ما حكمة طول مدة العذاب أو الخلود فيه مع قِصَر مدة الذنب ؟

سلام عليكم شيخ

البعض يقول بأن إرتكاب المعصية لمدة قصيرة وعذاب الآخرة لمدة طويلة هو ظلم وليس عدل
مثلاً شخص يزني لمدة قصيرة ولكن يدخل النار ويتعذب لمدة طويلة والبعض يخلد في النار هل يمكن أن يكون ذلك عدل ؟

______________________________________________

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

يتعامل الله مع عباده في الحساب بالفضل الذي هو فوق العدل فإذا أذنب و تاب فلا شيء عليه و إذا أذنب و أدركته الشفاعة نجى من العذاب و لكن إذا لم يتُب و لم تُدركه الشفاعة استَحَقَّ العذاب و مع ذلك قد يعفو الله تعالى عنه لأجل خصلة جميلة فيه كما إذا كان المذنب سخياً أو عَفُوّاً يعفو عمن ظلمه أو .. و قد يعفو الله عنه بلا سبب لكونه لم يرتكب الذنب تمرّداً على الله تعالى بل لغلبة الشهوة عليه مثلاً و قد أراد أن يتوب و لكنه لم يُوَفَّق لها لحلول الأجل و المنية قبل ذلك و هو تعالى أرحم الراحمين و في الخبر أن آخر من يشفع هو أرحم الراحمين، هذا و قد يكون عذابُ العاصي مشاكلَ الدنيا او الفقر و قد يكون عذابه شدة النزع – قبض الروح – و قد يكون ضغطةَ القبر أو سائر أنواع عذاب عالم البرزخ أو صعوبات المحشر أو طول المكث فيه أو ..، فيَطْهُرُ بذلك و يُعفى عنه يوم القيامة فيدخل الجنة و.. و الله يعفو عن الكثير و الكثيرين في مختلف المناسبات كليالي القدر و العيد و أيامهما و غيرها من الأيام و الليالي الشريفة و المتبركة بحَدَث إلهي مهم و..

فكما ترون هناك أرضيات و أسباب كثيرة للعفو فمن لم يَنْجُ من العذاب الأخروي يتبين أنه لم يكن ذنبه مجرد ارتكاب الزنا – و هو بحدّ ذاته من كبائر المعاصي – مثلاً بل من الضروري أن لديه ذنوباً أخرى أو مقارنات روحانية توجب طول العذاب كالإصرار عليه أو تحقيره الموجب لعدم العفو عنه كما ورد في الروايات من الأمر بإتقاء المحقرات من الذنوب لأنها لا تُغفَر لأنها تؤدي إلى الإهانة بمقام الرب تعالى و توضيحه يتطلب مقاماً آخر .. و كارتكاب المعصية استكباراً على الله تعالى – كما في قصة إبليس حيث لم يسجد سجدة واحدة فطُرِد و أصبح رجيماً و لكن لا لأجل مجرد عصيانه القصير المدة – و هو بحد ذاته أيضاً عظيم – بل لأجل قياسه و اجتهاده قبال النص الصريح من الله تعالى و كذا لاستكباره و تكبره كما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : “أستكبرت أم كنت من العالين” .. – أو تمرداً على الله أو استحلالاً لذلك الذنب أو ..

و من جانب آخر : لا يُنْظَرُ إلى مدة الذنب بل إلى عِظَمِه و كِبَر سيئات آثاره فقد يكون الذنب لحظةً واحدة و لكن أثره عظيم فقتل النفس المحترمة من الممكن أن يتحقق في لحظة واحدة و لكن أثره سلب الحياة من إنسان كان من الممكن أن يعيش عشرات السنين كما أنه كان من الممكن أن يهدي الله جل جلاله به و بواسطته الكثيرين و يخدم الدين و ينشر ثقافة أهل البيت عليهم السلام فيما تبقّى من حياته فصحيح أن ذنبه كان في لحظة واحدة و لكنه سلب الحياة من شخص كان الممكن أن يعيش عشرات السنين  كما أن آثار ذنبه هذا عظيمة و بعضها أعظم مما طلعت عليه الشمس فإنه و كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين عليه السلام : “.. و أيم الله لئنْ يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس و غربت ..” فمن الممكن أن يكون هذا المقتول لو بقي لأصبح عالماً يهدي الكثيرين و يخدم الدين و .. فقتله و لو كان لحظة واحدة و لكنه خسارة عظيمة فالقتل عمل واحد و مدةُ ارتكابِه قصيرة لكن آثاره كثيرة و بعضها عظيمة و الله تعالى يكتب الأعمال مع آثارها كما قال تعالى : “إنا نحن نُحيي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم و كلَّ شيء أحصيناه في إمام مبين” يس : ١٢ و سينكشف له تلك الآثار يوم القيامة كما سيظهر له ملكوت كل شيءٍ – ملكوت نفسِه و أعماله و سائر حقائق الكون – فإنه : “يوم تُبلى السرائر” – و لهذه السرائر أسرار و فيها معارف حول ملكوت الأعمال و الإنسان و إذا كان يومُ القيامة و ظهر الملكوت فسيشاهد الإنسان تلك الحقائق فلا غفلة عنها هناك كما كانت في الدنيا : “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” – ق : ٢٢ – يتبين له بذلك عِظَمُ ما ارتكبه و آثاره كما يظهر له أن العذاب هناك بقدر ذنوبه و آثارها و أنه لا ظلم في حكم الله تعالى : “اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحسا ” – غافر : ١٧ – و أن العذاب إن لم يكن أخف مما يستحقه فليس بأكثر و أشد منه و  . .

أضف إلى ذلك كله ما ورد في بعض الروايات أنه لا يُخلَّدُ في النار  مُوَحِّد و أما غير الموحِّد أي المشرك فلا يستحق الجنة حتى يخرج من النار و لا يقاس العذاب بزمان ذنبه بل بِعِظَمِهِ مضافاً إلى أن المشرك هو الروح و الروح لا يدخل في نطاق الزمان لتجرده كما أن من نيته البقاءَ على الشرك ما بقي فقد ورد في بعض الروايات ما مضمونه أن المخلَّد في النار كان من نيته أنه لو عُمِّر إلى الأبد لأقام على العصيان و بقي على كفره و شركه و الطغيان و ..

و أما أنه هل يبقى في النار معذَّباً إلى الأبد أم أنه سيتحول يوماً ما إلى موجود ناري لا يتأثر بالنار أو أنه سيفنى مع النار بعد انتهاء العذاب – إن كانت له نهاية – فهذه أمور تحتاج إلى تحقيق آخر خارج عن طور هذا المختصر و قد أشرنا إلى جوانب منه و كيفية توفيقه مع العدل في بعض الأجوبة فيمكنكم مراجعة ما كتبناه حول : “حكمة خلق الكافر المبتلى في الدنيا و المعذب في الآخرة” و حول : “حكمة الخلود في النار”  ..

موفقين لكل خير و لا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة   ..

أيوب الجعفري

ليلة الأحد ٢٩ صفر المظفر ١٤٣٩ ه ق
الموافق  ١٩ / ١١ / ٢٠١٧ م