بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثورة الحسين عليه السلام – الجزء الحادي عشر – :
كان الحديث حول جزاء وعقاب تاركي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكرنا بعض الآيات والروايات، وإليكم روايات أخرى تتحدّث عن عقاب هؤلاء وتُبَيِّنُ ضمنياً مدى أهمية هذه الفريضة لدى الشارع المقدس فعن محمد بن الحسن الطوسي قال : روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : “لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسُلِّطَ بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء” . وسائل الشيعة – طبعة الإسلامية – ج ١١ ص ٣٩٨ الباب ١ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحديث ١٨ .
يشير الحديث إلى ما سبق بيانه من وجود علاقة وثيقة بين عقائد وأعمال وأخلاق العباد وبين الأحداث والحوادث فالعمل الصالح والتعاون على البر والتقوى سبب لنزول البركات والخيرات – المادية والمعنوية فإن الخير لا ينحصر بالأمورِ المادية ورزقِ الجسم بل صِدْقُه على الكمالات الروحانية والفيوضات المعنوية أكثر من صدقه على الرزق المادي لأنها اولاً أرزاق الروح والروح أشرف بُعدي وجود الإنسان بل هي الأساس وهي حقيقة الإنسان بمعنى ان الإنسان بروحه إنسانٌ وأما الجسم فهو وسيلة وأداة بيد الروح لتمشية الأمور لأن الروح من المجردات ذاتاً لا فعلاً بمعنى أنها ليست في ذاتها مادة ولكنها في أفعالها بحاجة إلى الجسم فالجسم وسيلة لها، وإذا تركته الروح تحول إلى ما كان عليه أي أصبح تراباً، والخلاصة أن حقيقة الإنسان بروحه لا بجسمه فرزق الروح وغذاؤها أشرف من رزقِ الجسم وغذائِه كأشرفية نفس الروح على الجسم نفسه، فصِدْقُ الخير على الكمالات الروحانية أكثر من صدقه على ما يتعلق برزق الجسم و..
هذا كله أولاً وأما ثانياً فلأن رزق الروح و غذاؤها باقٍ ورزق الجسم وغذاؤه فانٍ والباقي خير من الفاني بل هو الخير الحقيقي وبذلك يتبين أن الخير الحقيقي هو الكمال الروحاني الذي هو السبب في القرب إلى المعبود الكريم، وكل ما يؤدي إليه فهو خير، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : “لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر” دليل على أن ضمان كمالِ الأمة أو سيرِها نحو الكمال وما هو خير لدنياها وآخرتها هو قيامهم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن قوله صلوات الله عليه وآله : “فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسُلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء” يدل على أن سبب عناء الأمة مادياً وشقائِها معنوياً هو تركهم العمل بهذه الفريضة العظيمة فإنه يوجب نزع وسلب البركات وسيطرة الأشرار بدلاً من الأخيار الأبرار، ومن المعلوم أن سيطرة الأشرار مضافاً إلى انها تؤدي إلى انتشار الظلم و الفساد والإضطهاد، سببٌ لانحطاط الأمة معنوياً ومعرفياً لأن الأشرار ليس لهم همٌّ إلا استمرار سلطتهم وبقاء الثروات بأيديهم في حين أن الأولياء هدفهم تكميل العباد بإيصالهم إلى درجات القرب من الله تعالى عن طريق نشر الثقافة والمعرفة والأخلاق الإلهية لأن الولاية الإلهية – وكما سبقت الإشارة إليه – ولاية تكميلية وليست للسيطرة على العباد بمعنى أن الله تعالى – وهو الولي الذي له الولاية على العباد بالذات والأصالة لأنه خالقهم ومالكهم – قد جعل لأوليائه المقربين الولاية على سائر عباده ليأخذوا بأيديهم ويقودوهم نحو الكمال بنشر المعرفة الدينية بينهم وترسيخ عقيدة التوحيد بمختلف مراتبه في قلوبهم وتربية مجتمع يتبنّى التوحيد في جميع شؤونه ومناحي حياته و… فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب تام لنزع هذه البركات العظيمة، والداهية العظيمة هي دوامُ سلطة الأشرار لعدم وجود ناصر في الأرض ولا في السماء وقد سبق في بعض الأخبار أن ترك هذه الفريضة موجب لعدم استجابة الدعاء ايضاً فلا مطمع في نصرة الله تعالى لأن الله تعالى إنما ينصر من ينصره كما قال جل وعلا : “يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” سورة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – الآية ٨، وقد قال عز وجل : “إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده” سورة آل عمران : ١٦٠، فقد علّق تعالى نصرَه للمؤمنين على نصرهم له جل جلاله ونصرُهم له تعالى يكون بنصر دينه ونصرُ دينه فيما بين المؤمنين أنفسهم يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كما يكون بجهاد أعداء الله تعالى – فإذا نَصَرهم الله تعالى فلا غالب لهم لأن الناصر هو القدرة المطلقة اللامتناهية، وأما إذا لم يقم المؤمنون بهذه الفريضة فعذا يعني أنهم لم يحققوا شرط نصر الله تعالى لهم حيث قال تعالى: “أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم” ومعنى ذلك خذلان الله تعالى لهم وإذا خذلهم الله جل وعلا لم يكن لهم ناصر ولم يتمكن أحد من أن ينصرهم لا من أهل السماء ولا من أهل الأرض وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم – والله العالم – : “ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء” ..
ومن جملة الأحاديث ما عن الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في تفسيره عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث قال : “لقد أوحى الله إلى جبرئيل وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار، فقال جبرئيل : يا رب أخسف بهم إلا بفلان الزاهد ليعرف ماذا يأمره الله فيه، فقال : اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربه فقال : يا رب عرفني لم ذلك وهو زاهد عابد، قال : مكنت له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، وكان يتوفر على حبهم في غضبي (لهم) فقالوا : يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على انكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهُنَّ عن المنكر، أو لَيَعُمَّنَّكُم عذابُ الله، ثم قال : من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره . المصدر ص ٤٠٦ – ٤٠٧ الباب ٣ الحديث ١٢، وهذا الحديث يدل على أن ترك هذه الفريضة مع القدرة على العمل بها وحبّ الكفار والفجار مع سخط الله تعالى عليهم موجب لعذاب الخسف، مضافاً إلى اشتماله – أي هذا الحديث – على إحدى مراحل ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الإنكار القلبي للمنكر لمن لا يتمكن من فعل شيء في سبيل إزالة المنكر كما سيأتي في المبحث التالي بعون الله تعالى ..
هذا وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام إلى العقاب الأخروي لترك هذه الفريضة، فقد ورد في كتابه – بعدما التقى بجيش الحر رضوان الله تعالى عليه – إلى أشراف الكوفة : “بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن وال، وجماعة المؤمنين، أما بعد فقد علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال في حياته : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام، أو تاركا لعهد الله، ومخالفا لسنة رسول الله، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يغيِّر عليه بقول و لا فعل، كان حقا على الله أن يدخله مدخله . موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص ٤٥٧ – وهذا من جملة ما دعاه إلى إيجاب الرغبة في الموت وتقديم لقاء الله تعالى على البقاء في الحياة مع الظالمين حيث خطب في اصحابه بذي حسم : “… ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغبِ المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة (سعادة) ولا الحياة مع الظالمين إلا برما” – المصدر ص ٤٣١ – فقوله عليه السلام : “لِيَرْغَبِ المؤمنُ في لقاء الله” فعل أمر غائب بمعنى أن على المؤمن في هذه الحالة أن يرغب في لقاء الله تعالى فإن الموت في سبيل إحياء الحق وإبطال الباطل في ظرف ترك العمل بالحق وعدم قيام الناس بواجبهم في النهي – بل التناهي – عن الباطل، شهادةٌ وسعادة .. رزقنا الله وإياكم حسن العاقبة وسعادة الدنيا والآخرة بحق محمد وعترته الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين .. يتبع ..
أيوب الجعفري
ليلة الثلاثاء ٢٩ محرم الحرام ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٩ / ١٠ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary