بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ثورة الحسين عليه السلام – الجزء الثاني – :
* مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : قلنا أن من جملة العناصر المهمة التي أدت إلى الثورة الحسينية عليه الصلاة والسلام هو فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قلنا أن هذه الفريضة مبتنية على ولاية المحبة والنصرة مضافاً إلى ولاية الحكم التي قد جُعِلت لإزالة النقائص والإيصال إلى الكمال، ولأجل أن نعرف مفهوم هذا العامل والدافع الأساسي في الثورة الحسينية والتي هي من آثار الولاية بمختلف معانيها يلزم معرفة مفرداته فنقول :
* يتكوّن كلٌّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مفهومين يلزم معرفتهما لنعرف المعنى الصحيح والدقيق لهذه الفريضة، الأول الأمر والنهي و الثاني المعروف و المنكر ..
الأمر والنهي : من الواضح أن المعنى الذي يفهمه الناس من الأمر هو طلب فعل شيء كما أنهم يفهمون من النهي طلب ترك شيء، إلا أنه من الواضح ايضاً أنه لا يصدق على كل طلب أنه أمر أو نهي بل يلزم أن يصدر من العالي أو المستعلي ليصدق أنه أمر أو نهي، وبيان ذلك – بإختصار ومن دون الغور في الأبحاث الأصولية – أن طلب الفعل أو الترك قد يكون صادراً من العبد فيطلب من المولى عز وجل أن يفعل له شيئاً أو يبعد عنه مكروهاً، و قد يكون بالعكس فيطلب المولى جل وعلا من عبده أن يفعل أو يترك شيئاً، وقد يطلب الإنسان شيئاً ممن هو في مرتبته و مستواه .. والأول يسمى دعاءً ، ويُطلق الأمر أو النهي على الثاني، و يقال للثالث أنه التماس مع أن اللفظ المستعمل في الطلب في جميع هذه الموارد واحد ولكن إذا قال الله تعالى لأحد إفعل أو لا تفعل كذا كان أمراً أو نهياً، وإذا طلب العبد من الله وقال : ” اللهم إفعل أو لا تفعل كذا ” كان دعاءً، وإذا طلب إنسان من غيره ممن هو في مرتبته ومستواه فقال له : ” يا فلان افعل لي كذا أو لا تفعل كذا ” كان التماساً ..
وهناك رأي آخر يقول بأن الأمر والنهي إنما يصدقان فيما إذا كانا صادرَين من المستعلي وإن لم يكن بحسب الواقع عالياً وأما إذا لم يَسْتَعْلِ فطلبُه ليس بأمر أو نهي وإن كان في واقع الأمر عالياً ..
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه و هو أنه لماذا يُطلق الأمر أو النهي على طلب الفعل أو الترك من قِبَل الناس في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فنقول في الجواب أنه إذا قلنا أن المعتبر في صدق الأمر أو النهي هو كونه صادراً من العالي فالعُلُوّ متحققٌ فيمن يقوم بهذه الفريضة لأن المؤمن أعلى مرتبةً عند الله تعالى من غيره كما أن المؤمن العامل أرفع درجةً من غير العامل وقد ورد في القرآن الكريم عدم استواء القاعد والمجاهد، أو البصير والأعمى، أو العالم وغير العالم، أو أصحاب النار وأصحاب الجنة د، أو المؤمن و الفاسق أو … ومن جملة الآيات المصرحة بذلك قوله تعالى : “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ” – سورة النحل : ٧٥ و ٧٦ – و قوله تعالى : “أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ” – سورة السجدة : ١٨ – وغيرها من الآيات .. والمستفاد من أمثال هذه الآيات أن الواجدِين لعناصر الكمال فوق الفاقدين لها أو لبعضها عند الله تعالى، فطلبُهم منهم فعلَ الخيرات والصالحات أو تركَ السيئات و الطالحات أمرٌ ونهي ..
وأما إذا قلنا أن المعتبر في الأمر والنهي هو الإستعلاء فنقول أن المؤمن العامل بالصالحات يلزمه الإستعلاء لا بمعنى الكِبْر و التكبُّر المذموم بل بمعنى أن يصدر في طلبه ذلك من التاركين للمعروف والعاملين بالمنكر، من منطلق العزة بالله – كما كان أبو عبد الله الحسين عليه السلام في منتهى العزة وقد صرّح بذلك وبعدم قبوله للذل في كثير من كلماته وخطاباته في ثورته الغرّاء – مضافاً إلى أنه يلزم أن يكون قوياً في قيامه بهذه الفريضة العظيمة لا ضعيفاً لا يُرجى منه التغيير، وبطبيعة الحال ليس المقصودُ من القوة التصرفَ الخشن والتعامل بالقبضة الحديدية مع مرتكبي المعاصي – فإن لهذه الفريضة مراتب ومراحل و لكل مرتبة ومرحلة مُتَوَلٍّ خاص كما ستأتي الإشارة إليه – بل المقصود قوة الشخصية والورود في العمل بجدية وعقلانية وعزم وحزم ، ولهذا سنقول فيما سيأتي من قادم الأبحاث أنه يلزم أن يكون المتولي لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجداً لشرائط علمية وعملية تؤهّله للقيام بهذا العمل الجبار الذ عُدّ من أعظم الفرائض كما سيأتي كما سيأتي في فصل آخر من هذا المبحث إن شاء الله تعالى، فلا يحق لكل أحد أن يتولّى هذه الفريضة فأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب غيري هدفه الإصلاح والإيصال إلى الكمال والمنع من الفساد والإفساد وإذا أحيل هذا الواجب إلى غير المؤهَّل علمياً وعملياً انتقض الغرض وأدى إلى الفساد والإفساد وحال دون الوصول والإيصال إلى الكمال، فبناءً على اعتبار الإستعلاء – والذي يلزم تفسيره بالمعنى المذكور لا بما يقصده بعض علماء الأصول في أبحاثهم الأصولية في مبحث الأوامر – فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون قويّاً ذا حزم وعزم مضافاً إلى أنه العالي أو الأعلى درجة عند الله تعالى بما يؤهله لأن يكون آمراً وناهياً ..
* المعروف والمنكر : المقصود من المعروف الذي يتعلق به الأمر في هذه الفريضة العظيمة هو كل ما له مدخلية في سعادة الإنسان وسائر المكلفين في الدنيا والآخرة أو الآخرة فقط، في المنظور الإلهي من العقائد الحقة والمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وفقا لأحكام الشريعة المقدسة، كما أن المقصود من المنكر هو كل ما يوجب شقاء الإنسان وسائر المكلفين في الدنيا والآخرة أو في الآخرة على أقل تقدير فالعقائد الباطلة والرذائل الأخلاقية والمعاصي والمحرمات الشرعية من مصاديق المنكر الذي يجب أن ينهى عنه المؤمنون ..
والذي يحدد ويبيّن عناصر السعادة والشقاء هو الله تعالى لأنه خالق الجميع فهو العالم بالجميع وبجميع عناصر سعادتهم وشقائهم ، وقد بيّنا في بعض الأجوبة أن الأحكام الشرعية مبتنية على المصالح والمفاسد الواقعية، فالله تعالى هو من يحدّد تلك العناصر ، وهذا ما يفرض علينا التعبُّدَ بأحكام الشريعة المقدسة سواء عَلِمْنا حِكَمَها أم لم نعلم وسواء كانت منسجمةً مع الأبحاث العلمية الجديدة أم لا، لأن العلوم التجربية مبتنية على التجربة وهي في تطور مستمر و كم من نتيجة علمية ثبت خلافها بتطور العلم وقد يتطور أكثر فيُكتشف خطأ هذه النتيجة الجديدة ايضاً و… فلا يتمكن أحد من العمل بخلاف ما ورد في الشريعة المقدسة بذريعة عدم انسجامه للعلم فإن نتائج العلوم التجريبية لا تفيد العلم بل هي ظنون في الأعم الأغلب ..
و على أية حال فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الأمر بالقيم الإلهية وعناصر السعادة والنهي عناصر الشقاء التي تم تحديدها و تبيينها في الشريعة المقدسة .. يتبع ..
أيوب الجعفري
ليلة الأربعاء ٢ محرم الحرام ١٤٤٠ ه ق
الموافق ١٢ / ٩ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary