اليقين الذي أتى أهلَ البيت عليهم
السلام عليكم شيخنا. وردت في كثير من الزيارات عبارة ‘حتى اتاكم اليقين’. هذه العبارة توحي بأن الامام المعصوم لم يتقن من قبل و أتاه اليقين . كيف تفسرون ذلك؟
______________________________________
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قد يقال اليقين ويُقصد به حصول اليقين بأمر ما فيكون قبله جهلٌ أو ما يشبهه من الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقد يُطلق اليقين على المُتَيَقَّن أي الأمر اليقيني وعادةً يُعَبَّر عن تحقق هذا اليقين (أي الأمر اليقييني) بالمجيء والإتيان، ومن جملة مصاديق هذا اليقين هو الموت كما قال تعالى : “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” وقد فُسِّر هذا اليقين بالموت لأنه أمر يقيني يقطع به الجميع ولا يشك أحد أنه سيأتيه في يوم من الايام فالجميع يعلم يقيناً أنه لا مفر منه، مضافاً إلى أنه يوجب اليقين بحقائق الأشياء والأحكام والأعمال والعاملين بها كما أن أهل المعرفة كانوا على يقين بحقائق الأحكام والأعمال والعاملين بتلك الأعمال وهم في الدنيا فمجيء اليقين لهم يعني أن اليقين الذي كان حاصلاً لهم في الدنيا قد تحقق لهم بواقعه وحقيقته (كما أن الله تعالى يمتحن العباد في دار الدنيا ليعلم المؤمن والصادق في إيمانه من غيره كما في قوله تعالى : “و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه” البقرة : ١٤٣، وقوله عز من قائل : “ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً” الكهف : ١٢ ، وقوله جل جلاله : “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين” آل عمران : ١٤٢ وغيرها من الآيات؛ ومن المعلوم أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ ويعلم السر وأخفى فجَعْلُ العلمِ غايةً للإبتلاء والامتحان في الدنيا يكون بمعنى تحقق المعلوم خارجاً لأن العذاب مترتب على الطغيان والتمرد على الله تعالى لا على العلم بذلك فقوله تعالى : “ليعلم” أو “لنعلم” يعني ليتحقق معلومنا في الخارج .. وتوضيحه التفصيلي مع الآحتمالات الاخرى في امثال هذه الآيات موكول إلى محله في مبحث علم الله تعالى، والمقصود هنا أن العلم واليقين يُطلق أحيانا على تحقق المعلوم والمتيقَّن؛ فالأولياء والأئمة الأطهار عليهم السلام يعبدون الله تعالى حتى يأتيهم اليقين أي الموت أو أنهم يعبدونه تعالى حتى يتحقق معلومهم بشأن الحقائق – حقائق الأعمال والعاملين – كما أنهم جاهدوا في الله عز وجل حتى أتاهم اليقين أي أن اليقين الذي كان حاصلاً لهم في الدنيا قد تحقق لهم بواقعه وحقيقته فيما بعد الموت) وأما غيرهم فلم يكونوا على علم بتلك الحقائق في الكون فيتحقق ويحصل لهم العلم واليقين بها بالموت (فبصرك اليوم حديد) ..
فقولنا في زيارة أهل البيت عليهم السلام : “وجاهدت في سبيل ربك وعبدته حتى أتاك اليقين” يعني : ١ – حتى أتاك الموت الذي هو أمر يقيني لا شك فيه و ٢ – حتى اتاك الموت الموجب لتحقق الحقائق اليقينية الشرعية من تجسّم الأعمال وترتّب الجزاء عليها وظهور حقائق الناس وما كانوا يُسِرُّونه في قلوبهم حيث أنها ستظهر بعد الموت كما ستتجلّى بشكل كامل يوم القيامة لأنه يوم ظهور الحقائق كما قال تعالى : “يوم تُبلى السرائر” و ٣ – حتى يتحقق معلومهم في عالم الواقع و.. كما يعرف ويعلم كل إنسان في ذلك العالم حقيقة نفسه والآخرين كما يعلم حقيقة الأعمال وأن أكل مال اليتيم ظلماً مثلاً أكلٌ للنار ولكن البعض كانوا غافلين عن ذلك لغفلتهم عن الحقائق بالغور في حب دار الغرور وارتكاب المعاصي وعوذا بالله الكريم ما أدى إلى انحصار علمهم بالظواهر المادية والغفلة عن بواطن تلك الظواهر وحقائقها “يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون” …
هذا ولليقين مراتب غير متناهية لأن اليقين والعلم له مُتَعَلَّقٌ فإذا كان متعلَّقه الله تعالى كان العلم و اليقين به غير متناهٍ لأنه جل جلاله موجود غير متناهٍ وغير المتناهي لا يمكن معرفته للموجود المتناهي بمعنى أنه لا يمكنه الوصول إلى منتهى المعرفة به بل يمكنه أن يصل إلى درجة اليقين بوجوده تعالى وإذا حصل اليقين بذلك أمكنه الوصول إلى درجة اليقين ببعض أسمائه و صفاته جل وعلا وإذا تحقق ذلك اليقين أمكنه التدرج في ذلك اليقين لبلوغ المعرفة الأعلى بالأسماء والصفات وهكذا كلما ارتقى درجة وحصل له اليقين كانت تلك الدرجة من اليقين مدرجة للارتقاء إلى الدرجة الأعلى فلا ينتهي سير السالك إلى الله تعالى بعلمه ومعرفته وعمله عند حد لأنه تعالى لا حد له؛ فالنبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام قد بلغوا درجة اليقين ولكن اليقين لا حد له فعبدوا الله تعالى حتى اتاهم اليقين بمرتبة أعلى وكلما ارتقوا جعلوا ما وصلوا إليه من اليقين مدرجة ومعراجاً للعروج إلى اليقين الأعلى، ولهذا قال النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وهو أول العابدين وأعرف العارفين وأقرب المقربين إلى رب العالمين : “سبحانك ما عرفناك حق معرفتك” وقال صلوات الله عليه وآله : “لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك” …
موفقين لكل خير محروسين من كل سوء وشر ولا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة
أيوب الجعفري
يوم الإثنين٢٣ ذو القعدة الحرام ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٦ / ٨ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary