عدل يعقوب عليه السلام في حب يوسف عليه السلام و سائر بنيه – :
سلام عليكم شيخ .. راودني سؤال وقلت في نفسي ان اسألك لعلك تقنعني .. اخوان النبي يوسف قاموا بإلقاءه في البئر بدافع الغيرة لانهم كانو يعلمون ان يوسف اقرب الى قلب ابوهم منهم ولكن لماذا قام النبي يعقوب بإحساسهم ان يوسف اقرب الى قلبه ولم يعدل بين ابنائه؟ ﴿إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منّا﴾*
_______________________________________________
الجواب :
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن النبي يعقوب عليه السلام يفعل ما يحسسهم و يثير حسدهم بل قد أخذ حِذْرَه فأمر ابنه يوسف عليه السلام بأن لا يقصص رؤياه لإخوته لئلا يحسدوه ولا يكيدوا به كيداً، ولكن مع ذلك لما كان النبي يعقوب عليه السلام يعلم أن يوسف عليه السلام سيكون نبياً فلا محالة – وبحكم الفطرة والطبيعة البشرية التي تميل إلى حب الكمال ومن يتصف به – سيعتني به ليحافظ عليه من الشرور والمكائد فلما رأوا أن أباهم يعتني به أكثر من غيره حسدوه وفعلوا ما فعلوا ..
هذا، والدنيا دار امتحان وابتلاء فيلزم تحقق وظهور مادة الإمتحان، وقد كان حب يعقوب ليوسف عليهما السلام وبروز هذا الحب الفطري الناتج عن كمال المحبوب مادةً لامتحان الإخوة ..
مضافاً إلى أن وراء ذلك الحدث والقصة حِكَماً كثيرة منها امتحان الإخوة كما أشرنا، ومنها امتحان يعقوب عليه السلام وترفيع درجاته بذلك وإيصاله إلى درجة الإنقطاع إلى الله تعالى والتسليم له والاستعداد للتضحية بجميع ما لديه وبأحب ما عنده له جل وعلا، ومنها امتحان يوسف نفسه بالمصائب التي سيواجهها في طريقه الشائك والتي كانت مقدمة لوصوله إلى درجات القرب العليا و..، و منها تعلق إرادة الله تعالى بهداية الناس في مصر عن طريق يوسف عليه السلام، ومنها إثبات وإظهار أن زمام جميع الأمور بيد الله تعالى وهو المؤثر في الكون لا سواه وأنه هو مسبب الأسباب وهو القادر على أن يجعل جميع الأسباب ومنها ما يؤثر في السقوط، اسباباً للُّرقي .. فإخوة يوسف بحسدهم وكيدهم به، أرادوا إسقاطه ولكن الله تعالى جعل الحسد والكيد سببا لرُقِيِّه إلى مقام العزة فأصبح بذلك عزيز مصر مضافاً إلى تحصيل مقام القرب إلى الله تعالى بهذا الإبتلاء، ولولا حسدهم وكيدهم لما بلغ هذا المقام، وقد باعوه بدراهم معدودة وهو سبب لأن يصبح عبداً وضيعاً ولكنه أصبح بذلك مالكاً وعزيزاً رفيع المقام والمنزلة، وكذلك بِيْعَ عليه السلام لعزيز مصر ليكون عبداً خادماً ولكنه أصبح بذلك عزيزاً ومحطاً لأنظار كبراء القوم .. وأوقعوه موقعَ ارتكاب الفاحشة فامتتع فاتهموه بإرادة الفاحشة .. فنتج عن ذلك تعليم الله تعالى له تعبير الرؤيا – حيث يقال أن مقاومة هوى النفس وطيش الشهوة في أشد حالاتها يوجب إفاضة علم تعبير الرؤيا على قلب الإنسان -، وسجنوه ليعاقبوه على ما لم يرتكبه ليستسلم لأمر امرأة العزيز ولكنه لم يستسلم لها ولأهواء النفس الأمارة بالسوء فاختار السجن على معصية الرب الكريم فأصبح دخوله السجن سببا لهداية كثير من السجناء كما أصبح سببا لتعبيره رؤيا صاحبيه وهو بدوره أصبح سبباً لتعبير رؤيا الملك وقد أدى ذلك إلى أن يكون مقرباً من الملك ويصبح عزيز مصر ويهدي الناس وشعب مصر وغيرهم إلى التوحيد وعبادة رب العالمين بعد ما كانوا يعبدون الاوثان و… ودخل حبه في قلوب الناس و… فكل ذلك يدل على أن زمام أمور الكون بيد الله تعالى وأنه هو الرب و المدبر لجميع الشؤون وأنه القادر على تبديل أسباب السقوط والذل والهوان إلى أسبابٍ وعواملَ للرقي والعزة ونيل المناصب والمقامات الدنيوية والأخروية، كما أن ذلك أصبح سبباً لهداية الإخوة وإزالة بعض الرذائل من قلوبهم وتسليمهم لأمر الله تعالى بعلمهم بأنه لا يمكن محاربة ومقاومة ما أراده الله تعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن شاء من شاء وأبى من أبى (وللتوسع في هذا الموضوع مجال واسع لا يمكن الغور فيه في هذه العجالة وإنما أشرنا إلى عناوين حِكَم وغايات ما فعله يعقوب ويوسف وما حدث لهما) .. فلولا حسد الإخوة وكيدهم لما تحقق شيء من ذلك فكان من الضروري تحقق ذلك الحسد والكيد ولكن بسوء اختيار الإخوة أنفسهم لا بالإجبار السالب للإختيار النافي للتكليف …
وأما مسألة العدل؛ فليس العدل هو التسوية في الحب القلبي بل العدل هو وضع كل شيء في محله وإعطاء كل ذي حق حقه(هذا تفسير للعدل في بعض مراحله ومراتبه باعتبار متعلَّق العدل .. وهناك تفاسير اخرى له، كما أن العدل في غير هذا المورد يختلف عنه في غيره فالعدل في الأخلاق مثلاً هو الإعتدال في الخصال الأخلاقية والخروج عن حَدَّي الإفراط والتفريط ..) فإعطاء كل إنسان أو أي موجود آخر من الحب ما يستحقه عدلٌ سواء كان بقدر إنسان أو موجود آخر أم لم يكن و سواء كان الحب لذلك الموجود حسب استحقاقه الذاتي أو بالتبع كحب المؤمن لأنبياء الله وأوليائه والصلحاء من عباده فإن حبهم ناتج عن حب الله تعالى وبتبع حبه جل وعلا وأما حب الله تعالى فهو استحقاق ذاتي لأنه عين الكمال والجمال كما سنشير في الشق التالي من الكلام فنقول :
وأما التسوية في الحب بين مختلف الناس والاشياء، فهو أمر خارج عن الإرادة والإختيار عادة، فلو كان الحب ناتجاً عن أمر أو أمور اختيارية أمكن مَنْعُ حدوثِهِ أو إزالتُه بعد الحدوث كحب الدنيا الذي يمكن منع حصوله في القلب او إزالته منه بعد حدوثه بتهذيب النفس وتحقيق الزهد الحقيقي في القلب، وقد يكون منشأ هذا النوع من الحب الجهل بالحقائق والخطأ في تطبيق الحب على متعلَّقه وما يجب حبه؛ فالحب وكما أشرنا وسنشير عن قريب يتعلق بالكمال والجمال وعندما يخطأ الإنسان فيما هو الكمال وما به كماله فيرى أن كماله في تحصيل الدنيا، يدخل حبها في قلبه بلا اختيار و لكن يمكنه إزالته بكسب المعرفة بالدنيا وبما هو كمال وجمال أو من هو عين الكمال والجمال لأن هذه مناشئ ذلك الحب وهي اختيارية، وهنا يأتي دور الحب الحقيقي المتعلق بالمحبوب الحقيقي الذي هو عين الكمال والجمال وهو الله المتعال فإذا توجه القلب إليه وشاهد ذلك الجمال والكمال بسريرته وعين قلبه وبصيرته دخل حبه في قلبه لا محالة شاء أم لم يشأ – وهو بطبيعة حاله يشاء ذلك لأنه مجبول ومفطور على حب الكمال والجمال – وإذا كان هذا الحب هو الحب الحقيقي وهذا هو المحبوب الواقعي فكل من كان آية لذلك الجمال والكمال الحقيقي كان محبوباً للعارف به بقدر قربه منه وكونه مجلى ومَظْهَرَاً ومُظْهِرَاً لذلك الكمال والجمال وبتبعه، فكلما كان ذلك الكمال و الجمال فيه أظهر و أجلى كان الحب له أقوى وأعمق وتَجَذُّرُه في أعماق الروح أكثر ..
وإذا كان يوسف عليه السلام قد بلغ من القرب إلى الله تعالى واكتسب من الجمال والكمال ما يجعله مظهرا ومجلى لذلك الكمال المطلق والجمال الجميل بالذات، وكان يعقوب عليه السلام نبياً يشاهد ذلك الجمال والكمال فيه فلا محالة يدخل حبُّه في قلبه شاء أم أبى وبطبيعة الحال لا يمكن أن يأبى لأنه عارف بالله مشاهد بعين قلبه لذلك الجمال والكمال و دحب الكمال والجمال فطري فلا يمكن أن لا يشاء ذلك الحبَّ واستقرارَه في القلب ..
والتعامل مع الآخرين يتلوّن بلون ذلك الحب القلبي، فلا يمكن التسوية في مظاهر الحب بين يوسف الذي هو آية كبيرة من آيات ذلك الجمال والكمال وبين إخوته المسيطرة عليهم التسويلات النفسانية ووساوس الشيطان، كما لا يمكن التسوية بينهما – يوسف من جانب و إخوته من جانب آخر – في نفس الحب القلبي ..
فإذا تبين ذلك فالعدل – بمعنى وضع كل شيء في محله وإعطاء كل ذي حق حقه – يقتضي أن يتعلق الحب القلبي بيوسف أكثر من غيره من إخوته وأن تتجلّى مظاهر الحب له في يعقوب وفي تعامله أكثر وبنحو اشد من مما يتجلى فيه لإخوته، مع انه – وكما أشرنا في بداية الجواب – كان يحتاط كثيراً حتى نهى يوسفَ عليه السلام عن أن يقصُص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا .. فتأمل
موفقين لكل خير و لا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
يوم الأربعاء ٨ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٢٥ / ٤ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary