بسم الله الرحمن الرحيم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثورة الحسين عليه السلام – الجزء الثالث عشر – :

قلنا – فيما كتبناه قبل عدة سنوات ولم نوفَّق لاتمامه آنذاك – أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ومراحل متعددة والمرتبة الأولى هي الإنكار القلبي للمنكر، وأما المرتبة الثانية فهي :

٢ – الدعوة العملية : لا ريب في أن من جملة أهم مراتب ومراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وهو من أساليبه المهمة أيضاً – هو الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والصلاح و النهي عن المنكر والدعوة إلى الإبتعاد عن الشر والمنكرات بالتطبيق العملي لهذه الفريضة العظيمة من قِبَل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نفسه وذلك بأن يعمل بالمعروف والصالحات ويتصف بالخير ويتخلق بالفضائل ويجتنب المنكر والمعاصي ويتنزه عن رذائل الأخلاق ويبتعد عن الباطل و.. بل سيأتي أن من جملة شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – في البعد المعرفي وفي الفقه الأكبر على أقل تقدير إن لم نقل باشتراطه في الفقه الأصغر أيضا – هو أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قد أصلح نفسه وأن يكون بنفسه وفي عمله وأخلاقة سالكا سبيل الشريعة المقدسة ليصدق عليه أنه يريد الإصلاح حقيقةً وفي واقع الأمر وإلا فمن غير المعقول أن يكون الإنسان مريدا للإصلاح من دون أن يكون قد أصلح نفسه أو – وعلى أقل التقادير – يسعى في إصلاحها فإن إصلاح النفس هي الخطوة الأولى في إصلاح الغير ومن ثم المجتمع، أضف إلى ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مخالفة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لما يأمر به وينهى عنه يبعث على السخرية من قبل المأمورين بالمعروف والمنهيين عن المنكر، فلا ينحصر أثر هذه الازدواجية بين القول والعمل في عدم تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح الأفراد والمجتمع بل قد يؤدي إلى السخرية والابتعاد الأكثر عن الدين وعن المعروف الذي نأمر به ويوجب ازدياد التجرّي على ارتكاب المنكرات والمحرمات وترسيخ الرذائل والعقائد الباطلة و.. التي ننهى عنها – لا سيما اذا شاهد الناس أو علموا بمخالفة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لما يأمر به وينهى عنه – بمعنى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة يكون نقضا لغرض نفس هذه الفريضة وهدفِها فبدلاً من أن يكون سببا للإصلاح الفردي والاجتماعي يؤدي إلى الفساد الفردي والاجتماعي لأن الأمر بالمعروف مع عدم التزام الآمر به عمليا، والنهي عن المنكر مع عدم اجتنابه له يدل على أن الآمر والناهي غير مؤمن بكون ما يأمر به معروفا وما ينهى عنه منكرا أو أنه – على أقل تقدير – وإن كان مؤمنا بذلك، عاجزٌ عن إصلاح نفسه فكيف يريد إصلاح غيره؟! فكما أن الهداية لا تتحق على يد غير المهتدي كما قال تعالى : “أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتّبع أمّن لا يهِدّي إلا أن يُهدى” كذلك الإصلاح لا يتحقق في الأعم الأغلب إلا إذا كان المصلح صالحا في نفسه وقد أقدم على إصلاح نفسه فيما يريد تحقيقه في المجتمع .. ولهذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : “كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع” – مشكاة الأنوار في غرر الأخبار للعالم الجليل أبي الفضل علي الطبرسي رض ص ٩٦ الحديث ٢١٥ وبحار الأنوار للعلامة المجلسي رض ج٦٧ ص ٣٠٩ و.. وفي روضة المتقين للعلامة المجلسي الأول رض ج ١٢ ص ٧٦ : “كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورعَ والاجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية” وهذا الحديث مضافا إلى كونه دعوة إلى إصلاح النفس بتقوى الله والالتزام العملي بالدين، إرشادٌ إلى الدعوة إلى الدين بالعمل والإلتزام العملي به ليكون للدعوة تأثيرُها المرجوّ منها فالأنبياء والأولياء والأوصياء الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين أيضا لا يكتفون بمجرد الأمر والنهي اللساني الذي سيأتي أنه من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يلتزمون بالدين في جميع مراتبه عمليا وفي سلوكهم الفردي والاجتماعي فقد أصلحوا أنفسهم وبلغوا عليا درجات الكمال ثم أمروا غيرَهم بالمعروف ودَعَوهم للسير نحو الكمال والارتقاء في مدارج القرب ونهوهم عن المنكر والتنزُّه عن الرذائل وسفاسف الأمور و.. وقد ورد في القرآن والروايات ما يدل على ذلك – وسنشير إلى بعض الآيات والروايات في مبحث شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن شاء الله تعالى – ونكتفي هنا بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة – تحقيق صبحي الصالح ص٢٥٠ نهاية الخطبة ١٧٥ – حيث قال صلوات الله عليه : “أيها الناس إني والله ما أحُثُّكُم على طاعة إلا وأسبقكم إليه ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها” وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : “ما أمرتكم بطاعة إلا وقد ائتمرتُ بها ولا نهيتكم عن معصية إلا وقد انتهيت عنها – تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة للسيد شرف الدين الأسترآبادي ج١ ص ١١٩ الحديث ٣٤ ، وقد أثبت أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم السلام ذلك في عملهم فقد جاهد أمير المؤمنين عليه السلام أعداء الله بكل ما أوتي من قوة وخرج الإمام الحسين صلوات الله عليه في نهضته العظيمة مجاهدا ومحاربا الظلمَ والفساد مضحيا بنفسه ونفيسه ومُعَرِّضا لأهله وعياله للسبي تطبيقا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلبا للإصلاح في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم .

هذا وسنشير في مبحث شروط الأمر والآمر بالمعروف والنهي والناهي عن المنكر أن أهلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتحقق إلا لمن يكون عاملا بالمعروف منتهيا عن المنكر، بالإضافة إلى أمور أخرى سنتطرق لها حيث أن هناك ما يلزم توفره في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ليجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك ما لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع اتصاف الآمر والناهي به كما أن هناك ما لا يشترط تحققه لا في الوجوب ولا في الجواز – على بعض الوجوه والآراء الفقهية – إلا أن تأثير هذه الفريضة يتوقف على تحققه ومن هذه الأمور ظهورُ علامات الإيمان في سلوك الانسان الذي يريد أن يكون مصلحا وذلك بتخلقه بأخلاق الله تعالى والتزامه بشريعة رب العالمين جل وعلا فإن ذلك يؤدي الى نفوذ حبه في القلوب فإن الله تعالى قد جعل للإيمان والعمل الصالح تأثيرا في القلوب كما قال تعالى : “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا” – مريم : ٩٦ – فاجتماع الإيمان والعمل الصالح يوجب ودَّ المؤمن العامل بالصالحات ودخولَ حبه في القلوب، والرحمن برحمته الواسعة هو من جعل هذه السببية للإيمان والعمل الصالح وهو تعالى مُسَبِّبُ الأسباب ومن الواضح جليا أنه لا يتخلف المسبَّبُ عن سببه ما لم تُسْلَبْ السببية من السبب من قِبَل مُسَبِّبِ الأسباب جل وعلا ..

ومن جانب آخر : من المعلوم أنه إذا دخل حب أحد في القلب أوجب ذلك الحب أن يتشبه المحب بمحبوبه أو – وعلى أقل تقدير – أن يحاول في التشبه به لأن الحب – و كما أشرنا في بعض المقالات والمحاضرات – موجب لانجذاب المحب نحو محبوبه بل هو عين الانجذاب إليه فإذا كان السبب في انجذاب المحب إلى محبوبه هو إيمان محبوبه والتزامه العملي بالدين أدى إلى دخول الايمان في قلب المحب ورسوخه فيه والتزامه العملي بلوازم إيمانه لأن ملاك الحب وسببه – حسب ما افترضناه وفقا للآية الكريمة ولما هو مُشاهَد لنا في واقعنا – هو الإيمان والعمل الصالح وقد أشرنا أن الله تعالى – وكما ورد في القرآن الكريم – قد أودع في قلوب المؤمنين حب الإيمان كما كرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان؛ فإذا كان سبب الحب هو الإيمان والعمل الصالح كان معناه أن المحبوب الحقيقي هو نفس الإيمان بالله والعمل الصالح فسيكون التشبه بالمؤمن العامل بالصالحات في نفس ملاك الحب أي أن المحب سيقوم بتحقيق وترسيخ الإيمان في قلبه وتطبيق لوازمه في عمله وهذا من أعظم وأهم آثار الحب – و لهذا وغيره من أسباب ورد التأكيد الأكيد على حب الله وأوليائه و المؤمنين و أن الدين ليس إلا الحب و .. – وبذلك تتحقق الدعوة الى الحقِ والإيمانِ والعملِ الصالحِ بغير ألسنتنا ..

وخلاصة القول في هذه المرحلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي ضرورة العمل والإلتزام العملي بالشريعة المقدسة ومن الواضح أنه كلما ارتقت درجة الالتزام العملي بها كان تأثير هذه الفريضة في إصلاح الأفراد والمجتمع أكثر وأعمق فتعالوا أيها الأحبّة – وقبل أن ندعو الآخرين الى الخير والصلاح والفلاح وإلى الابتعاد عن الشر والفساد وموجبات الخسران في الدنيا والآخرة بألسنتنا – تعالوا نصلح أنفسنا وأعمالنا وأخلاقنا ليكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منا ممن قد تجسدت الشريعة المقدسة في عمله وسلوكه وأخلاقه وبذلك يكون قد أصلح نفسه ودعا المجتمعَ إلى الصلاح بغير لسانه وفاز بالعمل بأعظم الفرائض الى جانب تهذيب نفسه وترقيتها في مدارج الكمال ..

وفقنا الله وإياكم لعليا درجات الايمان بالعلم والمعرفة والعمل الصالح والتخلق بالفضائل المأمور بها في شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وآله أجمعين .. يتبع ..

أيوب الجعفري

يوم الجمعة ١٥ صفر ١٤٤٥ ق
الموافق ١ / ٩ / ٢٠٢٣ م