كيف نجمع بين الدعوة إلى حب النساء و .. مع الدعوة إلى الزهد ؟
السلام عليكم
سؤال حول الرواية:
السرائر: من كتاب أبي القاسم بن قولويه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل من اشتد لنا حبا اشتد للنساء حبا وللحلواء.
ولها نظائر في تراثنا من مدح حب النساء وما شابه، كيف نجمع بين هذه الروايات وبين فضيلة الزهد وعفّة البطن وما رويناه من أحوال أمير المؤمنين (عليه السلام) وطعامه وشظف العيش… أليس حب النساء والحلواء منافيًا لهذا؟
هذه رواية تعارضها مثلا ؟
عن عبد الله بن سنان, عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أول ما عصي الله تبارك وتعالى بست خصال: حب الدنيا, وحب الرئاسة, وحب الطعام, وحب النساء, وحب النوم, وحب الراحة.
الكافي الشريف ج 2 ص 289
__________________________________________________
الجواب
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
الروايات في هذا الباب مختلفة فمنها ما يدعو إلى حب النساء و منها ما يذمه و الظاهر أن المقصود أولاً الحفاظ على التوازن في شخصية الإنسان فلا يترك النساء و يُعرض عنهن تماماً و لا يشغفنه حباً فينسى كل شيء و يغفل عن الله و المعاد جرّاء هذا العشق و الوله ، كما أن الخوف و الرجاء كفتان للحفاظ على التوازن في وجود الإنسان فلا يميل إلى الخوف فقط ليستولي عليه اليأس من رحمة الله تعالى و لا الرجاء المحض ليأمن مكر الله تعالى و كلاهما – أي اليأس من رحمة الله و الأمن من مكره تعالى – من أكبر الكبائر بل يفتحان على الإنسان باب ارتكاب سائر المعاصي و الذنوب و … و في حب النساء أيضاً يلزم الحفاظ على التوازن فلا يغلب الحب بحيث ينسى المحب كل شيء و يغفل حتى عن الله تعالى و عن المعاد ، و لا يتركهن و لا يعرض عنهن تماماً فلا يعتني بشأنهن و لا يلبي حاجاته و حاجاتهن العاطفية و .. و لهذا نجد أن القرآن يؤكد على المؤمنين الذين قد تزوجوا بأكثر من واحدة بأن لا يعرضوا عن البعض و يميلوا كل الميل إلى البعض بل يلزم الحفاظ على التوازن في إبراز الحب و إن لم يتمكنوا من أن يعدلوا بينهن في الحب القلبي فيقول جل و علا : ” و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة .. ” و المقصود من العدل هنا هو العدل في الحب القلبي لا العملي فإن العدل العملي – حسب الموازين الشرعية و فيما أمر الشرع بالعدل فيه – واجبٌ و العدل في الحب القلبي غير ممكن و لا يمكن أن يكون غير الممكن واجباً لأن التكليف بغير المقدور قبيح و الله تعالى منزه عن القبيح بل يستحيل أن يكلف عباده بما يعجزون عنه فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها و لا يكلف عباده بما لا يطيقون فكيف بما يعجزون عنه .. فهذا دليل على أن المقصود من العدل الذي ينفي تحققه بلفظ ” لن ” الدال على النفي الأبدي هو العدل في الحب القلبي و أما العدل العملي فهو ممكن و هو لأجل ذلك مأمور به و على الرجل أن لا يجعل حبه القلبي سبباً للميل العملي التام لإحداهن و الإعراض العملي عن غيرها و لهذا يقول بعد نفي التمكن من العدل في الحب القلبي مباشرة : ” فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة..”
هذا كله اولاً و أما ثانياً فمن الممكن أن تكون أمثال هذه الروايات دعوة إلى الأخلاق الفاضلة في التعامل مع النساء و أن لا يظلم الرجل زوجته فإن بعض الرجال كانوا في العصور القديمة بل و حتى الآن في عصر التقدم العلمي و رقي الثقافات و عصر غلبة العقلانية و المنطق، يظلمون زوجاتهم بل عامة نساءِ أُسَرِهم لمجرد كونهم أقوى جسماً منهن أو لبعض التعصبات غير المنطقية و غير المبتنية على الشرع و العقل أو لأي سبب و دليل آخر ، فعلى المؤمن أن يراعي الأخلاق و الإنصاف في التعامل معهن، و ما يمكن إيصال ذلك إلى مرحلة العمل و التطبيق هو الدعوة إلى حبهن و إيجاد الحوافز و المشوقات كي يتحقق الحب في القلب و من جملة المشوقات هو جعل حبهن دليلاً على حب أهل البيت عليهم السلام فلو رأى المؤمن العارف بأهل البيت عليهم السلام أن حب النساء علامة حبهم عليهم السلام حاول تحقيق ذلك الحب في قلبه و إذا تحقق الحب القلبي تغيرت رؤية الرجل إلى المرأة و تأثّرت الأعضاء و الجوارح و القوى الظاهرة و الباطنة من ذلك الحب القلبي و ظهرت آثار ذلك الحب في العمل و تحسّنت الأخلاق شيئاً فشيئاً لأن القوى الظاهرية و الباطنية و الأعضاء و الجوارح تأتمر بأوامر القلب و تنزجر بزواجره تلقائياً لأنها قُوَاه و جنودُه تكوينا، مضافا إلى أن الدين يدعو إلى حب عامة المؤمنين على أساس الإيمان والتعامل معهم بخلق حسن و يبيّن لهم أن الخلق الحسن من جملة أفضل أساليب الدعوة إلى الحق وإلى الفضائل وفي المقابل: الأخلاق السيئة توجب ابتعاد الناس عن الداعي إلى الحق وإلى الفضائل “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك” ومن المعلوم أن الأقربين أولى بالحب و دعوتهم إلى الفضائل والكمالات : “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة..” فالدعوة إلى حب النساء في الواقع دعوة إلى الحب في الله تعالى إلى جانب حاجة الإنسان نفسه إلى الحب و الأنس بالآخرين ..
و ثالثاً المذموم و المنهي عنه هو التعلق القلبي بالدنيا و كل ما يتعلق بها من حيث كونها دنيوية فإن حب الدنيا بهذا المعنى رأس كل خطيئة كما في الروايات و يمكن تصوير كونه رأس كل خطيئة بعدة صور ككون حب الدنيا أسوأ الرذائل الأخلاقية ، و ككونه موجباً لارتكاب المعاصي فإن الحب جذبة قلبية تجذب المحب إلى المحبوب و إذا انجذب إليه فعل كل ما بوسعه لتحصيله أو التقرب منه فإذا كان الحب متعلِّقاً بالدنيا فعل المحب كل ما بوسعه لتحصيلها و لا يفرّق حينئذ بين الطاعة و المعصية ، و بين الحلال و الحرام فحبه للدنيا يدعوه إلى ارتكاب المعاصي و الموبقات و هذا ما يوجب شقاءه في الدنيا و الآخرة و ..
و من جملة أبعاد كون حبها رأس كل خطيئة هو كون الحب أمراً قلبياً و وصفاً مترسخاً في روح الإنسان و إذا دخل حب الدنيا – كحب أي شيء آخر – في القلب لم يتمكن صاحبه من تحمّل فراقها لأن فراق المحبوب عذاب للمحب و من المعلوم للجميع أن الإنسان سيترك الدنيا في يوم من الأيام فيبقى حب الدنيا في قلبه مع عدم التمكّن من وصال المحبوب فيبقى في عالم البرزخ و القيامة معذباً بنار حب الدنيا لان الحب موجود و المحبوب مفقود .. و قد يكون هذا المعنى من جملة معاني قوله تعالى : ” و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل .. ” فالحيلولة بين الإنسان و بين مشتهياته و ما يحبه عذاب روحاني و العذاب الروحاني أشد ألما من الجسماني كما لا يخفى و هو ثابت بالبرهان و الوجدان ..
فهذا الحب للدنيا هو المذموم و رأس كل خطيئة، وكل ما هو دنيوي فحبُه كحبها مذمومٌ لأنه رأس كل خطيئة للأسباب المذكورة و غيرها ، و أما إذا كان حب شيء بأمر من الله تعالى و أوليائه فهو حب لله و أوليائه عليهم السلام لأنه لو لم يكن محباً لله و أوليائه لما أحب من أمروه بحبه ، و الحب لا يتحقق بمجرد الأمر و النهي التشريعي و إنما يتحقق بما يجذب الإنسان كالجمال ، و الإنسان المؤمن الذي أدرك جمال الرب الكريم و الجمال الإلهي الظاهر في مظاهر أسماء الله الحسنى و هم أولياؤه تعالى أحب اللهَ الجميلَ و أحب أولياءه الذين هم من جملة مظاهر جماله تعالى بل هم المظهر الأتم و المجلى الأكمل لجماله جل و علا ..
و من جانب آخر حب الشيء يوجب حب آثاره و حب ما يحبه فلو أحب المؤمن ربه أحب كل من و ما يحبه الله تعالى أو يأمر بحبه فلو أمر الله تعالى بحب النساء أحبهن لأن حبهن مأمور به من قِبَل المحبوب فحبهن ينشأ من حبه تعالى و ليس حبهن ناتجاً عن حب الدنيا بما هي دنيا فحبهن مرغّب فيه و ممدوح و أما المذموم و الذي يعد رأس كل خطيئة هو حبهن الناتج عن حب الدنيا و شهواتها ..
و قد ورد نظير ذلك في الدنيا نفسها فنجد من ناحيةٍ ذمَّ القرآنِ و الروايات لها و من جانب آخر نرى مَدْحَها، فمن جاب يقول القرآن الكريم : “زُين للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا ..” و يقول عز من قائل : ” و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ” و يقول أمير المؤمنين عليه السلام في النهج الشريف : ” فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا ” و : ” كونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا ، و علموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا .. ” و قال صلوات الله عليه : ” عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوا تركها .. ” و يذمها في عشرات الخطب و الكلمات و الحِكَم الصادرة منه عليه السلام ، و من جانب آخر يمدح الدنيا بأنها مسجد أحباء الله و مصلى ملائكة الله و مهبط وحي الله و متجر أولياء الله و … فذمها لأجل تعلق القلب بها و حبِّها لِذاتِها و جعلها الهدف الأقصى و الغاية العليا ، و مدحها لأجل جعلها وسيلة للرقي و السير نحو الكمال و اكتساب المعرفة فيها و التقرب إلى الله تعالى بعبادته فيها و هذا ما يستفاد من نفس العبارات الواردة في الآيات و الروايات التي تذم الدنيا أو تمدحها ، و من جملة ما يبيّن لنا ذلك بكل جلاء قول أمير المؤمنين عليه السلام في النهج الشريف واصفاً الدنيا و من فيها : ” من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته ” بمعنى أن من جعل الدنيا وسيلة للإبصار و درك الحقائق و نيل الكمالات و مشاهدة جمال الرب و جلاله تعالى من خلال مشاهدة آياته فيها بصّرته الدنيا و جعلته يشاهد جمال الرب و جلاله و فتحت عين قلبه و بصيرته و هذا ما عبر عنه بقوله ” أبصر بها ” أي بسببها و جعلها وسيلة لمشاهدة الجمال الربوبي و الجلال الإلهي و .. ، و أما من جعلها غاية و هدفاً لنفسه أعمته عن درك الحقائق و المعارف و الجمال و الجلال الإلهي و عن مشاهدة ما وراءها من عالم الملكوت و ما ينتهي إليه أمر الإنسان في المعاد و .. و هذا ما عبر عنه بقوله عليه السلام : ” من أبصر إليها ” باستعمال لفظ ” إلى ” الدال على الغاية أي جعل الدنيا غاية بصره و منتهى هدفه ..
و بهذا يتبين الفرق بين موارد ذم الدنيا و ما فيها من النساء و .. و لذائذها من الأطعمة و الأشربة و غيرها ، و بين موارد مدح الدنيا و النساء و ملذات الدنيا من الأطعمة و غيرها ..
موفقين لكل خير …
و نسألكم الدعاء ..
أيوب الجعفري
ليلة الأربعاء ٢٨ من شهر رمضان المبارك ١٤٣٩ ه ق
الموافق ١٣ / ٦ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary