الولاية التكوينية

سلام عليكم شيخنا العزيز

شيخنا عندي سؤال حول الولاية التكوينية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته عليهم السلام ، و هل هذا الاعتقاد هو نوع من انواع الشرك و انا شيخنا لا أشك في قدرة الله عز وجل حيث ان الله وصف نفسه انه على كل شيء قدير و الولاية كما يقال في اللغه له معانٍ و من جملة معانيه هو التصرف و هل هذا التصرف ينسجم مع الآيات الناصعة في كتاب الله عز وجل ؟
_______________________________________________

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الولاية التكوينية – بمعنى القدرة على التصرف في الكون .. –  بالذات منحصرة بالله تعالى فلا يوجد أحد يتمكن من التصرف في الكون من تلقاء نفسه بل حتى في الأمور الطبيعية التي نقوم بها في حياتنا كالأكل والشرب والمشي وحمل الأثقال و.. وكذا ما ينتج عن هذه الأفعال من الشبع والارتواء وقوة العضلات و… لا يمكن أن يتحقق شيء من هذه الأمور إلا بقدرة الله تعالى وتمكينه كما بيناه في بعض الأجوبة، و نفس الكلام جار في أفعال القوى الإدراكية للإنسان و غيره من الموجودات العاقلة والمُدرِكة والشاعرة ..

ولكن من المعلوم لكل مُعْتَقِدٍ بوجود الله تعالى وباتصافه بصفات كمالية، أنه تعالى قادر وقدرته ذاتية ومطلقة لا يمكن تحديدها بشيء وقد ثبت ذلك بالبراهين العقلية والأدلة النقلية الشرعية – نعم المستحيلات الذاتية أعدامٌ بحتة والقدرة لا تتعلق بالعدم المحض لأن العدم ليس شيئاً حتى يكون موصوفاً بوصف ككونه مقدوراً وتوضيحه موكول إلى محله – ومن جملة الأمور التي تتعلق بها القدرة الإلهية المطلقة تمكين الغير من التصرف في الكون، وهو أمر ممكن في حدّ ذاته وليس من المستحيلات الذاتية وإلا لما تحقق في الخارج بينما يُخبر القرآن الكريم بتحققه كما سنشير إليه لاحقاً، مضافاً إلى أن المستحيلات الذاتية معلومة لدينا وكلها مع تعددها وتنوعها راجعة إلى أمر واحد هو استحالة اجتماع النقيضين كما لا يخفى على المطلعين على الأبحاث المنطقية، وإعطاء الغيرِ القدرةَ على التصرف في الكون ليس من هذا القبيل كما هو واضح لمن له أدنى حظ من العقل ( نعم لا يمكن التصرف في الكون بدون إذن الله وتمكينه تعالى يعني أنه من المستحيلات الذاتية لأن غيره تعالى ليس له حظ من القدرة الذاتية كما ليس له حظ من الوجود بذاته، ومن لا قدرة له يستحيل أن يفعل ما يحتاج إلى القدرة لأن قيامه به يدل على أنه قادر وقد افترضنا أنه ليس بقادر فاجتمع النقيضان، ولكن لا يستحيل أن يعطيه الله تعالى تلك القدرة فيقوم بما يقوم به بتلك القدرة الممنوحة له من الله تعالى .. ) وإذا لم يكن مستحيلاً في حدّ ذاته فالقول بعدم إمكان تصرف الغير في الكون بإذن الله تعالى وتمكينه له على ذلك، تحديدٌ لقدرته جلت عظمته وقد افترضنا أنها مطلقة لا يمكن تحديدها بل قد ثبت في محله استحالة كون صفاته تعالى الذاتية محدودة وإلا لما كانت ذاتية ولكانت الذات المتعالية مركبة وهي تنافي وجوب وجوده .. – كما ثبت أن واجبَ الوجود بالذات واجبُ الوجود من جميع الجهات وإلا لزم أن لا يكون واجب الوجود وكذا يلزم توالي فاسدة أخرى لا يمكن الخوض فيها لدقتها ولكفاية ما أشرنا إليه في تأدية الغرض – فإذا كان ذلك ممكناً لم يكن قدرة الغير على التصرف في الكون بإذن الله تعالى وتمكينه جلا وعلا له شركاً لأن فعل الغير بهذا المعنى فعل الله تعالى لأنه صادر من قدرة الله لا من قدرة ذلك الغير الذاتية لأنه لا قدرة له في ذاته كما أشرنا ..

وأساساً – ومن جانب آخر – لو كان أمر ما يمكن إعطاءه للغير – إمكاناً عقلياً ومن حيث الحِكمةً – من قبل الله تعالى كان منعه منه بُخلٌ والله كريم على الإطلاق كما نقول أن خلق أشرف المخلوقات أمر ممكن فعدم خلقه بخلٌ في الفيض ولا بخل من جانبه تعالى فلا محالة يخلقه وقد فعل – لأنه خلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات أي أنه قابل لأن يصبح أشرفها كما أنه قابل لأن يصبح أخسها وقد أعطاه الله تعالى الإرادة والقدرة على انتخاب ما يشاء منهما كما لا يخفى، وفي القرآن آيات تدل على تينك القابليتين كآيات سورتي التين والعصر .. – فإذا كان كذلك فلا محالة يعطي الله تعالى عباده الكُمّل القدرة على التصرف في الكون ولكن هذه القدرة – كما اسلفنا – ليست ذاتية بل هي من الله ومنحة منه لأوليائه الكُمّل، كما أنها محدودة بحدود خاصة .

فالعقل يحكم بضرورة وجود أولياء قادرين على التصرف في الكون بقدرة ممنوحة لهم من الله تعالى وحُكْمُه هذا مشفوعٌ بالنقل والأدلة الشرعية حيث أن هناك آيات متعددة وروايات كثيرة تدل على تصرف الأنبياء وبعض الأولياء في الكون بإذن الله تعالى كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عما كان يدّخره الناس في بيوتهم و.. من قِبَل المسيح عليه السلام ولكن كل ذلك كان بإذنٍ من الله تعالى، كما أتى مَنْ عِنْدَه عِلْمٌ من الكتاب – وهو آصف بن برخيا كما في بعض الروايات – بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ طَرْفُ سليمان إليه يعني في أقل من لحظة واحدة ولكن ذلك أيضاً بقدرة من الله تعالى وليس من تلقاء نفسه، ومن المعلوم أن آصف كان لديه الشيء القليل من علم الكتاب ويستفاد ذلك من كلمة “من” في قوله تعالى : “وقال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك – وهي تدل على التبعيض فهو كان يعلم بعض علم الكتاب وقليلا منه، ولكن هناك في الأمة الإسلامية من يعلم علم الكتاب كله فقد قال جل جلاله في الآية الأخيرة من سورة الرعد مخاطباً خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم : “ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب” فإذا كان آصف بن برخيا يتمكن من إحضار عرش بلقيس بهذه الطريقة الإعجازية في أقل من لحظة لأجل أنه كان عنده علمٌ من الكتاب فما هي قدرة من عنده علم جميع الكتاب بنص آية الرعد؟ ونفس هذه القدرة العظيمة – التي هي عطية إلهية وليست ذاتية كما أشرنا مراراً – دليلٌ واضح وجليٌّ على أنه لا يمكن أن يكون المقصود ممن عنده علم الكتاب أحداً من غير المعصومين وإلا لزم أن يكون غير المعصوم أعلى وأعلم وبالنتيحة أقدر من آصف بن برخيا المعصوم، فلا محيص من أن يكون من عنده علم الكتاب عالماً معصوماً في علمه وعاملاً معصوما في عمله و.. ولم يَدَّعِ أحد في الأمة الإسلامية بعصمة أحد في هذه الأمة إلا الشيعة حيث يدّعون أن أمير المؤمنين عليه السلام وسأئر أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين معصومون علماً وعملاً ومعرفةً وأخلاقاً فيتعين أن يكونوا هم المقصودين بالآية وإلا لأصبحت الآية بلا مصداق خارجي وأن لا يكون في الأمة الإسلامية من عنده علم الكتاب ومع ذلك قد جعله القرآن شاهداً على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لغوٌ بعيدٌ عن منطق إنسان عادي فكيف بالقرآن الكريم الذي هو من عند الحكيم المطلق الذي جعل كتابه النازل على خاتم أنبيائه في قمة البلاغة والفصاحة ..

وهذا الأمر كافٍ في نفي إرادة غير الأئمة عليهم السلام فما ادُّعي من أن المقصود ممن عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام أو غيره من عامة الصحابة مرفوضٌ تماماً بدليل العقل والنقل، مضافاً إلى أنه قد سئل سعيد بن جبير عن كون عبد الله بن سلام هو المقصود ممن له علم من الكتاب فقال هذه الآية مكية فكيف يكون عبد الله بن سلام ..

فتبين أن من عنده علمٌ من الكتاب قادر – بتمكين الله وإذنه له – على أن يأتي بعرش بلقيس بالطريقة المذكورة، فمن يعلم علم تمام الكتاب يكون أقدر على ذلك وعلى سائر التصرفات في الكون وإلا لما كان عالماً بتمام الكتاب فإن قدرة آصف على ذلك كانت لأجل علمه بشيء من الكتاب لأنه تعالى وصفه بذلك حينما قال بأنه سيأتي بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه فقال : “وقال الذي عنده علم من الكتاب” فدل ذلك على أن علمه ببعض الكتاب هو العلة والسبب في قدرته على ما فعل لأن تعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بالعلية كما هو مقرَّرٌ في محله، فالعالم بتمام علم الكتاب أقدر ويكون نطاقُ قدرتِه أوسع، وهل هذا شيء غير الولاية التكوينية ..

فمشكلة هؤلاء هي أنهم يخلطون بين الولاية التكوينية الذاتية المنحصرة بالله تعالى وبين الولاية التكوينية الإذنية وهي منحصرة في غير الله تعالى لأن الله جل جلاله هو القادر بذاته فلا يُعقل ولا يمكن أن تكون ولايته إذنية، والنتيجة أن الثابت من الولاية لله لا يمكن أن يكون لغيره وما هو الثابت للغير لا يمكن ثبوته لله تعالى بل هو من الصفات السلبية له تعالى لأن الولاية الإذنية نقص لواجب الوجود القادر المطلق بالذات وإن كانت كمالاً لغيره جل وعلا حيث أن الغير لا حَظَّ له بذاته من الوجود وكمالاته – أي كمالات الوجود – فإذا منحه الله تعالى شيئاً من القدرة والولاية فإنما هو لتكامله وتقربه إليه جل جلاله مع كونه علامة للنقص الذاتي، فتأمل جيداً فإنه حقيق به ..

موفقين لكل خير

أيوب الجعفري

يوم السبت ٤ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٢١ / ٤ / ٢٠١٨ م

https://telegram.me/ayoobaljafary