هل إقامة مجالس الوفيات و المواليد بدعة ؟
سؤال : سلام عليكم شيخنا و تقبل الله اعمالكم .. هناك سؤال يطرحه البعض و هو في الحقيقة شبهة يوجّهونها إلينا و هي : ألا يعد إقامة مجلس تنصيب الإمام الحجة عليه السلام بدعة ؟ و أيضاً : ألا يعد إحياء المجالس في ذكرى وفيات و مواليد النبي و أهل البيت عليهم السلام بدعة حيث لم يقم بها السلف الصالح ؟
الجواب : و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته .. بسم الله الرحمن الرحيم .. الإمام المعصوم عليه السلام منصوب من قِبل الله تعالى وقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادة الأئمة عليهم السلام، هذا في الواقع الخارجي وأما في علم الله تعالى : فهم أئمة في علمه جل وعلا من الأزل، نعم فِعليةُ إمامة كل إمام وتولّيه زمام الإمامة بالفعل يتوقف على وفاة الإمام السابق فبمجرد رحيل الإمام العسكري عليه السلام أصبحت إمامة صاحب الأمر عليه السلام فعليةً ولكن يحتفل بعض الشيعة في ليلة اليوم التالي احتراماً لذكرى الوفاة، بما يسمونه بالتنصيب وإن كان في واقع الأمر هو بمناسبة تَوَلّي زمام أمور الإمامة وفعليتها و ليس تنصيبا، نعم يمكن القول أنها ليلة عزاء الحجة بشهادة والده عليهما السلام فيُفضَّل تقديم هذا الجانب .
وأما فيما يتعلق بصلب الموضوع فنقول أن إقامة تلك المجالس – للتنصيب أو إحياءً للوفيات والمواليد – ليست بدعةً فإن البدعة تعني إدخال ما ليس من الدين فيه، والإحتفالُ بمناسبة من المناسبات لا يعد إدخالاً لما ليس من الدين فيه، وإذا كانت المناسبة متعلقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الياء الله تعالى كان الإحتفال بتلك المناسبة إحتراماً لصاحب المناسبة وتجليلاً له وقد مدح القرآن الكريم من يقوم بتعظيم واحترام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى : “… فالذين آمنوا به وعزوره ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” – الأعراف : ١٥٧ – والتعزير بمعنى التعظيم والإحترام ..
وأما قولهم أن الصحابة لم يقوموا بذلك فنقول أن مصادر التشريع منحصرة بالكتاب والسنة والعقل والإجماع – ويضيف أهل السنة : القياس والإستحسان والمصالح المرسلة – وليس فيها فعل الصحابة، هذا اولاً وأما ثانياً : فترك عمل ما لا يدل على التحريم كما أن فعل شيء لا يدل على الوجوب فإن العمل – كما يقولون – لا لسان له وغاية ما يدل عليه التركُ هو عدم الوجوب كما أن غاية ما يدل عليه الفعلُ هو عدم الحرمة، فلو قلنا بأن عمل الصحابة حجة شرعية فنقول : إذا تركوا فعلاً من الأفعال فغاية ما يدل عليه هو أنهم كانوا يرون عدم وجوب ذلك الفعل كما أنهم إذا فعلوا شيئاً فغاية مدلوله أنهم لم يكونوا يرون حرمة ذلك الفعل فإذا لم يقيموا مجلساً لتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دل ذلك على أنهم لم يكونوا يرون وجوب إقامة ذلك المجلس لا أنهم كانوا يرون حرمتها .. وأما ثالثاً : فقد كان الصحابة يعظمونه صلى الله عليه وآله وسلم كما صرحت به آية التعزير المشار إليها اعلاه، وقد صرح ابن حزم في فتح الباري ج٢ ص٩ أن الصحابة كانوا يعظمون النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وسيأتي أن فقهاء أهل السنة أيضا كانوا يرون جواز التعظيم حتى ولو كان ذلك بإقامة مجالس في ذكرى ميلاده صلوات الله عليه وآله فانتظره – ولا يخفى أنه لو جاز التعظيم جاز بأي نحو وأي مصداق كان ما لم يكن فيه ما ينافي سائر الأحكام ولا أظن أن أحداً يحرّم أصل تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل لا أظن وجود من لا يرى رجحانه فيلزم أن يكون التعظيم بإقامة مجالس المولد أيضاً جائزاً بل راجحاً شرعاً مع رعاية سائر الأحكام ومراعاة قدسية المجلس وعدم إقحام المحرمات فيه ..
والطريف أن الناس يحتفلون لتخرُّجهم من الجامعة ولمواليدهم ولم يقل أحد أن ذلك بدعة ولكن عندما يعظِّم المؤمنون رسولَ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وآلَ بيته عليهم السلام بإحياء مواليدهم وإقامة المجالس في وفياتهم اعترض الجهلة وادّعوا أنه بدعة، أيّة بدعة في تعظيم أنبياء الله واوليائه تعالى مع ورود لزوم تعظيم الوالدين والمعلم وكبار السن و.. في الشريعة المقدسة فكيف بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؟! ..
وفوق كل ذلك : نعلم جميعاً أن تعظيم أي إنسان بل وأي موجود إنما هو – في الأعم الأغلب بل دائماً إذا لم يكن هناك جبر أو خوف أو اضطرار – لأجل انطباق عنوان عليه يجعله صاحب حق أو فضل أو كمال فإذا عظّمنا و احترمنا الوالدين فإنما هو لانطباق عنوان الأُبُوَّة و الأمومة اللتين تجعلهما ذوي حق على الاولاد، و إذا عظّمنا و احترمنا المعلم فإنما هو لأجل كونه معلماً و لانطباقِ هذا العنوان عليه و ليس لأجل كونه زيداً أو عبيداً و هكذا في سائر الموارد، و هذا ما يُعَبَّر عنه في علم الأصول بتعليق الحكم على الوصف و يقولون أنه مشعر بالعلية بمعنى أنه لو قال أكرم الشعراء مثلاً فقد علّق حكم وجوب الإكرام على وصف كونه شاعراً فكونه شاعراً علة وجوب إكرامه، و عندما يقال وقروا كباركم و ارحموا صغاركم فمعناه أنه ينبغي تعظيمهم لأجل كونهم كباراً كما أن كونهم صغاراً يستلزم أن نرحمهم و نعطف عليهم، و هو صادق على تعظيم و احترام و تقديس الأنبياء و الأولياء عليهم السلام فتعظيمهم معلَّلٌ بالنبوة و الإمامة و الولاية فتعظيم الأنبياء والأئمة والاولياء من صميم الدين وليس إدخالاً لما ليس من الدين فيه .. وبما أنه لا مدخلية للحياة والممات في نبوة النبي وإمامة الإمام فلا معنى لأن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ارتحل عن الدنيا فلا يجوز توقيره وتعظيمه، حيث نقول أن تعظيم النبي بمعنى تعظيم نبوتِه و نبوتُه لا تدخل في حيز الزمان – ولهذا يجب الإيمان بنبوة جميع الانبياء عليهم السلام وإن نُسِخَتْ رسالتهم بالشريعة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت الشرائع السابقة ايضاً تُنسخ كل سابقة منها بلاحقتها ولكن الشريعة الإسلامية المقدسة ناسخة لجميع الأديان السابقة وهي الباقية إلى يوم القيامة، ومع ذلك يجب الإيمان بنبوة الأنبياء السابقين ايضاً كما قال تعالى : “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ” فمع أن غالبية الانبياء السابقين قد ارتحلوا إلى جوار رحمة ربهم الكريم – مضافاً إلى منسوخية أديانهم – مع ذلك جعل الإيمان بهم من خصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى جانب إيمانهم بالله وبما أنزله على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبالملائكة والكتب النازلة من قِبَل الله جل و علا على الانبياء عليهم سلام الله ..
وأما آراء الفقهاء فرجحان إقامة مجالس الوفيات والموالد عند فقهاء الإمامية أمر مفروغٌ عنه، وأما فقهاء أهل السنة فإن ما يُدّعى من تحريمهم لها وأنهم يرونها بدعة في الدين غير صحيح أبداً ولا نريد هنا سرد أقوالهم في المسألة ولكن لأجل أن يتضح الأمر ويظهر الحق ننقل لكم عبارة البكري الدمياطي وهو من علماء الشافعية وهو ينقل رأي كثير من فقهاء وعلماء أهل السنة فقد قال في كتابه إعانة الطالبين ج٣ ص٤١٣ إلى ٤١٥ : (فائدة : في فتاوى الحافظ السيوطي في باب الوليمة “سئل” عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ قال : “و الجواب” عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي “ص” وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك من البدع الحسنة التي عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي “ص” وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف . انتهى . وقد بسط الكلام على ذلك شيخ الاسلام ببلد الله الحرام مولانا و أستاذنا العارف بربه المنان سيدنا أحمد بن زيني دحلان في سيرته النبوية، ولا بأس بإيراده هنا، فأقول : قال رضي الله عنه ومتعنا و المسلمين بحياته . فائدة : جرت العادة أن الناس إذا سمعوا ذكر وضعه “ص” يقومون تعظيما له “ص” وهذا القيام مستحسن لما فيه من تعظيم النبي “ص”، وقد فعل ذلك كثير من علماء الأمة الذين يقتدى بهم . قال الحلبي في السيرة فقد حكى بعضهم أن الامام السبكي اجتمع عنده كثير من علماء عصره فأنشد منشده قول الصرصري في مدحه “ص” : قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب * على ورق من خط أحسن من كتب * و أن تنهض الاشراف عند سماعه * قياما صفوفا أو جثيا على الركب . فعند ذلك قام الامام السبكي وجميع من بالمجلس، فحصل أنس كبير في ذلك المجلس وعمل المولد . واجتماع الناس له كذلك مستحسن . قال الإمام أبو شامة شيخ النووي : ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده “ص” من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقراء – مشعر بمحبة النبي “ص” وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسول الله “ص” الذي أرسله رحمة للعالمين . قال السخاوي : إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الاسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، و يعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم . وقال ابن الجوزي : من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، وأول من أحدثه من الملوك الملك المظفر أبو سعيد صاحب أربل، وألف له الحافظ ابن دحية تأليفا سماه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه الملك المظفر بألف دينار وصنع الملك المظفر المولد، وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا … قال الحسن البصري قدس الله سره : وددت لو كان لي مثل جبل أحد ذهباً لأنفقه على قراءة مولد الرسول … قال معروف الكرخي قدس الله سره : من هيأ لأجل قراءة مولد الرسول طعاما وجمع إخوانا، و أوقد سراجا، و لبس جديدا، وتعطر وتجمل تعظيما لمولده حشره الله تعالى يوم القيامة مع الفرقة الأولى من النبيين، وكان في أعلى عليين . ومن قرأ مولد الرسول “ص” على دراهم مسكوكة فضة كانت أو ذهبا وخلط تلك الدراهم مع دراهم أخر وقعت فيها البركة ولا يفتقر صاحبها ولا تفرغ يده ببركة مولد الرسول “ص” . وقال الامام اليافعي اليمنى : من جمع لمولد النبي “ص” إخوانا وهيأ طعاما وأخلى مكانا وعمل إحسانا وصار سببا لقراءة مولد الرسول بعثه الله يوم القيامة مع الصديقين والشهداء والصالحين ويكون في جنات النعيم . وقال السري السقطي : من قصد موضعا يقرأ فيه مولد النبي “ص” فقد قصد روضة من رياض الجنة لأنه ما قصد ذلك الموضع إلا لمحبة الرسول . وقد قال عليه السلام : من أحبني كان معي في الجنة، قال سلطان العارفين جلال الدين السيوطي في كتابه الوسائل في شرح الشمائل : ما من بيت أو مسجد أو محلة قرئ فيه مولد النبي “ص” هلا – إلا – حفت الملائكة بأهل ذلك المكان وعمهم الله بالرحمة والمطوقون بالنور – يعني جبريل وميكائل وإسرافيل وقربائيل وعينائيل و الصافون والحافون والكروبيون – فإنهم يصلون على ما كان سببا لقراءة مولد النبي “ص” قال : وما من مسلم قرئ في بيته مولد النبي “ص” إلا رفع الله تعالى القحط والوباء والحرق والآفات والبليات والنكبات والبغض والحسد وعين السوء واللصوص عن أهل ذلك البيت، فإذا مات هوّن الله تعالى عليه جواب منكر ونكير، وكان في مقعد صدق عند مليك مقتدر …. )
موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..
ايوب الجعفري
ليلة الإثنين ١٨ ربيع١ ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٢٦ / ١١ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary