مناط الحاجة إلى العلة

شيخنا سؤال :

ما هو مناط الحاجة إلى العلة؟ يعني هل يحتاج الممكن في بقاءه إلى العلة التي أوجدته؟

—————————————————

الجواب :

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

* المتكلمون عادة يستدلون على وجود الله تعالى بالحدوث – حدوث موجودات عالم الإمكان و عدم قِدَمِها – و هذا يعني أن مناط الحاجة إلى العلة عندهم هو الحدوث و لكن يرد عليه أنه يلزم أن يكون بعد الحدوث مستغنياً عن العلة في حين أنه لا يوجد في عالم الإمكان من و ما هو مستغنٍ عن العلة الحقيقية الموجدة لا ابتداءً و لا استمراراً ..

أضف إلى ذلك أنه لو كان المناط هو الحدوث لزم إثبات الحدوث، و عندما يريدون إثبات الحدوث يستندون إلى تغير العالم فيقولون في البرهان المعروف أن : العالم متغير – و كل متغير حادث = فالعالم حادث .. و إذا كان حادثاً احتاج إلى مُحْدِث ..

و برهان الحدوث و إن كان صحيحاً في حد ذاته إلا ان غاية ما يمكن أن يدل عليه هو أن هذا العالم يحتاج إلى مُحْدِث و لكن ما أو من هو ذلك المُحْدِث؟ لا يثبت بالبرهان المذكور إلا ضرورة أن لا يكون ذلك المحدث متغيراً لأن المتغير حادث و أما غير المتغير فلا يثبت حدوثه ليحتاج إلى محدث فمن الممكن أن يكون المحدث للعالم من عالم المجردات التي لا تطرأ عليها التغير لا تكاملاً و لا تناقصاً و هذا لا يثبت واجب الوجود بل يثبت أن المحدث يلزم أن لا يكون متغيراً و إلا لكان هو أيضاً حادثاً .. فيحتاج برهان الحدوث إلى متمم لننتهي إلى واجب الوجود و هذا ما يدلنا على أن مناط الحاجة إلى العلة أمر آخر غير الحدوث و لا الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً بل المناط هو الإمكان و هو الامر الثاني الذي نريد الإشارة إليه ..

نعم هناك مصطلحات أخرى للحدوث يمكن تصويره حسب تلك المصطلحات بنحو يخلو من ذلك الإشكال و لا يحتاج إلى متمم لإثبات المبدأ المتعالي جل و علا منها الحدوث الزماني و التجدد الذاتي و سيلان الطبيعة الذي يقول به صدر المتألهين ففي كل آنٍ يفاض عليه الوجود فهو في كل آنٍ حادثٌ، فلا يُتصوَّر الحاجة إلى العلة في الحدوث دون البقاء إذ لا بقاء للمكن – من أي عالَمٍ كان – حتى يُتصوَّر الإستغناء عن العلة في ذلك الظرف – أعني ظرف البقاء – بل الحادث الواحد في حقيقة الأمر حوادث كثيرة كما أن العالم الذي نراه بحسب الظاهر عالَماً واحداً ليس بواحد بل هو عوالم أي أنه يحدث آناً فآناً و يفاض عليه الوجود في كل آن فهو في كل آن عالَمٌ غيرُ الذي كان في الآنِ السابق و غير ما يكون في الآن اللاحق فكل عالَم من هذه العوالم محفوف بعدمين عدمٍ سابق و عدمٍ لاحق و بذلك يسلم البرهان من الإشكالات المشار إلى بعضها و يتم البرهان من دون حاجة إلى متمم … و توضيحه موكول إلى محله

* يرى الفلاسفة أن مناط الحاجة هو الإمكان و لكن الإمكان قد يكون المقصود منه الإمكانَ الماهوي بمعنى سلب ضرورة الوجود و العدم من الموجودات الإمكانية فكل من الوجود و العدم لهذه الموجودات يحتاج إلى علة إلا أن العدم يكفيه عدم العلة كما يعبرون عن ذلك بقولهم : “عدم العلة علة عدم المعلول” و طبعاً في هذه العبارة تسامحٌ و تجوّزٌ فإن العدم و اللاشيء لا يمكن أن يكون علة لشيء فالمقصود أن العدم هو الأصل فيما ليس هو عين الوجود فما يحتاج إلى العلة هو الوجود و أما العدم فيكفي فيه عدم وجود العلة المخرجة له إلى الوجود و هذا هو المقصود من قولهم : عدم العلة علة عدم المعلول ..

و البرهان الذي يناط بالإمكان الماهوي يتوقف على إثبات بطلان و استحالة الدور و التسلسل كما لا يخفى عليكم ..

فهذا أحد مصداقي الإمكان الذي هو مناط الحاجة و لا يرد عليه ما يرد على كون الحدوث – بالمعنى المصطلح عليه عند المتكلمين – مناطَ الحاجة فإن الإمكان الماهوي ملازم للموجودات الإمكانية قبل وجودها و بعده فلا تستغني بعد وجودها عن العلة الموجِدة ..

والمصداق الآخر للإمكان هو الإمكان الفقري وهو كون الوجود تعلقياً وعين التعلق والفقر إلى الغير فيحتاج إلى ما يتعلق به ويفتقر إليه، وليس المقصود أن الوجود يحتمل الأمرين : الوجود و العدم ولهذا يحتاج إلى الموجِد فإن ثبوت الشيء لنفسه ضروري ولا يمكن سلب الشيء عن نفسه وفيما نحن فيه لا يمكن سلب الوجود عن نفسه كما أن سلب نقيضه عنه أيضاً ضروري فلا يمكن إثبات العدم للوجود، بل المقصود أن الوجود قد يكون مستقلاً وقد يكون عين التعلق بالغير و عين الفقر إليه وإذا كان وجودات عالم الإمكان وجودات تعلقية فتحتاج إلى ما تتعلق به و تتوقف عليه و هو الوجود المستقل وهو الواجب تعالى حيث لا يمكن أن يكون المتعلَّق عليه ايضاً وجوداً رابطياً وعين التعلق و الفقر إلى الغير لأن الوجود الرابطي متعلِّق بغيره وليس متعلَّقاً عليه

أيوب الجعفري

ليلة الأربعاء ٣ ربيع الأول ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٢٢ / ١٠ / ٢٠١٧ م