه إلى من سواه من سائر العباد مهما كان من كُمّل الخلق المقربين لدى الله تعالى فإن الإستقلالية مختصة بالله تعالى و جميعُ من سواه جنودٌ له و بعبارة أخرى جميع من و ما سواه وسائط و ليسوا أسباباً مستقلة في إيصال الخير و النفع إلى الغير أو دفع الشر و الضر عمن سواهم من الخلق ، فلو أن مؤمنا أسند فعلا من الأفعال أو فيضاً من الفيوضات أو دَفْعَ شرٍ من الشرور أو ضرر من الأضرار إلى أحد من العباد زاعماً استقلاله في ذلك و نافياً لكونه واسطة من وسائط الفيض و جندياً من جنود الله تعالى كان مشركاً كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” قال : هو قول الرجل لولا فلان لهلكت ، و لولا فلان لما أصبت كذا و كذا ، و لولا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه و يدفع عنه ؟ قلت : فيقول : لولا أن الله مَنّ عليّ بفلان لهلكت ، قال : نعم لا بأس بهذا و نحوه ” – عدة الداعي ص ٨٩ – فعدّ عليه السلام إسناد الخير و دفع الشر إلى غير الله تعالى بالإستقلال شركاً و نفى البأس عن جعل غيره تعالى واسطة فالأول مع كونه مؤمناً بالله تعالى قد أشرك به غيرَه في أفعاله جل و علا و الثاني جعل الغيرَ واسطةَ فيضِ الله تعالى فلم يخرج عن التوحيد و حافَظَ على خلوص إيمانه في هذا الجانب .. ( و الجدير بالذكر أن هذه الأنواع – و بعض ما يأتي – من الشرك لا تُخرج الإنسان عن الدين و لا توجب الإرتداد فعن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال : ” إنه شرك لا يبلغ به الكفر ” ، نعم هناك أنواع أخرى توجب الإرتداد و الخروج من الدين كما سنشير إلى بعضها ) ..
٤ – المؤمن الموحد الذي يرى أن الله تعالى واحد قد يعتقد بالتجسيم فيقول أنه جل و علا – و عوذاً به تعالى – جسمٌ فهو موحد من حيث الواحدية و لكنه مشرك من حيث الأحدية لأن الموجود الجسماني له مثل و نظير و لا أقل من الشبه في الجسمانية و التركّب و هو تعالى مجرد تام بسيط الحقيقة و : ” ليس كمثله شيء ” فالمؤمن بكونه تعالى واحداً القائل بالتجسيم النافي لأحدية الذات المدلول عليها بالبرهان و القرآن مشمول لقوله تعالى : ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” ( و للقول بالتجسيم توالي فاسدة كثيرة أهمها الحاجة و الفقر و الإمكان و الحدوث و .. و كلها منافية للألوهية كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالعقائد و الأبحاث الكلامية ) ..
٥ – من يعتقد و يؤمن بالتوحيد الذاتي فيرى الواحدية و الأحدية و لكنه لا يقول بالتوحيد الصفاتي فيرى أن صفات الله تعالى الذاتية غير ذاته جل و علا فهو موحد في جانب التوحيد الذاتي بكلا قسميه – الواحدية و الأحدية – و لكنه مشرك في التوحيد الصفاتي لأنه قد جعل صفات الذات غير الذات و اعتقد بقِدَمها فجعل لله عِدْلاً بل قد قالوا بالقدماء الثمانية – الذات الإلهية و العلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الكلام و الإرادة – ناهيك عن استلزامه ما استلزمه القول بالتجسيم ..
و هكذا فيما يتعلق بالتوحيد الأفعالي و التوحيد في الخالقية و التكوين و التدبير و التشريع و العبادة و … فالمؤمنُ بوجود الله تعالى و توحيده في بعض المراتب غير المعتقد بأنه : ” لا مؤثر في الوجود إلا الله ” بمعناه الصحيح أو القائل بوجود خالق أو مدبر مستقل عن الله جل و علا غير محتاج إليه تعالى مشمولٌ لقوله عز وجل : ” و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ” ..
و هناك مراتب توحيدية لم يدركها غير أهل الله المقربين البالغين درجة “قاب قوسين أو أدنى” و هو من جملة مراتب أو معاني مقام الفناء الذي يمكن القول باختصاصه بالمعصومين بالعصمة الكبرى عليهم صلوات الله الملك المنان و هو مقام خرق الحجب و المحجوبية و الغفلة عما سوى الجمال و الجلال المطلق .. فَقَلّ من يكون مؤمناً موحداً بتمام ما للكلمة من معنى و خالصاً كاملاً في توحيده في جميع المراتب و لهذا قال عز من قائل : “و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون” و الآية تدل على أن الأكثرية هكذا و ليس الجميع كما أن الآيات الأخرى تدل على قلة المؤمنين قبال الكفار فالمؤمنون الموحدون بجميع مراتب التوحيد هم الأقلون عددا و الأعظمون عند الله قدراً الذين لولاهم لما خلق الله سماء مبنية و لا أرضاً مدحية و لا ملكاً مقرباً و لا ..
وفقنا الله و إياكم لنيل خالص الإيمان و بلوغ عليا درجات التوحيد بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ..
أيوب الجعفري
يوم الإثنين ٢٥ ربيع١ ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٣ / ١٢ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary