إشكال على استحالة اجتماع النقيضين مع جوابه
أحد المؤمنين أدام الله عزهم :
أشكل أحدهم على قاعدة إستحالة إجتماع النقيضين بالكلام الآتي : “إجتماع النقيضين ممكن وليس مستحيل والدليل الظاهرة المعروفة بالطبيعة خروج النار من وسط الماء في البحر .. والإنسان نفسه دليل باجتماع الخير والشر فيه وهما نقيضان .. وفي جسد الإنسان داخله ساخن و خارجه بارد في الشتاء وغيره من الأمثلة .. فليس كل نقيضان يجتمعان ولكن مجرد إجتماع بعضهم دليل على بطلان القاعدة وعدم استحالة إجتماع النقيضين” .
فكيف يُردّ عليه؟ حفظكم الله ووفقكم .
________________________________________
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو أنه لم يتضح للمستشكل معنى اجتماع النقيضين وارتفاعهما وإلا لما استشكل بهذه الطريقة، فيلزم في بداية الأمر معرفة معنى النقيضين ثم النظر في أنه هل يمكن اجتماعهما أو ارتفاعهما أم لا ؟..
معنى النقيضين : قسم المنطقيون الألفاظ إلى الألفاظ المترادفة والمتباينة فالمترادفة هي الألفاظ المختلفة والمتعددة التي تدل على معنى واحد كالإنسان والبشر وكالأسد والليث فالترادف هو إشتراك لفظين أو أكثر في معنى واحد – وطبعا الترادف غير الإشتراك اللفظي والمعنوي فإن المشترك اللفظي هو اللفظ الواحد الدال على معنيين أو أكثر فليس هناك اشتراك إلا في اللفظ كلفظ “العين” الذي يعني العين الباصرة والعين النابعة وبمعنى الذات وعشرات المعاني الأخرى، وأما المشترك المعنوي فهو اللفظ الواحد الذي يدل على معنى ومفهوم واحد ولكنه كلي جامع لأفراد و مصاديق متعددة كلفظ الإنسان حيث أن معناه كلي جامع للكثيرين فيصدق الإنسان على زيد وعمرو وبكر وخالد و… -، فالمترادف لا يكون اللفظ فيه واحدا بل اللفظ متعدد إلا أن جميع الألفاظ بمعنى واحد كما مثلنا، وأما الألفاظ المتباينة فهي الألفاظ المختلفة الموضوع كلٌ منها لمعنى خاص يختص بذلك اللفظ كلفظ الكتاب والقلم والحجر والمدر و.. فإن كل واحد من هذه الألفاظ قد وُضع لمعنى مستقل غير ما وُضع له اللفظ الآخر، فتتكثر المعاني بتكثّر الألفاظ ..
ثم يقسّمون المتباين إلى ثلاثة أقسام هي : المثلان والمتخالفان والمتقابلان ..
فالمثلان هما المشتركان في حقيقة واحدة مع ملاحظة جهة الإشتراك كزيد وعمرو فهما مشتركان في حقيقة واحدة هي الإنسانية فإذا لوحظ هذا المعنى الجامع بينهما سُمِّيا بالمثلين – وقد يُسَمَّيان بالمتجانسين أو المتساويين أو المتشابهين باعتبار تلك الحقيقة التي يشتركان فيها وتوضيحه مذكور في علم المنطق –
والمتخالفان هما المتغايران بلحاظ نفس التغاير بينهما فزيد وعمر من جهة كونهما مشتركين في حقيقة الإنسانية مثلان ولكن بلحاظ تغايرهما متخالفان لأن زيداً غير عمرو ولا تُلْحَظ جهة الإشتراك في المتخالفين – ويجري ذلك في الصفات أيضاً ولكن في الصفات يكونان قابلين للإجتماع في محل واحد كالحلاوة والسواد حيث يجتمعان في محل واحد كالتمر مع أنهما من جهة تغايرهما متخالفان لأن السواد غير الحلاوة، أو البياض غير البرودة ومع ذلك يجتمعان في الثلج مثلاً و… –
والمتقابلان هما المتخالفان اللذان لا يمكن اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة وزمان واحد كالسواد والبياض، والحجر و اللاحجر ، والأبوة والبنوتة و… وسيأتي توضيح هذه الوحدات المعتبرة في التقابل في بيان أقسام التقابل فنقول :
ينقسم التقابل إلى أربعة أقسام هي :
١ – المتناقضان : وهما أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي أي أن أحدهما أمر وجودي والآخر عدم ذلك الامر الوجودي كالإنسان واللاإنسان، والسواد واللاسواد و.. – وهذا القسم يستحيل فيه الإجتماع والإرتفاع ولا يمكن تصور واسطة بينهما – وسيأتي بيان ذلك أكثر –
٢ – الضدان : وهما أمران وجوديان يتعاقبان على موضوع واحد ولا يمكن أن يجتمعا فيه ولا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالحرارة والبرودة وكالسواد والبياض و.. والضدان لا يكونان إلا صفتين ولهذا قلنا أنهما يتعاقبان على موضوع واحد فالذاتان – كزيد و عمرو – لا يسميان بالضدين بل هما داخلان تحت مفهوم المتخالفين الذي سبق ذكره ..
٣ – تقابل الملكة والعدم : وهما أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة ..
و المقصود من الملكة الصفة التي يتصف بها الشيء، وعدم الملكة يعني فقد تلك الصفة فيمن أو فيما من شأنه أن يكون واجداً لتلك الصفة والملكة، كالبصير والأعمى فالبصير هو الواجد لصفة البصر والأعمى هو الفاقد لهذه الصفة فيمن يكون من شأنه أن يكون واجداً لها أي من شأنه أن يكون بصيراً كالإنسان و لهذا لا يقال للحجر أنه أعمى فيمكن ارتفاعهما في الحجر مثلاً فالحجر ليس أعمى ولا بصيراً و لكن الإنسان إما أن يكون بصيراً أو أعمى ولا يمكن ارتفاع العمى والبصر معاً عن الإنسان ..
٤ – المتضايفان : وهما أمران وجوديان يتعقلان معاً ولا يجتمعان في محل واحد من جهة واحدة ويجوز أن يرتفعا، كالأب والإبن – العلة والمعلول – المتقدم والمتأخر – و… فإذا تعقلنا الأُبُوّةَ فلابد أن نتعقل البُنُوّةَ أيضاً وكذا العكس، وإذا تعقلنا العلة فلا بد أن نتعقل المعلول أيضاً وكذا العكس وهكذا في بقية الأمثلة؛ والمتضايفان لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة فلا يمكن أن يكون شخص واحد أباً لشخص آخر ومع ذلك يكون ابناً لنفس ذلك الشخص، نعم يمكن أن يكون أباً لشخص وإبناً لشخص آخر، وكذا في سائر الأمثلة .. وارتفاع المتضايفين ممكن في حدّ ذاتهما وإذا لم يمكن ارتفاعهما في مورد ما فلخصوصية المورد لا لأجل أن المتضايفين لا يرتفعان، فواجب الوجود تعالى ليس أباً ولا إبناً، كما لا يصدق عليه أنه فوق ولا تحت، و أما العلة والمعلول فلا يرتفعان ولكن لا لأجل أنهما متضايفان بل لأجل أن الموجود لا يخلو من أن يكون علة أو معلولاً أوعلة لشيء ومعلولاً لشيء آخر، وأما أن يوجد شيء لا يكون علة ولا معلولاً فغير ممكن ..
إذا تبين ذلك نقول : إن ما ذكره المستشكل ليس من النقيضين في شيء فإن النقيضين – وكما أشرنا – أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي أي عدم نفس ذلك الأمر الوجودي وأما النار والماء فهما داخلان في المتخالفين وليسا أمرين أحدهما وجودي والآخر عدم ذلك الوجود بل النار أمر وجودي والماء ايضاً أمر وجودي، ونقيض النار هو عدمها ونقيض الماء هو اللاماء و.. نعم الماء والنار أيضاً لا يجتمعان كما لا يجتمع الضدان من أقسام المتقابلين أيضاً وما ذكره من ظاهرة خروج النار من الماء فليس من الإجتماع في شيء ( بل هو ماء إلى جانب نار، ونار الى جانب ماء ) فإن الإجتماع في محل واحد هو أن يكون الماء ماءً وفي نفس الوقت يكون ناراً فيكون الماء ناراً والنار ماءً وهذا مستحيل لأنه يرجع إلى كون النار ناراً وفي نفس الوقت أن لا تكون ناراً وبعبارة مختصرة أن لا تكون النارُ ناراً، فيرجع إلى اجتماع النقيضين وهو مستحيل ( وجميع المستحيلات راجعة إلى استحالة اجتماع النقيضين، حتى ارتفاعهما، ولهذا لو أنكرنا استحالة اجتماع النقيضين لم يتمكن أحد من إثبات استحالة شيء في الوجود حتى شريك الباري وعوذاً بالله تعالى، و بيان ذلك يتطلب مجالاً آخر ) ..
ولأجل أن يتضح الأمر أكثر نقول انه يشترط في تحقق التناقض بين قضيتين، اتحادهما في ثمانية بل تسعة أمور هي :
١ – الموضوع فمثلاً النافع نقيض غير النافع فيلزم أن يكون موضوعهما واحداً ليتحقق التناقض بينهما فإذا قلنا العلم نافع والجهل ليس بنافع، لم يكن بينهما تناقض ليستحيل اجتماعهما لأن موضوع النافع هو العلم وموضوع غير النافع هو الجهل ..
٢ – المحمول فلو اختلف محمول القضية الأولى مع محمول الثانية لم يكن بينهما تناقض فإذا قلنا العلم نافع والعلم ليس بضار لم يتحقق التناقض ..
٣ – الزمان فلو تعدد زمان القضيتين لم يكن تناقض فالشمس مشرقة (اي في النهار ) و الشمس ليست بمشرقة ( أي في الليل )و لا تناقض بينهما ليستحيل اجتماعهما ..
٤ – المكان فلو تعدد المكان لم يكن بينهما تناقض فزيد موجود ( أي في البيت ) وليس بموجود ( أي في المدرسة ) ولا تناقض بينهما ليستحيل الإجتماع ..
٥ – القوة والفعل فلو اختلفت القضيتان فيهما فكانت إحداهما بالقوة والأخرى بالفعل لم يكن تناقض فزيد عالم ( أي بالقوة ) وليس بعالم ( أي بالفعل ) أو : ميتٌ ( أي بالقوة ) و ليس بميت ( أي بالفعل ) فلا تناقض بينهما ليستحيل اجتماعهما ..
٦ – الكل والجزء فلو كان احدهما كلاً و الآخر جزءاً لم يكن تناقض فإذا قلنا أن أرض العراق خصبة ( أي بعضها ) وأرض العراق ليست بخصبة ( أي ليس كلها خصبة ) لم يكن بينهما تناقض ليستحيل الإجتماع ..
٧ – الشرط فلو اختلف الشرط لم يكن تناقض فإذا قلنا زيد ناجح آخر السنة ( أي إذا اجتهد ) وليس بناجح ( أي إذا لم يجتهد ) لم يكن بينهما تناقض ليستحيل اجتماعهما ..
٨ – النسبة والإضافة فإذا اختلفا فيها لم يكن بينهما تناقض فلو قلنا أن الأربعة نصفٌ ( أي بالإضافة إلي الثمانية ) وليست بنصف ( أي بالإضافة إلى العشرة ) لم يكن بينهما تناقض ليستحيل اجتماعهما ..
و قد أضاف صدر المتألهين وحدة تاسعة هي وحدة الحمل فيجب أن يكون الحمل فيهما كلتيهما حملاً أولياً أو حملاً شائعاً صناعياً فإن كان الحمل في إحدى القضيتين أولياً وفي الأخرى شائعاً صناعياً لم يكن بينهما تناقض ليستحيل اجتماعهما فالجزئي جزئي( بالحمل الأولي ) و الجزئي ليس بجزئي( بالحمل الشائع الصناعي ) وليس بينهما تناقض ليستحيل اجتماعهما – راجعوا علم المنطق لمعرفة الحمل الأولي والحمل الشائع الصناعي – ..
فإذا تبين ذلك تبين التباس الأمر على المستشكل فالأمثلة المذكورة إما أنها ليست من المتناقضين أو أنها فاقدة لشرط استحالة اجتماع النقيضين أي أنها فاقدة لإحدى الوحدات التسع، وطبعاً جميع امثلته من القسم الأول أي أنها ليست من المتناقضين ولكن يمكن إرجاع بعضها إلى المتناقضين كالخير والشر فنفسرهما بالخير وعدمه أو الشر وعدمه فالمتصف بالخير في الإنسان غير المتصف بالشر فيه فعمله الصالح مثلاً خير و عملُه السيّء ومعصيتُه شرٌّ، لا أن الإنسان بما هو إنسان خير وفي نفس الوقت ليس بخير مع الحفاظ على جميع تلك الوحدات، أو أن صلاته بما هي صلاة خيرٌ وبنفس العنوان وفي نفس الوقت وبنسبة واحدة ومكان واحد وزمان واحد وشرط واحد و.. شرٌّ .. والمستشكل قد تصور أن كون الشر إلى جانب الخير ومجاورته له هو معنى الإجتماع، وهذا الإجتماع هو المعنى العرفي للإجتماع كما يقال اجتمع زيد وعمرو في دارنا وهذا يعني أنه انضم أحدهما إلى الآخر وجلسا متجاورين وأما الإجتماع في مصطلح المنطق هو أن يكون شيء ما حجراً وفي نفس الوقت مع الحفاظ على تلك الوحدات لا يكون نفس ذلك الشيء حجراً أو يكون حجراً وفاكهة في آن واحد مع تحقق الوحدات لا أن يكون الحجر إلى جانب الفاكهة .. فيلزم عدم الخلط بين المفاهيم العرفية والعقلية كما يلزم عدم الخلط بين مصطلحات العلوم المختلفة كي لا نقع ولا نوقع غيرنا في الإشتباه أو الشبهات كما خلط البعض بين القياس المنطقي والقياس الفقهي فاستشكل على المنطقيين لأجل استخدام القياس في الإستدلال مع أنه ممنوع شرعاً وفقاً لفقه الإمامية، ولكنه قد التبس عليه الامر فخلط بين المصطلحين فإن المقصود من القياس المنطقي هو البرهان القطعي الموجب لحصول اليقين بترتيب مقدمات مذكورة في المنطق، وأما القياس الفقهي فهو ما يسمى في المنطق بالتمثيل وهو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر لمشابهته له في وجه من الوجوه وهذا هو الممنوع شرعاً لدى الإمامية أي أنه لا يمكن الإستناد في إثبات حكم شرعي لموضوع جزئي خارجي لمجرد ثبوته لموضوع مشابه له ما لم يُعلم مناط وملاك ذلك الحكم بدليل قطعي أو بدليل يكون حجة شرعية كأن يكون حكم شيء ما منصوصَ العلة فيمكن في هذه الحالة تسرية الحكم من ذلك الشيء إلى مشابهه في مناط الحكم فمثلاً الخمر حرام فإذا علمنا من الشرع أن علة حرمتها هي الإسكار ورأينا شيئاً آخر – كالنبيذ – له نفس الخاصية أي أنه مسكر أثبتنا حكم الخمر وهو الحرمة للنبيذ أيضاً لأن علة الحرمة وهي الإسكار موجودة فيهما كليهما وأما إذا لم نعلم العلة لم نتمكن من إسراء الحكم من أحدهما إلى الآخر لمجرد وجود شبهٍ بينهما في جهة من الجهات التي لم يُعلَم أنها هي العلة الموجبة لذلك الحكم …
موفقين لكل خير و لا تنسونا من صالح دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
ليلة الخميس ٢٢ من شهر رمضان المبارك ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٧ / ٦ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary