بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ثورة الحسين عليه السلام – الجزء التاسع – :
قلنا أن هناك آياتٍ ورواياتٍ كثيرةً تدل على أهمية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنها ما دل على جزاء التاركين لهذه الفريضة وقد ذكرنا في الأجزاء السابقة قسماً من الآيات والروايات، وقبل أن نذكر روايات أخرى حول هذا الموضوع تجدر الإشارة إلى أن الرواية السابقة ذمت من يأتي في آخر الزمان ممن لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا إذا أمن الضرر ، فهي في مقام بيان ضرورة العمل بهذه الفريضة وإن أوجب الضرر، وهذا ما سنتطرق له في محله – في مبحث شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – من أن العمل بهذه الفريضة واجب وإن استلزم تَعَرُّضَ العامل بها للضرر أو الخطر فيما إذا كان مورد الأمر أو النهي أهم من الضرر أو الخطر الذي سيتعرّض أو يمكن أن يتعرّض له الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لأجل عمله بهذا التكليف، وأما إذا انعكس الأمر لم يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و سياتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى فانتظروه ..
* ومن جملة الروايات التي تتحدث عن جزاء وعاقبة ترك العمل بهذه الفريضة هو ما رواه محمد بن عرفة عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال : “لَتَأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهُنَّ عن المنكر أو لَيُسْتَعْمَلُنَّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم” – الكافي ج ٥ الحديث ٣ – وبهذا المضمون روايات أخرى؛ والمستفاد منها أن عاقبة ترك العمل بهذه الفريضة أمران الأول استيلاء وسيطرة الأشرار على الأمة والثاني عدم استجابة الدعاء والظاهر أن المقصود – كما يستفاد من السياق ومن مناسبة الحكم والموضوع – عدم استجابة دعاء خيارهم في النجاة عن ظلم الأشرار، وقد ذكرنا في الأجزاء السابقة أن هناك علاقةً وثيقةً بين أحداث وحوادث الكون وبين أعمال الإنسان وهذه الرواية بصدد بيان تلك العلاقة وأنّ ترك العمل بهذه الفريضة سبب لسيطرة الأشرار مضافاً إلى سببيته لعدم استجابة الدعاء وأن من جملة الذنوب التي تحبس الدعاء المشار إليها في بعض الروايات والأدعية كدعاء كميل هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث أن الله تعالى – وكما سبقت الإشارة إليه – قد جعل نظام هذا العالم وفقاً للأسباب والمسببات والدعاء من جملة الأسباب ولكن يلزم التوسل بالأسباب الطبيعية مع كون الإعتماد على الله دون الأسباب الطبيعية لأنه تعالى هو مُسَبِّبُها فلا تؤثر إلا بإذنه جل وعلا، والعاصي بتركه أكبرَ الفرائض لم يتوسل بالأسباب الطبيعية للعيش في مجتمع يحكمه الصلحاء بل – على العكس من ذلك – قد توسل بأسباب توجب سيطرة الأشرار فلا معنى لأنْ يتوقع الإعجاز الإلهي بالدعاء للنجاة من سيطرتهم ولهذا وغيره من الأسباب لا يستجاب دعاؤهم – وللحديث في هذا الموضوع مجال واسع لسنا بصدده في هذه العجالة ..
* ومن روايات الباب ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه وقال : “أما بعد فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك وإنهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فَأْمُرُوا بالمعروف وانْهَوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يُقَرِّبا أجلاً ولم يقطعا رزقاً، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان … ” المصدر نفسه الحديث ٦ .
ولا يخفى أن قوله عليه السلام : “واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلا ولم يقطعا رزقا ..” إشارة إلى أن زمام أمور الكون وتدبير العالم بأجمعه بيد الله تعالى فهو من يقدّر الآجال والأرزاق وهو قادر على أن يجعل موجِبَ الموت سبباً للحياة، وأن يجعل سبب الفقر والحاجة سبباً للغنى ونزول الأرزاق و.. كما قال تعالى : “ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” – سورة آل عمران : ١٥٤ – فبيّن لنا أن أمر الموت بيد الله تعالى، وإن كان هناك أجل محتوم وآخر معلق ولكن الله تعالى إذا قدر وقضى قضاءً حتمياً أن يموت أحد، مات في وقته سواء كان في الحرب أم كان في بيته .. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان موتَ الإنسان وأجله المحتوم، كما أنه إذا جاء هذا الأجل لا يتأجّل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا بالنسبة للرزق حيث يشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن العمل بهذه الفريضة لا يقطع رزق الإنسان مهما عمل مرتكبوا المعاصي على قطع أرزاقهم فالله تعالى سيفتح له باباً آخر للرزق إلا أن تقتضي المصلحة أمراً آخر كامتحان وابتلاء هذا الشخص بنقص في الأموال والأرزاق تكفيراً لذنوبه أو ترفيعاً لدرجاته بصبره على بلائه وإذا اقتضت المصلحة ذلك فسيُبتلى هذا الإنسان بالفقر سواء أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أم لا، فلا تأثير للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في انقطاع الرزق بل الأمر بالعكس تماماً فإن الإيمانَ القلبي والالتزامَ العمليَّ بمقتضاه وظهورَه – أي الإيمان القلبي – في الأعضاء و الجوارح ليكون الإيمان هو المستولي على وجود الإنسان في قلبه وقالبه، هذا الإيمان والإلتزام العملي به سببٌ لنزول الخيرات وموجب لانفتاح أبواب البركات كما قال الله عز وجل : “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ” – سورة الأعراف : ٩٦ – فتركُ العمل بالتكاليف وبما يقتضيه الإيمان هو الموجب لنزول البلايا والمصائب والعذاب لا العمل بها، نعم قد يُبتلى الإنسان بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض المشاكل والمصائب إلا أن ذلك ليس لأجل قيامه بهذا الواجب بل لأجل اقتضاء المصلحة له ومع اقتضاء المصلحة سيُبتلى بذلك وإن لم يأمر بالمعروف ولم يَنْهَ عن المنكر (كما أن الموت والأجل المحتوم أيضاً ليس لأجل القيام بهذا الواجب أو أي واجب آخر) .. فأمير المؤمنين عليه السلام يريد أن يقول أن من يظن أو يعتقد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجبان اقتراب الأجل أو انقطاع الرزق فهو واهم وذلك لأجل أن العمل بالتكاليف الشرعية علامة الإيمان والتقوى وقد دلت الآيات على أن الإيمان والتقوى والعمل الصالح سبب لنزول البركات وفتح أبواب الخيرات كما دلت على أن التحلي بالتقوى موجب للرزق من حيث لا يحتسبه المتقي حيث قال جل وعلا : “.. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ .. ” سورة الطلاق : ٢ – ٣ ؛ لا غلق أبواب الرزق والخير ..
وهذا الكلام صادق فيما يتعلق بثورة الحسين عليه السلام أيضاً حيث أن قيامه العملي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن أدى إلى استشهاده صلوات الله عليه إلا أن الشهادة كانت مكتوبة له لأن الدين لم يكن ليستقيم إلا بشهادته – وقد نُوَفَّق لبيان ذلك في نهاية هذا المكتوب في الأجزاء القادمة بعون المعبود – فليس السبب في استشهاده هو خروجه عليه السلام في هذه الثورة العظيمة بل مصلحة بقاء الدين اقتضت استشهاده إلا أنه لو لم يخرج لوقع القتل والإستشهاد من دون تحقق الهدف، وبعبارة أخرى : ليس خروجُه سَبَبَ استشهادِه عليه السلام بل كونُ شهادتِه موجباً لبقاء الدين هو سبب خروجه الذي سينتهي بشهادته عليه السلام، ولهذا يخبرنا هو صلوات الله عليه أنه لو لم يخرج من مكة أيضاً لقتلوه بل لو اختفى في جحر لأخرجوه وقتلوه حيث روي عنه عليه السلام أنه قال بعدما التقى بابن الزبير في منى عند جمرة العقبة : “… والله لئن أُقْتَلَ خارجاً منه – أي من المسجد الحرام – بشبر أحب إليّ من أن أُقْتَلَ فيه، ولئن أقتل خارجاً منه بشبرين أحب إليّ من أن أُقتل خارجاً منه بشبر ، والله لو كنت في جحر هامة لاخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، والله ليعتدوا فيّ كما اعتدت اليهود في السبت” – شرح الأخبار للقاضي نعمان المغربي ج ٣ ص ١٤٥ الحديث ١٠٨٧ – فالرواية تدل بوضوح أنه عليه السلام سيُقتل وهو صلوات الله عليه يعلم بأن بقاء الدين سيكون باستشهاده كما يعلم أن بقاءه في مكة المكرمة لا يحقق هذا الهدف مع وقوع القتل فكون استشهاده بخروجه سبباً لبقاء الدين أوجب خروجه المنتهي باستشهاده عليه آلاف التحية والثناء ..
وهناك روايات أخرى حول جزاء وعاقبة ترك العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنذكرها في الجزء التالي إن شاء الله تعالى ..
أيوب الجعفري
ليلة السبت ١٩ محرم الحرام ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٢٩ / ٩ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary