بُعد مكان صاحب الأمر عليه السلام و خفاؤه

أحد المؤمنين : يُنقل عن الإمام صاحب العصر والزمان عليه السلام أن قال في كتابه الى ااشيخ المفيد : أننا في مكان بعيد و خفي فما المقصود من كونه عليه السلام في مكان بعيد خفي؟
——————————————————————

الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

يعني أننا لا نعيش في أوساط الناس – و إن أمكن حضوره عليه السلام في بعض المجالس بجسمه الشريف – بل نعيش في مكان بعيد ناءٍ، و قد ورد هذا المضمون في دعاء الندبة أيضا حيث نقرأ فيه : “ليت شعري أين استقرت بك النوى بل أيّ أرض تُقِلُّكَ أو ثرى أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى ..” فالنوى يعني المكان البعيد و رضوى جبال في المدينة و قالوا : إن “ذي طوى” موضع عند مكة، و قال البعض أنه من الممكن أن يكون مقرُّه عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف في بداية الأمر في جبال رضوى و سيكون مقرُّه قُبيل الظهور في “ذي طوى” فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أن القائم عليه السلام يهبط من ثنية ذي طوى في عدة أهل بدر – ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا – حتى يسند ظهره إلى الحجر الأسود و يهز الراية الغالبة – كتاب الغيبة للنعماني رض ص ٣٢٩ الباب ٢٠ الحديث ٩ – ..

و أما أنه عليه السلام يخفى علينا في محل بعيد فالخفاء هو مدلول كثير من الروايات، و الغيبة تعني ذلك و هو من أسرار و أهداف الغيبة فكان من الضروري الخفاء و الاختفاء عن الناس كي لا يعرفه أحد و لا يتعرّض للخطر و القتل و لا يؤخذ منه البيعة لأحد ( و كل واحد من هذه الأمور حكمة مستقلة للغيبة مضافا الى حِكَمٍ أخرى مذكورة في النصوص الشرعية أشرنا إليها – أي إلى حِكَم و غايات الغيبة – في مقال لم يتم نشره بعدُ و قد نُوَفَّقُ لنشره بعد تكميله و التدقيق فيه مستقبلا بعون المعبود جل و علا ) .. فهو عليه السلام و إن حضر بعضَ المجالس و في بعض الأوساط أحيانا و في الحج و عرفات و .. إلا أنه لا يعرفه إلا الأوحدي من الناس و هذا ما تشير إليه الجملة التالية من نفس الفقرة التي مرت الإشارة إليها فى دعاء الندبة حيث نقرأ بعد تلك الجملة : ( عزيز عليّ أن أرى الخلق و لا تُرى و لا أسمع لك حسيسا و لا نجوى .. ) فهو الغائب عن أعين عامة الناس لا يراه أحد – إلا من شاء الله تعالى من خُلَّص المؤمنين و كُمَّلهم – و إذا رآه أحد لم يعرفه إلا من أراد الله جل و علا، و أما ما يُتداول على ألسن البعض من أنه عليه السلام ليس غائبا بل نحن الغُيَّب فهو بظاهره غير صحيح فمن الضروري أن لا يكون المراد به ظاهر العبارة و هو أننا غائبون عنه لا يشاهدنا و لا يرانا لأنه عليه السلام مضافا إلى كونه صلوات الله عليه و عجل الله تعالى فرجه الشريف من شهداء الأعمال فيرى الأعمال و العاملين معا بل و يشاهد حقائق الأعمال و العاملين أيضا، مضافا إلى ذلك نحن نعلم بكل وضوح و بما دل عليه المأثور من الأدعية و الزيارات و الروايات أنه عليه السلام هو الغائب عنا فلا نراه و لا نشاهده كما سبقت الإشارة إليه مع الاستشهاد ببعض فقرات دعاء الندبة ( عزيز عليّ أن أرى الخلق و لا تُرى و لا أسمع لك حسيسا و لا نجوى .. ) و في دعاء العهد أيضا ما يدل على أنه عليه السلام الغائب عنا فنطلب من الله تعالى حضوره و ظهوره فتكون غيبته بمعنى عدم ظهوره و عدم حضوره معا بالمعنى الذي سنشير إليه في بيان المعنى الصحيح لتلك العبارة ، و خلاصة القول أنه لا يصح أن يكون المقصود من قولهم أننا نحن الغُيَّب أننا غائبون عنه فلا يرانا لغيابنا و غيبتنا عنه صلوات الله عليه فإن ظاهر هذه العبارة هو أننا غائبون عنه و الغائب لا يُرى و النتيجة هي أنه هو عليه السلام لا يرانا و هو باطل قطعا، فنقول : يمكن تفسيره بما يتوافق و الأسس الفكرية في عقيدتنا حول المعصومين عليهم السلام و في القضية المهدوية بأن يكون المقصود من قولهم أننا نحن الغُيَّب هو أننا نحن المحجوبون عن مشاهدته عليه السلام و ذلك لأسباب عامةٍ هي غايات و أهداف الغيبة و خاصةٍ ترجع إلى كل فرد منا حيث أن ظلمات المعاصي و ترسُّخ الرذائل تشكّل طبقة سميكة على القلوب و الأبصار تمنع من مشاهدة الحق و من يدور الحق مداره كجده أمير المؤمنين عليه السلام و هذا ما يدل عليه ما ورد في توقيعه الشريفة و كتابه عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الشيخ المفيد رض من قوله صلوات الله عليه : “و لو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة و صدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاما يتصل بنا مما نكرهه و ..” فكما أن الذنوب و المعاصي و الرذائل تحجب الإنسان من مشاهدة الرب الكريم يوم القيامة حيث قال تعالى : “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون” فلا يتمكنون من مشاهدة الرب الكريم بقلوبهم و يُحجبون عن كرامة الله و ألطافه و ثوابه – كما فُسِّرت المحجوبية بذلك في بعض الروايات – و كما يُحجَبون عن رؤية الجنة و الجحيم لعدم بلوغهم علم اليقين المشار إليه في آيات من الذكر الحكيم منها ما في سورة التكاثر، و لو كان مصباحُ الهدى قد زهر في قلوبهم لشاهدوا ما لم يشاهده الأغيار غير الأخيار، كذلك فيما يتعلق بمشاهدتنا لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي هو من الأسماء الحسنى و من مظاهر صفات الله العليا فلولا الذنوب و المعاصي و رسوخ الرذائل في القلوب لما تأخر اليُمن بمشاهدته عليه السلام فهو صلوات الله عليه قريب منا و نحن البعيدون عنه، نعم هذا أمر غريب أن يكون هو قريبا منا و مع ذلك نكون نحن بعيدين عنه عليه السلام إلا أنه صلوات الله عليه – و كما أشرنا – من مصاديق أسماء الله الحسنى و المظهر الأتم لصفات الله العليا ففي نفس الوقت الذي يكون الله تعالى أقرب إلى الناس من حبل الوريد ( و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ) لكنهم بعيدون عنه بذنوبهم و الرذائل المترسخة في قلوبهم ( أولئك يُنادَون من مكان بعيد ) و في دعاء الافتتاح الوارد في ليالي شهر رمضان : “الذي بعُد فلا يُرى، و قرُب فشهد النجوى” ( و بطبيعة الحال ما أشرنا إليه من بيان لهذه الجمل متعلق بالجانب الأخلاقي و إلا ففي هذه العبارات القرآنية و الولائية معارف عميقة أخرى تتعلق بالجانب المعرفي و العقائدي و لسنا هنا بصدد بيانها و إنما نريد الاستفادة منها فيما يتعلق بموضوع السؤال ) .. فإذا كان الله تعالى قريبا منا و نحن البعيدون عنه و كان صاحب الأمر عليه السلام مظهرَ صفات الله العليا و من مصاديق أسماء الله الحسنى و الآية الكبرى لله جل و علا فهو أيضا قريب منا و نحن البعيدون عنه ، هو الحاضر الناظر لنا و نحن المحجوبون عن مشاهدته و سماع صوته الكريم و كلامه الشريف، فمن جملة محتملات أو مصاديق قوله عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف للشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه : “نحن و إن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله لنا من الصلاح و لشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين ..” أن الناس هم البعيدون الناؤون عنه مع كونه عليه السلام قريبا منهم يسمعهم و يراهم و قد يكون قوله صلوات الله عليه : “النائي عن مساكن الظالمين” إشارة إلى ذلك أو أن ذلك من جملة ما يشير صلوات الله عليه إليه ..

موفقين مسددين

أيوب الجعفري

يوم الخميس ٣ ذو الحجة الحرام ١٤٤٤ق
الموافق ٢٢ / ٦ / ٢٠٢٣ م
المراجعة و التدقيق و التكميل يوم الاثنين
٢١ ذو الحجة الحرام ١٤٤٤ ق – ١٠ / ٧ ٢٠٢٣م