بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثورة الحسين عليه السلام – الجزء العاشر – :
* ومن الروايات التي تحث على القيام بهذه الفريضة وتتوعّد تاركيها بالعقاب الشديد ما روي عن محمد بن عرفة قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : “إذا أمتي تواكلت الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله تعالى” – المصدر السابق الحديث ١٣ – .
والتواكل بمعنى اتكال كل واحد منهم على غيره الموجب لتركه فالمقصود هو تركُ الأمة للعمل بهذه الفريضة، والمستفاد من الرواية هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول ذلك باستمرار ولم يكن هذا الكلام قد صدر منه مرة أو مرتين بل مراراً وتكراراً، و ذلك لأن التعبير ب (كان يقول أو كان يفعل كذا)( أي دخول “كان” على المضارع) يدل على الماضي الاستمراري، وما ذلك إلا لشدة اهتمام الدين بهذه الفريضة العظيمة وقد سبقت حكمة ذلك وهي أنها سبب بقاء الدين وفي رواية : “بها تقام الفرائض ..”، كما يستفاد شدة اهتمام الشريعة المقدسة بهذه الفريضة من التعبير بإعلام وإيذان الوقاع من الله تعالى أيضاً، و قد فُسِّر الوقاع بالنازلة والمصيبة الشديدة كما فُسِّر بالحرب، مضافاً إلى أن تنكير “وقاع” أيضا يدل على التعظيم – كما احتُمل التنويع، ولا يبعد أن يكون التنويع ايضاً دالاً على التعظيم فيكون المعنى : فليأذنوا بنوع خاص من الوقاع والحرب أو المصيبة – وقلّ ما نجد ذنباً يُعَدّ محاربة لله تعالى، والظاهر أن الذنوب التي تعد محاربة لله تعالى هي الذنوب التي تشكّل عائقاً أمام تحقيق هدف التكوين والتشريع فالله تعالى قد خلق عباده للسعادة في الدنيا والآخرة وانتشارُ أكل الربا يحول دون تحقق السعادة في الدنيا لإحداثه الفواصل الطبقية التي توجب الشقاء والعناء للمجتمع وذلك لأجل أن من عناصر السعادة هو الغنى كما أن الفقر من عناصر الشقاء لا للفقراء فحسب بل للأغنياء أيضاً – كما يتضح بأدنى تأملٍ وتوضيحُ مختلف جوانبه يتطلب بحثاً آخر -، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً من موانع سعادة البشرية في الآخرة بل في الدنيا أيضاً لأنه يؤدي إلى ارتكاب المعاصي والمنكرات وتفشي الفساد في المجتع وهو موجب لعذاب الدنيا قبل الآخرة ..
* ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “إن الله عز وجل لَيُبْغِضُ المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل له : وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال : الذي لا ينهى عن المنكر” – المصدر نفسه الحديث ١٥ – ..
ويحتمل في قوله صلى الله عليه و آله و سلم : “المؤمن الضعيف الذي لا دين له” عدة أمور منها :
١ – ضعف الإيمان : فهو وإن كان متصفاً بأصل الإيمان إلا أنه لم يَرْتَقِ إلى المراتب والدرجات العالية منه، فنحن مأمورون بالإيمان وبالعمل على ترقيته والتكامل فيه والوصول إلى عليا درجاته فإن الإيمان درجات كما أن للكفر دَرَكات – وتوضيحه موكول إلى مبحث الإيمان – وهذا ما يشير أو من جملة ما يشير إليه قوله تعالى : “يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نَزَّلَ على رسوله ..” – سورة النساء : ١٣٦ – فقد يكون الإنسان مؤمناً ولكنه لا يلتزم بجميع مقتضيات إيمانه لعدم ترسّخه في قلبه ولهذا عبر عنه بالضعيف فقال صلى الله عليه وآله و سلم : ” المؤمن الضعيف الذي لا دين له”، أو لعدم تَرَقِّيْهِ إلى الدرجات المتوسطة و من ثم العالية كمرتبة الإيمان بالتوحيد الأفعالي وهو الإيمان بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله ولا يمكن أن يحدث شيء في الكون إلا بإذنه تعالى وهو من مراتب الإيمان الموجبة للتوكل على الله تعالى وتفويض الأمور إليه وقد أشار إليهما – أي إلى التوحيد الأفعالي وإلى التوكل على الله تعالى والذي يعد من مراتب أو آثار التوحيد الافعالي وقد بيّنّاه في بعض محاضراتنا حول التوكل على الله تعالى – أشار إليهما في قوله جل وعلا : “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون” – سورة التوبة : ٥١ -، فقد يترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافةَ تقدُّمِ أجله أو انقطاع رزقه – كما سبق نقله عن أمير المؤمنين عليه السلام – لعدم بلوغه هذه المرتبة من الإيمان …
