وجود العقل
سلام شيخ
الماديين يقولون: ان لاوجد للعقل الذين يقولون بها الفلاسفة والذي يدرك ويفهم ويحفظ ويميز الاشياء هو هذا العضو البشري الذي يسمى بالدماغ (المخ)اي العقل هو الدماغ ولذا حين يصاب هذا العضو بحادث او تشوه يقف الانسان عن الادراك والفهم وقد ينسى الذي تعلمه وإذا كانت هناك قوة تسمى العقل فما عمل الدماغ في الجسم وإذا قلت ان هذا العضو يملكه الحيوانات نقول ان هذا العضو عند الانسان ادق واكبر وإذا فرضنا وجود العقل الذي يقول بها الفلاسفة فأين يقع العقل في الإنسان.
نريد جوابكم شيخنا وبارك الله فيكم
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الدماغ عضو مادي وآلة لعمل القوة العاقلة كما أن العين وسيلة لإدراك القوة الباصرة للمبصرات والأذن للمسموعات وهكذا سائر الأعضاء و الجوارح ، و ما يدرك حقيقةً هو مرتبة من مراتب روح الإنسان حتى في المبصرات والمسموعات فكيف بالمعقولات ، فالعين والأذن واللسان و.. حالة النوم و الإغماء موجودة و مع ذلك لا تبصر و لا تسمع و لا تذوق و و .. لأن من يدبرها – وهو الروح – في شُغُل عنها وقد انقطع تدبيرها لها، وحينما يقوم الأطباء بتخدير الجسم نجد أن آلة الحس وهي الأعصاب موجودة في الجسم و لكن الجرّاح يشق البطن مثلاً ولا يحس هذا الإنسان بالألم الذي هو نوع من الإدراك و.. وكذا بالنسبة للتعقل الذي هو عمل العقل الذي هو من مراتب النفس الناطقة فليست الضربة على المخ المادي هو الموجب والسبب التام لعدم التعقل بل انقطاع تدبير الروح لهذا المخ يوجب عدم التعقل نعم تعطُّلُ وسيلة الإدراك يوجب انقطاع تدبير الروح ولكن لا يختص ذلك بالمخ فلو ابتُلي الإنسان بجلطة وسكتة قلبية مثلاً فسيُغمى عليه احياناً ومع أنه لم يُصَبِ المخ المادي بأذىً، مع ذلك لا يدرك الإنسان شيئاً وما ذلك إلا لأجل أن المدبر لهذا الجسم والموجب لقدرة القوى الجسمانية على الإدراك في المحسوسات وإدراك العقل للمعقولات هو الروح المجردة عن المادة ..
وأساساً المادة غير قابلة للإدراك فالمُدْرِكُ دائماً وأبداً هو موجود مجرد ولهذا لا يُدرِك ظاهرُ الكفِّ باطنَهُ لا بالإبصار ولا بالسمع ولا بالشم ولا بالتذوق ولا .. فكيف بالتعقل و إدراك الكليات والقواعد العامة ..
واما قولهم أن مخ الإنسان أدق وأكبر من الحيوانات ولهذا يتعقل ويدرك الإنسان ما لا يدركه الحيوانات فنقول : ما المقصود من كون مخ الإنسان أكبر؟ هل المقصود كونه أكبر من حيث الحجم الجسماني والوزن أم أنه أكبر وأكثر تجرداً ؟
فإن كان المقصود هو كونه أكبر حجماً ووزناً فاولاً قد ثبت من الناحية العلمية انه لا علاقة بين كِبَر المخ حجماً أو وزناً وبين قوة الإدراك، والشواهد العينية تُثبت لنا عدم وجود علاقة بين هذين الأمرين وهذا ما نشير إليه في النقاط التالية فنقول :
وثانياً ليس مخ الإنسان أكبر من مخ جميع الحيوانات بل هناك من الحيوانات ما يكون مخها أكبر حجما ووزناً من مخ الإنسان مثل مخ الفيل فإن مخه أكبر حجماً ووزنه ستة كيلو غرامات كما أن مخ بعض أنواع الدلافين كيلو ونصف بينما وزن مخ الإنسان كيلو وثلاثمأة غرام تقريباً – حسب ما يفيده بعض التقارير العلمية – ، فيلزم أن تكون تلك الحيوانات أعقل من الإنسان وأن تكون قدرتها على التعقل والتفكر وإدراك العلوم والقواعد العامة أكثر و تطبيقها على مواردها و الاستنباط، وإذا قلتم أن المقصود حجم المخ و وزنه مقارنةً بحجم الجسم ووزنه فنقول أن وزن وحجم مخ النمل وكذا بعض أنواع الفئران أكبر وأثقل من الإنسان مقارنة بوزنه و حجمه فيلزم أن يكون ذلك النوع من الفئران و كذا النمل أعقل وأقوى تعقلا من الإنسان ..
وثالثاً قد اشرنا إلى أن هناك حيواناتٍ صغيرةً جداً كالنمل لها إدراك أقوى من كبار الحيوانات ولا يتمكن هؤلاء من القول بأن مخ النمل والنحل أكبر حجماً من مخ الفيل و أمثاله مع أن من الملحوظ والثابت علمياً أن النمل والنحل أقوى إدراكاً من كثير من الحيوانات التي لها أدمغة أكبر من حجم النمل والنحل أنفسهما بكثير و ليس من حجم أدمغتهما فقط ..
ورابعاً : ما المقصود من كون مخ الإنسان أدق، فهل المقصود أنه أدق جسمانيا أم من حيث الإدراك، فإن كان المقصود من حيث الجسم فالأدق جسمانياً يعني الأصغر – كما يقال أن الشيء الفلاني من الأجهزة الدقيقة – وهذا يناقض كون مخ الإنسان أكبر من مخ الحيوانات فالأدق يعني الأصغر، والأكبر يناقض كونه أصغر وأنتم جمعتم بينهما وقلتم أن مخ الإنسان أدق وأكبر ، وإذا كان المقصود أنه أدق من حيث الإدراك فنقول أن هناك إشكالاً يتعلق بأصل موضوع حصر الموجودات في المادة ويجري في هذا المورد أيضاً فنقول هل إدراك الإنسان – نفس الإدراك و التعقل لا القوة التي تعقل ولا العضو الذي يكون محل ظهور القوة العاقلة، بل نفس هذا الإدراك – موجودٌ مادي أم مجرد؟ فإن قلتم أنه مادي لزم إمكان إراءته لإحدى الحواس الخمس للإنسان لأن المادي يُدرَك بالباصرة أو السامعة أو الشامة أو اللامسة أو الذائقة، فهل يتمكن المادي من أن يُحسِّسنا ما يدركه بإحدى الحواس الخمس – والمقصود أن يفعل شيئاً نبصر به ذلك المُدرَك أو نسمعه أو نتذوقه أو .. وليس المقصود أن يتكلم و ينقل لنا ما فهمه فإننا سوف نفهم ما أدركه عن طريق كلامه مع أن كلامه أيضاً مُدرَك لنا و لكنه غير معناه المُدرَك، والكلام وسيلة لإدراك ذلك المعنى وليس نفسَه – .. ثم : إذا نقل ما أدركه لنا عن طريق الكلام فنحن نفهم ما أدركه، فماذا يقول عن فَهْمنا؟ هل الفَهْمُ نفسُه مادة أو مادي أو أنه أمر مجرد؟ من الوضوح بمكان أنه لا يتمكن من القول بأنه مادي بنفس الملاك الذي ذكرناه فيما أدركه هو ..
هذا مضافاً إلى إشكالات عقلية أخرى حول حصر الموجودات في المادة منها ما نستفيد منه لإثبات وجود الله تعالى وهو أن المادة مركبة – لأنها لو كانت بسيطةَ الوجودِ أي غيرَ مركبةٍ لكانت مجردة ولم تكن مادة ومادية – و المركب محتاج إلى أجزائه ومن يركب تلك الأجزاء ليتحقق ويوجد ذلك المركب في الواقع الخارجي – والحاجة هنا ليست كحاجة الإنسان إلى اللباس والمسكن، بل الحاجة إلى ما يحقق أصل الوجود من حيث الأجزاء الدخيلة في حقيقة الموجود ومن حيث موجِد و مركِّب تلك الأجزاء كالماء المركب من عنصرين “الأكسجين والهيدروجين” فالماء في أصل وجوده محتاج أولاً إلى هذين العنصرين ولولا وجودهما معا لما وُجد الماء كما أنه محتاج إلى من أوجد ذينك العنصرين وقام بتركيبهما، فنقول لو كان الوجود مساوياً للمادة لكان جميع الموجودات مركبة فتكون جميعها محتاجة إلى أجزائها وعناصرها المُحَقِّقةِ لها في الواقع الخارجي، وكانت محتاجة إلى من يوجِد تلك العناصر ويركِّبها ، فمن ذلك الموجود الذي أوجد وركّب تلك العناصر؟ فإن قلتم أنه موجود آخر و هو ايضاً ماديٌ قلنا رجع الكلام إلى نفس ذلك الموجود المادي لأنه إذا كان مادياً كان مركباً وإذا كان مركباً كان هو ايضاً محتاجاً إلى أجزائه وعناصره وإلى مَن يركِّب تلك العناصر ليوجد ويتحقق ذلك الموجود في الخارج، فمَن ذلك الذي أوجد هذه العناصر وركبها؟ فلا مفر من القول بأن هناك موجوداً مجرداً عن المادة بسيطاً وعين الوجود، فلكونه بسيطاً لا يحتاج إلى أجزاء و عناصر محقِّقة لوجوده لانه وكما قلنا موجود بسيط غير مركب، ولكون ذلك الموجود المجرد عينَ الوجود – لا أنه شيء ووجوده شيء آخر – لا يحتاج إلى موجِد يوجِده لأنه عين الوجود وما هو عين الوجود لا يمكن إعطاؤه الوجود وإلا لكان غير الوجود لا عينه – كما أن حقيقة الإنسان وماهيته شيء والوجود شيء آخر وبإفاضة الوجود عليه من قبل الله تعالى تتحقق هذه الحقيقة في العين والخارج – فثبت أن في عالم الوجود من ليس بمادة و لا مادي، بل نقول إن وجودَ موجودٍ مجردٍ تامِّ التجردِ ضرورةٌ لا محيص عنها لأنه لولاه لما وُجد شيء لأن – وكما أشرنا إليه – جميع الماديات محتاجة إلى عناصرها وإلى من أوجد وركّب تلك العناصر فلو كانت الموجودات جميعها مادية كانت محتاجة إلى من يوجدها، ويجب أن يكون ذلك الموجِد غير محتاج إلى من يوجده وإذا كان الوجود منحصراً بالمادة لما تحقق ذلك الموجود و بالنتيجة لما وُجد شيء في العالم بل لما وُجِد عالَمٌ ليوجد فيه شيء، والحال أننا موجودون والعالم أيضا موجود ومليء بالموجودات فيلزم أن يكون هناك موجود مجرد بسيط غير مادي قد أوجدنا وأوجد سائر الموجودات، فلا تنحصر الموجودات في المادة و الماديات .. فتاملوا فإنه حقيقٌ به ..
موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر و نسألكم الدعاء ..
أيوب الجعفري
ليلة الخميس ٢٣ محرم الحرام ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٣ / ١٠ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary