الحياة البرزخية؛ عذابها ونعيمها
ارسل لي بعض الإخوة ملفاً مرئيات يتحدث فيه الدكتور الكيالي وينكر عذاب القبر ويقوم بتأويل الآيات الدالة عليه ويورد إشكالات سطحية على الإعتقاد بالعذاب البرزخي – وسنشير إليها ضمن الجواب – فطلب مني إبداء الرأي في هذا الموضوع فكتبت له جواباً مختصرا إليكم نصه :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته و تقبل الله أعمالكم و بلغكم آمالكم ..
بسم الله الرحمن الرحيم
كلامه خالٍ من الدقة وعارٍ عن الصحة فالقرآن ينص على وجود عذاب البرزخ، وليس المقصود عذاب هذا الجسم الطبيعي العنصري الذي سيصبح تراباً في غالب الأحيان لأغلب الناس حتى يقال بأنه يتمنى أن يكون ترابا كي لا يعذب ولهذا ليس هناك عذاب في القبر .. فالمتحدث يستند إلى الآية التي تحكي تمنّي الكفار المستحقين للنار وعذاب يوم القيامة أن يصبحوا تراباً في قوله تعالى : “يا ليتني كنت تراباً” ، يستند إلى هذه الآية لنفي العذاب في عالم البرزخ، فنقول له : إن هؤلاء الكفار يقصدون الفناء فيقولون ياليتنا كنا تراباً ونتمنى أن يُفنينا الله تعالى عن الوجود أو يبدّل وجودنا إلى جماد كالتراب لا شعور له ولا إحساس كي لا ندرك ولا نحس بالعذاب فنقول له : لو أصبح جسمه تراباً ولكن بقيت الروح فهل يبقى إدراك الروح وإحساسها أم لا؟ من المعلوم أن الإدراك والإحساس أمرٌ متعلق بالوجود المجرد وبالجانب التجردي من الإنسان وسائر الموجودات كما ثبت في محله وأما الجسم والقوى الجسمانية المدركة فهي وسائل لإدراك الروح وليست مدركة بذاتها، ولهذا لو انقطع الروح عن تدبيرها بالنوم أو الإغماء أو الموت لم تشعر بشيء ولم تحس ولم تدرك شيئاً، ولأجل ذلك نقول أن تبدّل الجسم إلى تراب لا يعني زوال الإدراك والشعور لأن المُدْرِك باقٍ والزائلُ أو المتحوِّل إلى تراب غير المُدْرِك يعني أن الذي يفنى أو يتحول إلى تراب هو الجسم المادي العنصري و هو غير مدرك لشيء بنفسه والذي يبقى هو الروح وهي التي تدرك وتشعر بالعذاب أو النعيم وهي التي تتعذب أو تتلذذ، فبزوال أو تحول الجسم غير المُدرِك لا تفقد الروح المدركة إدراكها ..
إذا تبيّن ذلك نقول : من الذي قال أن العذاب في القبر وتحت التراب؟ ومن الذي قال أن الجسم الطبيعي المادي هو الذي يتعذب في عالم البرزخ؟ إن ظرف العذاب أو النعيم هو عالم البرزخ وهو عالم مختلف عن عالم الطبيعة والمادة، ويتعلق هذا العذاب أو النعيم بالروح وفي ظلها الجسم البرزخي وهو كالجسم الذي نراه في الرؤيا حيث أننا نرى أنفسنا في الرؤيا بأجسام تشبه أجسامنا الدنيوية فنفعل بها ما نريد مع أن أجسامنا الطبيعية المادية طريحة الأرض، وبذلك يتبين وجود جسم آخر للإنسان يتنعم أو يُعَذَّب به في عالم الرؤيا وكذا في عالم البرزخ الذي يشبهه حيث أن النوم أخو الموت كما في الخبر .. وخلاصة الكلام أن العذاب البرزخي يتعلق بالجسم المناسب لعالم البرزخ وهو الجسم المسمى بالمثالي أو البرزخي والذي يقال عنه أنه مجرد عن المادة دون المقدار وليس بالجسم العنصري حتى ينتفي العذاب بانتفائه وزواله أو تبدله إلى تراب، نعم لو كانت حقيقة الإنسان بجسمه لا بروحه لأمكن القول بأن زوال الجسم يستلزم زوال عذابه إلا أن من المعلوم جلياً لكل إنسان – و لا يختص ذلك بالمتشرعة منهم – أن حقيقته بروحه لا بجسمه وأن إنسانية الإنسان بنفسه الناطقة الدرّاكة لا بجسمه الذي لا يدرك شيئاً لولا الروح ولهذا لا يكون زوال الجسم سبباً ولا مُلازماً لزوال الإدراك والإحساس ليكون ذلك علامة على انتفاء العذاب او النعيم …
و أما قوله تعالى : “النار يعرضون عليها غدوا وعشياً” الذي يستند إليه المتحدث لنفي العذاب لأجل التعبير بالعرض على النار لا دخولها ولا نضج الجلود فنقول : أن الآية تعني أنهم سيعذبون بها صباحاً ومساءً، وقد يكون عذاباً خفيفاً ولهذا قال يُعْرَضون عليها ولم يقل تنضج الجلود أو : “كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب” كما قال ذلك عن عذاب القيامة .. ومن المعلوم جلياً أن عذاب الآخرة لا يختص بالصباح والعشي فيلزم أن يكون هناك عذاب آخر غير عذاب الآخرة وقبل قيام الساعة وليس ذلك إلا عذاب البرزخ ..
أضف إلى ذلك قوله تعالى : “أُغرقوا فأُدخلوا ناراً” يعني أنهم بمجرد الغَرَق أُدخلوا النار لأن الفاء في قوله تعالى : “فأدخلوا ” للتفريع والنتيجة يعني أنهم دخلوا النار متفرعاً على الغرق و نتيجة له أي بعد الغرق مباشرةً وواضحٌ أن القيامة لم تقم بعدُ حتى يدخل المُغْرَقون النارَ مباشرةً بعد غَرَقِهم، والآية تتعلق بقوم نوح عليه السلام وقد مضت على غرقهم آلاف السنين والدنيا بعدُ قائمة، ومدلول الآية أنهم أُدخلوا النار بمجرد غرقهم ومباشرةً فيلزم أن يكون هناك عالم آخر بعد الدنيا و قبل الآخرة هو عالم البرزخ يُعَذَّبُ فيه من يُعَذَّب و يتنعّم من يتنعّم ..
والجدير بالذكر أنه – وكما أشرنا إليه – لا ينحصر عالم البرزخ بالعذاب بل المؤمنون أيضاً سيكونون أحياء في ذلك العالم وسيُنَعَّمون في جنة برزخية، وهناك آيات متعددة دالة على ذلك كآية الشهداء التي أخبر الله تعالى عنهم في تلك الآية أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وكذا الآيات التي تتحدث حبيب النجار وهو المؤمن المشار إليه في سورة يس حيث يخبرنا القرآن الكريم بأنه دخل الجنة البرزخية حيث قال تعالى : “قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين” حيث تدل الآية على أن هناك من أكرمهم الله تعالى في البرزخ بإدخالهم في جنة برزخية (جعلني من المكرمين) فليس هو الوحيد الذي أكرمه الله تعالى في ذلك العالم، كما أن الآية تدل على أن تلك الجنة التي أدخل فيها حبيب النجار – مؤمن سورة يس – ليست جنة القيامة بل هي الجنة البرزخية وتوضيح ذلك موكول إلى محله في إثبات الحياة البرزخية بالتفصيل والظاهر أن ما ذكرناه هنا كافٍ لإثباتها لمن أنصف وألقى السمع وهو شهيد ..
فنقول للمتحدث : من غير الصحيح إسناد النزعة الإلحادية لدى البعض إلى القول بوجود العذاب البرزخي حيث أن البرزخ لا ينحصر بالعذاب حتى يقال أن بعض الشباب أصبحوا ملحدين لأجل ذلك فهناك عذاب برزخي كما أن هناك نعيماً وجنةً برزخية، فليكن الإنسان مؤمناً ليدخل الجنة لا أن يلحد ليستحق النار، فأيّ منطق هذا أن نقول أن الملحد ألْحَدَ لأجل وجود العذاب في عالم البرزخ في حين أن وجود العذاب يستلزم الإيمان للنجاة لا الإلحاد الموجب للعذاب .. ولو افترضنا أنهم أصبحوا ملحدين لأجل العذاب فهل سينجيهم إلحادهم من ذلك العذاب؟ بمعنى أنه لو كان وجود العذاب البرزخي هو السبب في إلحادهم لزم أن يكون إلحادهم سبباً لنجاتهم من ذلك العذاب ولكن من الواضح أن الإلحاد لا يوجب النجاة بل يؤدي إلى تشديد العذاب فيلزمهم الإلتجا ء إلى ما ينقذهم منه لا ما يوقعهم فيه ..
والحقيقة أنه ليس سبب إلحادِ هؤلاء وجود العذاب في البرزخ فإن وجوده سبب لتقوية الإيمان والعمل الصالح والسعي للنجاة منه لا عمل ما يوجب استحقاق ذلك العذاب وتشديده عليهم، بل أسباب الإلحاد والنزعة المادية في الإنسان متعددة منها الجهل بمعارف الدين ومنها ابتغاء التحرر من القيود التي تُفرض عليه من قبل الشرائع الإلهية فيريد أن يفعل ما يشاء وما تميل إليه نفسه الأمارة وأن يلبّي طلباته ورغباته النفسانية، فيرى الشرعَ مانعاً أمامه فيميل إلى الإلحاد والمادية وإنكار ما وراء الطبيعة ..
وأما قوله أن وجود العذاب في عالم البرزخ يستدعي تأخّر إبليس عن غيره في العذاب فيكون عذابه أقل من غيره مع أنه يلزم أن يكون عذابه أكثر من غيره لأنه هو من أضل الناس وهو السبّب في استحقاقهم للعذاب فنقول أن إبليس وإن كان سيتأخر عن الآخرين ويموت في النهاية (أو في عصر الظهور أو قُبيله) ولكن لا يعني ذلك أن عذابه يكون أقل وأخف من غيره ولا يمكن حساب شدة العذاب بفترته بل سيكون عذابه أشد من غيره لأن جهنم سبع طبقات والطبقة السادسة مع أنها نار شديدة الإلتهاب والحرارة إلا أنها باردة بالقياس إلى الطبقة السابعة لشدة حرارتها وكذا الخامسة مقارنة بالطبقة السادسة، والرابعة بالقياس إلى الخامسة وهكذا … فليس قِصَر فترة العذاب دليلا على قلة العذاب وخفته، مضافاً إلى أنه سيخلد في النار ولكن كثيراً ممن يدخل النار من الإنس والجن سيخرجون منها في يوم من الأيام وإن طالت مدة بقائهم فيها فتأخُّر دخول إبليس في النار لا يعني أن مدة عذابه أقل من غيره كما لا يعني أن عذابه أخف من عذاب غيره، مع أن التأخّر يكون في العذاب البرزخي وليس في العذاب الأخروي الذي هو الأصل في العذاب كما أن نعيم الآخرة هو النعيم المقيم والأصيل …
موفقين لكل خير ..
أيوب الجعفري
https://telegram.me/ayoobaljafary