إقدام الإمام عليه السلام على تناول السم مع علمه بالغيب
سؤال من أحد فضلاء الأساتذة :
شيخنا الحبيب …
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يقف الكثير من المؤمنين عند شبهة علم الإمام بالغيب و من مصاديق ذلك علمهم عليهم السلام بما سيجري عليهم من الظالمين لهم…. و كمثال على ذلك يسوقون إشكالية مفادها كيف أقدم الإمام الرضا عليه السلام على أكل العنب وهو يعلم أنه مسموم ؟.. فكيف نوفق بين إقدامه على تناول ما يضره وهو يعلم بذلك…؟… والمؤمن بطبيعة الحال منهي عن الإضرار بنفسه.!!!. نرجو من سماحتكم الرد على مثل هذه الإشكالية بما يرفع الشبهة لدى من يقف عندها … ودمتم ذخرا و سندا للمؤمنين .
________
و عليكم السلام سماحة الأستاذ المبجل و رحمة الله و بركاته
قد أجاب العلماء و الفلاسفة و المتكلمون على الشبهة المذكورة بأنحاء مختلفة وما يمكن التطرق إليه في هذا المختصر هو أن علم الله تعالى فعلي غير مُعَلَّقٍ على شيء كما أنه ذاتيٌ غيرُ مُكْتَسَبِ من الغير وإذا تعلق – أي علمه تعالى – بذاته كان عين ذاته المتعالية أيضاً، بناء على التوحيد الصفاتي المُبَيَّن في علم الكلام (العقائد) بمعنى أنه مضافاً إلى كونه فعلياً وذاتياً، عينُ الذات …
وأما غيره تعالى أيّاً كان ذلك الغير فليس علمه ذاتياً نابعاً من الذات بل هو وصف خارجي (خارج الذات) يحصل له بأحد نحوين : إما بالتعلُّم والتحصيل المتعارف بين جميع بني البشر وهو المسمى بالعلم الإكتسابي، أو بالإلهام الرباني وهو المسمى بالعلم اللدني أو الإلهامي أو الإفاضي ( و بينهما فروق متعددة لسنا بصدد بيانها في هذا المختصر ) ..
وعلم المعصوم عليه السلام قد يكون في الموضوعات والأمور المتعارفة التي تتحقق المعرفة بها بطرق متعارفة كالمشاهدة و السماع والتفكُّر والتدبر و .. وقد يكون علمه متعلقاً بالغيبيات – الشاملة لحقائق الأشياء و الأعمال وبواطنها .. وللحوادث والأحداث المستقبلية المتعلقة بمُلك العالم وعالم الطبيعة – ..
ففي القسم الأول يتوقف العلم على تحصيله عن طريقه المتعارف وهذا العلم هو العلم الذي يقال بانه شرطٌ في تنجّز التكليف كما سنشير إليه لاحقاً، وأما القسم الثاني و هو علم الغيب فهو متوقف على تعليم الله تعالى والمستفاد من بعض النصوص الشرعية هو أنه يتوقف على الإرادة أيضاً بمعنى انه مضافاً إلى أن هذا العلم مختص بالله تعالى بالذات، وغيرُه لا يمتلك هذا العلم من تلقاء نفسه بل إن كان من عباد الله المقربين الذين لهم أهلية الحصول على هذا العلم فالله هو من يُفيض عليه هذا العلم كما قال تعالى : “عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً” – سورة الجن : ٢٦ و ٢٧ – و قال جل و علا : “ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ..” – سورة آل عمران : ٤٤ – و …، مضافاً إلى ذلك، فإن هذا العلم مع أنه متحققٌ لهم بالفعل فيما يتعلق بحقائق الأشياء والأعمال وبعض الجوانب الأخرى وذلك بإذن الله وتعليمه تعالى إلا أنه فيما يتعلق بالأحداث والحوادث ليس حاصلاً لهم بالفعل بل بالإرادة فإن شاؤوا أن يعلموا علّمهم الله تعالى وأخبرهم بما سيكون، وإن لم يشاؤوا لم يعلّمهم الله جل وعلا .. وبما انهم عليهم السلام كسائر الناس يعيشون في عالم التكليف والإبتلاء وهم قد سلّموا أمورهم لله تعالى فلا يشاؤون لأنفسهم إلا ما شاء الله لهم وقد فوّضوا أمورهم إلى الله تعالى ليجري عليهم ما قد قدّره و قضاه لهم فلا يشاؤون أن يعلموا لحظة قيام الأعداء بتسميمهم مثلاً ..
هذا مضافاً إلى ما أشرنا إليه من أن العلم الموجب لتنجّز التكليف هو العلم الحاصل بالطرق المتعارفة وأما العلم الحاصل بالطرق الغيبية فلا يدخل في نطاق التكليف ولا يوجب حكما شرعياً من وجوب أو حرمة أو غيرهما من الأحكام التكليفية فإن متعلَّق هذا العلم خارج عن إرادة الإنسان واختياره؛ قال العلامة الطباطبائي قدس : “علم الغيب موهبة إلهية ولا يتطرق إليه الخطأ ولا التغيير، فعلم الإمام علمٌ بالقضاء الحتمي الإلهي واللوح المحفوظ – أي علم الله – فلا يتعلق بهذا العلم تكليفٌ لأن التكليف إنما يصح فيما إذا كان الفعل والترك بيد المكلف نفسه وكان المكلف قادراً على اختيار ما يشاء منهما، ولا أثر للأمر والنهي فيما تعلق به القضاء الإلهي المحتوم” انتهى ما ترجمناه من محكي كلامه رُفع مقامه ..
ولهذا لو تنزلنا عن الجواب السابق وقلنا بأن علم الإمام عليه السلام فعليٌّ ولا يتوقف على المشيئة – كما يستفاد ذلك من روايات أخرى غير التي تقول أن علمه عليه السلام متوقف على مشيئته فإن شاء علّمه الله وإلا فلا – نقول أن علم الإمام عليه السلام قد تعلق بما قضاه الله تعالى قضاءً حتمياً لا مردّ له أي أنه قد تعلق بما هو خارج عن إرادة الإنسان فلا يمكن أن يتعلق التكليف بالمعلوم بهذا العلم لأن التكليف متوقف على الإختيار وكون المكلف قادراً على طرفي الفعل والترك فإذا تعلق العلم بما هو خارج عن الإختيار والإرادة لم يتعلق به تكليفٌ من وجوب أو حرمة أو إستحباب أو كراهة ولهذا نقول أن علم أمير المؤمنين عليه السلام بقاتله بل بوقت قيامه بالقتل لا يوجب عليه أن يبقى عليه السلام في البيت وأن لا يخرج إلى المسجد لأنه يعلم بأنه سيُقتل بيد هذا اللعين وفي المسجد فإن خرج هو إلى المسجد تحقق ما قضاه الله تعالى وإن لم يخرج دبّر الله الأمر بطريق آخر وفَعَلَ ما يوجب خروجَه إلى المسجد ليقوم اللعين بما قام به و يفوز أمير المؤمنين عليه بالشهادة في بيت الله تعالى كما فاز بيتُ الله تعالى – الكعبة المشرفة – بولادته عليه السلام فيه ..
وهذا ما يفسر قول الإمام الحسين عليه السلام لمّا أرادوا منعه من الخروج إلى العراق : “شاء الله أن يراني قتيلاً” وفيما يتعلق بخروج النساء معه : “شاء الله أن يراهن سبايا” ( و بطبيعة الحال : مشيئةُ الله تعالى ليراه قتيلاً و يراهن سبايا كانت لحكمة بقاء الدين بذلك وهو ما يتطلب موضوعاً آخر .. ) فمُتعلَّق علم الإمام هو مشيئة الله تعالى القطعية التي لا يمكن تغييرها فلا معنى لأن يُكَلَّفَ الإمام الحسين عليه السلام بعدم الخروج ما دامت المشيئة الإلهية القطعية قد تعلقت بالخروج واستشهاده عليه السلام وسبي نسائه صلوات الله عليهن، وهذا الأمر جارٍ في تسميم وقتل سأئر الأئمة عليهم السلام ما لم يكن هناك إجبار على تناول السم من قبل الظلمة والطغاة كما سنشير في قضية تسميم المأمون للإمام الرضا عليه السلام ..
هذا، وقد أشرنا أن علم من سوى الله تعالى بالغيب ليس ذاتياً ولا فعلياً بل يتوقف على مشيئتهم كما أشرنا إليه ببيان إجمالي، كما يتوقف على مشيئة الله تعالى وتعليمه لهم فإذا اقتضت المصلحة المبتنية على الحكمة الربانية أن يعلمهم الله تعالى شاء الله عز و جل ذلك وعلّمهم وأما إذا لم تقتضِ المصلحة و الحكمة ذلك لم يشأ فلم يعلّمهم، وهذا ما نشاهده في قصة النبي يعقوب مع ابنه يوسف على نبينا و آله و عليهما السلام حيث أن النبي يعقوب عليه السلام استشم ريح يوسف عليه السلام وقد كان يوسف في مصر التي تبعد عن كنعان مسافة عشرة أيام على أقل تقدير وإنما استشم ريحه لأن الله تعالى شاء ذلك وأوصل ريحه إليه ولكنه لم يشم ريح يوسف ولم يعلم بمكانه حينما كان في البئر القريبة من كنعان وذلك لأجل أن المصلحة المبتنية على الحكمة الإلهية قد اقتضت أن لا يعلم يعقوب مكان يوسف حتى يجري القضاء الإلهي بشأن يوسف ولهداية أهل مصر وإنقاذ أهلها من الشرك مضافاً إلى إنقاذهم وإنقاذ أهالي البلاد المجاورة من القحط والمجاعة مع ما يتضمن ذلك من إظهارٍ للقدرة الإلهية والعلم الرباني ليكون دليلاً إعجازيا على صدق يوسف ونبوته ليخدم الهدف الأول وهو هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من ظلمات الشرك والكفر .. فالله تعالى قد أراد أن يعلم يعقوب ويشم ريح يوسف فعلم وشم ريحه كما أنه شاء وأراد في بداية مؤامرة إخوته ضده أن لا يعلم بمكانه فلم يعلم، فيمكن تطبيق ذلك على مورد السؤال ايضاً ..
هذا كله فيما إذا لم يكن الإمام عليه السلام مضطراً من قبل الظلمة بفعل ما يوجب استشهاده وأما الإمام الرضا عليه السلام – والذي قد أشير إليه بالخصوص في السؤال – فلم يكن أكله العنب المسموم اختيارياً بل قد أجبره المأمون على أكله فلا يتوجه السؤال عن علة أكله العنب مع علمه بوجود السم فيه ..
موفقين لكل خير ولا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
https://telegram.me/ayoobaljafary