القضاء و القدر و علاقتهما بالأعمال الاختيارية

سؤال من أحد المؤمنين حول القدر :

سلام عليكم شيخنا العزيز

ما رأيكم في مقولة أقداركم تؤخذ بأفواهكم .. هل هي صحيحة من الناحية العقائدية؟

الجواب :

و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

ورد هذا المضمون في بعض الروايات و لكن ليس المقصود من أقداركم، مقدراتكم بل المقصود قدركم و منزلتكم ففي الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام : “… الناس أبناء ما يُحسنون و قدر كل امرء ما يُحسن، فتكلموا في العلم تبين أقداركم” و المقصود مما يحسنه الإنسان هو ما يعلمه فَقَدْرُهُ بِقَدَرِ علمِه .

و بهذا المعنى لا يوجد أي إشكال عقائدي، و أما إذا كان المقصود القدر الذي يُذكر قرينا بالقضاء فيقال “القضاء و القدر”، فلا تتوقف الأقدار و مقدرات الإنسان بالأفواه إلا فيما إذا كان ما يصدر من الأفواه متعلقا بالقضاء و القدر فالقضاء و القدر لا يعنيان جبر الناس على شيء بل العلم الإلهي بتحقق الشيء بنحو قطعي هو القضاء الحتمي فإذا تحققت العلة التامة لموت أحد أو احتراق منزل مثلا فسيتحقق الموت أو الإحتراق قطعا و الله تعالى يعلم بتحقق العلة التامة لذلك الموت أو هذا الإحتراق، و علمه تعالى مطابق للواقع قطعا فما يخبر عن وقوعه سيتحقق قطعا و هذا هو القضاء الحتمي .. و للكلام تفصيل ليس هنا محل طرحه ..

أيوب الجعفري

يوم الإثنين ٢٣ من شهر رمضان المبارك ١٤٤٦ ق
الموافق ٢٤ / ٣ / ٢٠٢٥ م
———————————

سؤال آخر – في نفس السياق – من أحد المؤمنين

السلام عليكم شيخنا

# اذا كان الله مقدر كل شي .. فما الداعي للعبادة والصلاة وغيرها؟
# ليلة القدر تقدر فيها الاعمال ؟ هل يعني اننا نؤثر على اختيار الله .. كنا شيء فاريناه عملا فغير رأيه فينا ؟
# ما الحاجة للإيمان بالجنة والنار ان كنا لا نعلم النتيجة ؟

الجواب :

و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

تقبل الله أعمالكم

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس المقصود من القضاء و القدر هو أن الله تعالى يقرر أن يحدث كذا و كذا من دون سبب و أننا مجبورون فيما سيحدث و ليس لنا إرادة و لا اختيار و أنه لا تأثيرَ لأعمالنا في المقدرات، بل القضاء الحتمي – مع كونه مبحثا دقيقا لا يمكن الدخول في تفاصيله و دقائقه في هذه العجالة – يتلخص في أن الله تعالى أبى أن تَجري الأمورُ إلا بأسبابها فإذا تحققت العلة التامة لشيء تحقق ذلك الشيء ( المُسَبَّب ) قطعا و الله تعالى يعلم بتحقق العلة التامة لحدوث ذلك الشيء – و علمه مطابق للواقع قطعا – فإذا أخبرنا بأن الشيء الفلاني سيحدث فسيتحقق ذلك الأمر قطعا فمثلا : الغَرَقُ علة تامة للموت و الله تعالى يعلم بأن فلانا سيغرق فيعلم بأنه سيموت فيخبرنا مثلا بأن فلانا سيموت في اليوم الفلاني فسيتحقق ما أخبر به قطعا لأن علمه مطابق للواقع قطعا و لا يتخلف عنه ..

و فيما يتعلق بمورد السؤال : الله تعالى هو مُسَبِّبُ الأسباب و قد جعل للدعاء و العبادة سببيةً تؤثر في مصير الإنسان أو في قضاء حاجته و عدمه كما قال تعالى : “و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون” كما جعل للعصيان و الطغيان سببيةً للهلاك و العذاب كما ورد في ذيل الآية السابقة : “و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون” و كذا في قوله جل و علا في موضع آخر : “و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير” .. فالله تعالى قد جعل لكل من الدعاء و العبادة و كذا للعصيان و الطغيان سببيةً لحدوث أمور في حياة الإنسان الفردية أو الإجتماعية أو فيهما كلتيهما، و هو يعلم بالأسباب التي سيحققها الإنسان فقضاؤه الحتمي يتعلق بتحقق ذلك المسبَّب لعلمه بتحقق أسبابه فيخبرنا عن طريق أوليائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين بما سيحدث لنا أو للمجتمع لأنه يعلم بحدوث أسباب هذا الحدث، فهو قد قضى – مثلا – بأن يُوَسِّعَ في رزق فلان إذا دعا و أن يُضَيِّقَ عليه إذا عصى و هو مع ذلك يعلم بأن ذلك الشخص سيدعو فيوسع عليه رزقه فقضاؤه الحتمي هو التوسعة عليه أو يعلم بأنه سيعصي فقضاؤه الحتمي التضييق عليه في رزقه فيخبر وليه بذلك و أن قضاءه الحتمي هو التضييق و ..

و بذلك يتبين أن للدعاء و العبادة تأثيراً عظيماً في القضاء و القدر الإلهي كما أن للعصيان و الطغيان أيضا تأثيرا مهما في القضاء و القدر، فليس الدعاء و العبادة أو العصيان و الطغيان لأجل التأثير على اختيار الله بالمعنى الذي ينسبق إلى الأذهان قبل التدقيق فإنه من الواضح جدا أنه لا يتمكن أحد من أن يؤثر في إرادة الله تعالى و يغيّر إرادته فيما أراده بل المقصود أن للأعمال سببية في الحوادث و الأحداث الدخيلة في سعادة الإنسان أو شقائه و الله تعالى هو من جعل لها السببية فهو مُسَبِّبُ الأسباب، و هو يعلم بحدوث هذا السبب أو ذاك فيخبر وليّه في ليلة القدر – مثلا – بأنه سيحدث كذا و كذا و بعبارة أخرى : قد قضى الله تعالى بأن يرزق فلانا إذا دعا و لا يرزقه إذا لم يَدْعُ و هو يعلم بأنه سيدعو فيعلم بأنه سيُرزق أو يعلم بأنه يبتعد عن الدعاء فيعلم أنه سيُحرم من الرزق فيقضي بقضاء حتمي أن يَرْزُقَ فلانا لأنه سيدعو و لا يَرْزُقَ فلانا لأنه سيترك الدعاء و ..

و للكلام في هذا الموضوع- و كما أشرنا في البداية – مجال واسع و قد تطرقنا لبعض التفاصيل في بعض محاضراتنا حول الدعاء ..

موفقين لكل خير

يوم الإثنين ٢٣ من شهر رمضان المبارك ١٤٤٦ ق
الموافق ٢٤ / ٣ / ٢٠٢٥ م