٢ – ومن جملة معاني الدين هو الطاعة فيكون المعنى : إن الله عز وجل لَيُبْغِضُ المؤمن الضعيف الذي لا طاعة له أي أنه مؤمن بقلبه ولكنه لا يطيع الله تعالى ولا يمتثل أمره جل وعلا فيما يتعلق بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
٣ – ومن معاني الدين هو الجزاء فيكون معنى الحديث – والله العالم – : أن هذا المؤمن لا يجازى يوم القيامة بهذا الإيمان لأن الموجب للنجاة في ذلك اليوم هو الإيمان والعمل الصالح كما دلت عليه آيات كثيرة من قبيل قوله تعالى : “والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات …” – سورة العصر – و قوله جل و علا : “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ” – سورة النساء : ١٢٤ – وقوله عز وجل : “من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون” – سورة النحل : ٩٧ – و …
٤ – و من معانيه الورع و واضح أن تارك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُعَدُّ وَرِعاً متقياً فإن أدنى مراتب الورع والتقوى هو العمل بالواجبات وترك المحرمات، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات وتركهما من أكبر الكبائر فالتارك لهذه الفريضة لا يعد متقياً وَرِعَاً قطعاً ..
٥ – ومنها الداء فالمعنى على هذا أن من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ليس لديه داء الدين و لا يتألّم بانتشارِ الظلمِ والفسادِ و تَلَوُّثِ قلوب العباد بأرجاس المعاصي وظلمات الذنوب و..
و خلاصة الكلام هو أن تديّن هؤلاء والتزامهم بالدين منوط بعدم تضررهم وعدم لحوق الضرر المادي بهم وقد أشار إليه مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه حينما أخبره الفرزدق بأن قلوب الناس معك وسيوفهم عليك أو أن السيوف مع بني أمية، بقوله عليه السلام : “ما اراك إلا صدقت، الناس عبيد الدنيا والدين لعق (لغو) على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم فإذا مُحِّصُوا بالإبتلاء ( بالبلاء ) قلّ الديّانون” كما أشار إلى ذلك في خطبته عليه السلام بعد وصوله – روحي لتراب مضجعه الفداء – إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم أيضاً ..
هذا وقد ورد في معاني الأخبار للشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه ص ٣٤٤ باب معنى الزبر الحديث ١، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : “إن الله تبارك وتعالى لَيُبْغِضُ المؤمنَ الضعيف الذي لا زَبْرَ له، وقال : هو الذي لا ينهى عن المنكر” ثم يقول الصدوق عليه الرحمة والرضوان : ” وجدت بخط البرقي – رحمه الله – أن الزبر هو العقل، فمعنى الخبر : أن الله عز وجل يبغض الذي لا عقل له ..” انتهى كلامُه رُفِعَ مقامُه .
وبناء عليه يكون تارك العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن لا عقل له لأن : “العقل ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان” – و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : “و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه” فالإعراض عن ملة إبراهيم التي هي الملة التوحيدية سفاهة في العقل – فالعاقل هو العامل بالدين لأن العقل يقتضي العمل بما يحقق سعادة الإنسان الحقيقية وهي لا تتحقق إلا بالإعتقاد بالحق والعمل الصالح والتخلق بالفضائل وهذا ما يحقق سعادة الإنسان في الدارين أو سعادته في الآخرة على أقل تقدير فالتارك لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارك للعمل بما يوجب السعادة وهو منافٍ لمقتضى العقل، فكما أنه لا دين لتارك هذه الفريضة بمقتضى الرواية الأولى، لا عقل له أيضاً حسب هذا النقل .. أعاذنا آله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ..
وسنتطرق في الجزء التالي إلى روايات أخرى في هذا المجال بعون المعبود جل وعلا ..
أيوب الجعفري
ليلة الثلاثاء ٢٢ محرم الحرام ١٤٤٠ ه ق
الموافق ٢ / ١٠ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary