آية الولاية وخشوع أمير المؤمنين عليه السلام في الصلاة :
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم : “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون” صدق الله العلي العظيم ..
هناك سؤال يطرحه كثير من الموالين حول خشوع أمير المؤمنين عليه السلام في صلاته، حيث أننا نعلم ونعتقد اعتقاداً راسخاً لا ريب فيه أن الأئمة المنصوبين من قبل الله تعالى لخلافة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم معصومون عارفون بالله تعالى ويشاهدونه بقلوبهم وبصائرهم ولا سيما حالة الصلاة التي هي الوادي المقدس الذي يعرج فيه المؤمنُ بروحه و ينقطع عن الخلق للقاء ربه سبحانه وتعالى فيواجهه بقلبه ليتحدث معه ويسمع حديثه؛ والمؤمن العارف بالله وبجماله وجلاله جل وعلا، وبحقيقة الصلاة التي هي صِلَةٌ بين العبد وربه، وبفقره وفاقته المطلقة والذاتية إلى الرب الغني بالذات، لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال – فكيف بحالة الصلاة – غافلاً أو متغافلاً عن ربه الكريم الحاضر الذي هو على كل شيء شهيدٌ – شاهدٌ ومشهود – ..
ومن المعلوم الذي لا شك فيه ولا ريب يعتريه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه من أكمل العارفين بالله تعالى والمشاهدين لجلال عظمته بحقائق الإيمان وبصائر الإيقان، وأن الصلاة معراجُه وقربانه الذي يعرج بروحه إلى عالم الملكوت وينقطع به عن عالم المُلك والناسوت، فكما أن أول العابدين والعارفين النبي الخاتم عليه وآله صلوات المصلين قد عُرج بروحه وجسمه ليلةَ المعراج إلى مقام “أو أدنى” الأعلى من مقام “قاب قوسين” فكذلك أمير المؤمنين عليه السلام وسائر المعصومين من أهل البيت عليهم السلام يعرجون بأرواحهم إلى ذلك المقام وخيرُ معراجِ الإنسان الكامل هو الصلاة ..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا والذي يختلج في أذهان بعض المؤمنين الموالين المعتقدين بأن توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الله في صلاته كان في أعلى مراتبه بحيث استُلّ السهم المغروز في رجله أثناء الصلاة لشدة انقطاعه عن الدنيا وما فيها ولم يلتفت إليه و..، كما يتذرع به – اي هذا السؤال – بعض مُبغضي أميرِ المؤمنين أو شيعتِه لنفي مقاماته عليه السلام المعرفية والمعنوية أو نفي نزول الآية في حقه صلوات الله عليه، هو أنه كيف يمكن أن يكون الإنسان بهذه المرتبة من الكمال والمعرفة والقرب إلى الله تعالى ومع ذلك يلتفت إلى الفقير أثناء الصلاة وفي حالة العروج إلى عالم الملكوت والإنقطاع عما سوى المَلِكِ المحبوب وأنيس قلوب العارفين فيتصدق عليه بخاتمه أو حُلّته؟ ألا يدل ذلك على عدم الخشوع والشعور بالحضور بمحضر رب العالمين؟
هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع فقد شيّدنا أركان السؤال أو الشبهة ليتم اجتثاث جذورها بشكل كامل في الجواب الذي سنشير إليه فنقول مستعينين بالله العلي العظيم :
لو دققنا في المعارف الإلهية وعرفنا مقام الإنسان الكامل وتأملنا في معنى العبادة والخشوع فيها ومع ذلك نظرنا إلى مقام نزول الآية و… لما اختلج في أذهاننا هذا السؤال ولما استشكل المبغضون بذلك؛ ولتوضيح ذلك نشير إلى نقاط يكفي كل واحدة منها لحلّ المشكلة وإزالة كل شك وشبهة فنقول :
١ – هل الآية في مقام مدح “الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون” أم أنها بصدد ذمهم؟ لا ريب أنها في مقام المدح وليس الذم، لأنها جعلتهم من أولياء أمور المؤمنين بعد الله والنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ولا يمكن أن يُجعل العنوان المشير إلى من له الولاية الإلهية على سائر المؤمنين رذيلةً من الرذائل وأمراً مذموماً لدى العقلاء أو في الشريعة المقدسة أو عندهما كليهما، مضافاً إلى أن الإتصاف بالرذيلة وارتكاب العمل المذموم شرعاً وعند العقلاء يُخرج الإنسان عن قابلية تلقّي المناصب الإلهية لا سيما الولاية التي جُعلت لإيصال الناس إلى كمالهم المطلوب لهم ومنهم والذي قد خُلقوا من أجله، بواسطة الكُمّل من أولياء الله تعالى – فإن الولاية الإلهية المجعولة للأنبياء والأولياء تكميليةٌ و ليست لأجل السيطرة على الآخرين وإن اقتضت الولاية في حد ذاتها تحقق نوع من السلطة والحاكمية على المُوَلّى عليهم وهذا ما يحتاج إلى بيان خارج عن موضوع كلامنا وعلّنا نُوَفَّق لبيانه مستقبلاً – .. وبذلك يتبين أن الآية بصدد مدح “الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و هم راكعون” قطعاً ..
ومن جهة أخرى نجد أن الصلاة المقبولة هي الصلاة التي تكون مع التوجه القلبي إلى الله تعالى والإقبال على الصلاة والإلتفات إلى أفعالها وأقوالها وأذكارها والخشوع فيها كما يستفاد من الآيات والروايات المبيِّنة لذلك بألسنة مختلفة كالآيات التي تتحدث صفات المؤمنين وتجعل الخشوع في الصلاة من أوصافهم والآية التي تجعل ذِكْرَ الله تعالى من غايات وأهداف الصلاة (أقم الصلاة لذكري) حيث أن من المعلوم أن الصلاة المقبولة هي الصلاة المحقِّقة لأهدافها التي منها ذكر الله والتوجه العبودي إليه جل وعلا في جميع الأحوال لا سيما حالة الصلاة بل هو – ذكر الله حالة الصلاة – القدر المتيقن من هذا الهدف كما أن من أهدافها أن تنهى المؤمنين عن الفحشاء والمنكر ولا يمكن أن تكون كذلك من دون التوجه فيها إلى المعبود جل وعلا و.. وأما الروايات فكثيرة و صريحة في هذا المطلوب ولا داعي لذكرها لوضوحها واطلاع عامة الناس عليها و..
ونتيجة ذلك أن إيتاء الزكاة في الصلاة حالة الركوع ليس مما لا ينافي التوجه والإقبال القلبي في الصلاة فحسب بل هو عين التوجه وحضور القلب وذكر الله تعالى في الصلاة ولهذا أصبح منشأ المدح وسبب الثناء على من فعل ذلك (وإن قلنا بأن قوله تعالى : ” الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون” عنوان مُشير إلى من له قابلية و أهلية الإمامة و الولاية وليس ملاكَه وعلتَه.. ) فكون الآية في مقام المدح من جانب وكون التوجه القلبي هو الموجب لقبول الصلاة دليل واضح على أن ايتاء الزكاة حالة الصلاة لم يكن مانعاً من التوجه القلبي وإلا لزم الذم لا المدحُ بذلك وجَعْلُه عنواناً مشيراً إلى من له أهلية الولاية الإلهية العظمى وجعله إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وجعل ولايته مع ولاية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم في طول ولاية الله تعالى وامتداداً لولايته جل وعلا، كما لا يخفى .. (ويكفي في إثبات كونها في مقام المدح ما ورد في شأن نزول الآية وما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية وما أنشأه حسان بن ثابت من أشعار في بيان شأن النزول؛ فمن شاء التفصيل فليراجع التفاسير ومصادر التاريخ) ..
٢ – العبادة عبارة عن العمل المقرِّب إلى الله تعالى (وفي المفهوم الفقهي العبادة عبارة العمل الذي يلزم أن يؤتى به بقصد التقرّب إلى الله تعالى فلا يكفي الإتيان بالمأمور به كيف اتفق وإن كان من دون قصد القربة) فكل عمل قد ثبت في الشريعة المقدسة أنه مُقَرِّبٌ أو يمكن أن يكون مقرِّباً إلى الله تعالى فهو عبادة وإذا كان عبادةً فلا محالة لا يكون منافياً للتوجه إلى الله تعالى لأنه لا يمكن التقرب إلى الله تعالى بالغفلة عنه وبالإتيان بالعمل بقلبٍ ساهٍ أو لاهٍ عن العمل نفسه أو عن الله تعالى ..
ومن جهة أخرى العبادات الواردة في الشريعة المقدسة متنوعة فمنها ما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه مباشرة وبالخلق بطريق مباشر أو غير مباشر كالصلاة والصوم والحج، ومنها ما يتعلق بعلاقة العبد بسائر العباد بطريق مباشر وبالخالق تبارك وتعالى بطريق مباشر أو غير مباشر كالخمس والزكاة والصدقات وسائر الإنفاقات المالية ..
و يجمع الجميع كونها عبادة والإختلاف إنما هو في الشكل والصورة وقد أشرنا أنه لا يمكن أن يكون عمل ما عبادة مع كونه موجباً للسهو واللهو و الغفلة عن الله جل وعلا ..
والنتيجة أن أمير المؤمنين عليه السلام عندما تصدق بالخاتم – كما في رواية – وبحُلّته – كما في أخرى، حالةَ الصلاة لم يكن ذلك منه مما لا يدل على الغفلة عن الله تعالى ومما لا يؤدي إلى عدم التوجه القلبي إليه جل وعلا وإلى زوال الخشوع والخشية في الصلاة فحسب بل كان ذلك عين التوجه والإقبال إلى الله تعالى والخشوع له عز وجل لأن الموجب للغفلة والسهو والإلتهاء عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى هو العمل المتعلق بالدنيا وزينتها وزخرفها وأما الإنفاق في سبيل الله تعالى والتصدق على عياله جل وعلا فهو عبادة وموجب للتقرب إلى الله عز وجل ومنشأه خشية الله والخشوع له جل وعلا فعليٌّ عليه السلام لما تصدق بالخاتم أو بالحُلّة لم يأت بما ينافي عبادية العبادة وما يُخرجه عن حالة العبودية لله تعالى بل أتى بعبادة في عبادة فجمع بين عبادتين في حال واحدة فنال أجرهما معاً وتقرّب بهما معاً إلى الواحد الأحد عز وجل ..
٣ – الإنسان الكامل من أسماء الله الحسنى ومظهر صفاته العليا، وغير خافٍ على أحد من المسلمين فضلاً عن المؤمنين أن أهل البيت عليهم السلام – بدليل آية التطهير التي تحصر العصمة العليا والكبرى في أهل بيت النبوة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرها من الآيات و سائر الأدلة الشرعية – أكمل خلق الله تعالى على الإطلاق؛ والنتيجة أن أهل البيت عليهم السلام هم المظهر الأكمل والمجلى الأتم لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا وآياته الكبرى كما قال الإمام الصادق عليه السلام : “نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا” فهم بوجوداتهم وذواتهم المطهرة أسماءٌ لله تعالى وصفاتُهم علاماتٌ دالّة على صفات الله تعالى وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : “ما لله آية أكبر مني …” والآية تدل على ذيها، وذو الآية هو الله تعالى فأكبر آية تدل على الله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا هو أمير المؤمنين عليه السلام – وبطبيعة الحال المقصود أنه الأكبر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأدلة أخرى – فإذا كان كذلك لزم أن يكون في أمير المؤمنين وسائر المعصومين من أهل البيت عليهم السلام ما يدلنا على الله تعالى وعلى صفاته العليا ..
ومن جملة صفات الله تعالى هو ما نردده في الأدعية فنقول : “يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا يغلطه ولا يضجره إلحاح الملحين ولا يشغله شأن عن شأن ..” وهذا ما نسميه بمقام جمع الجمع الذي يقتضي أن لا يغفل عن شيء بالتوجه والإلتفات إلى شيء آخر وأن لا ينشغل بسمع عن سمع آخر وأن لا يشغله شأن عن شأن بل هو تعالى خبير عليم بكل شيء بلا غفلة ولا سهو تعالى عن ذلك علواً كبيراً ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .. فإذا كان الأئمة عليهم السلام هم الأسماء الحسنى والآية الكبرى لله تعالى لزم أن تظهر فيهم أسماء الله الحسنى وأن يكونوا مظاهر صفاته العليا فيكون لهم مقام جمع الجمع – ويمكن استفادة ذلك من كونهم شهداء الأعمال أيضاً لأن الشاهد لا يمكن أن يشهد بشيء ما لم يشهده ويشاهده ونفس عنوان “شاهد الأعمال” يدل على أن الشاهد يشهد و يشاهد العمل وإذا كان شخص ما شاهِدَ أعمال العباد لزم أن لا يشغله عمل شخص عن عمل شخص آخر وتوضيح ذلك مع ذكر أمثلة تقرِّب المطلوب إلى الأذهان بتشبيه المعقول بالمحسوس يتطلب مجالاً آخر، إلا أن هذا الأمر إجمالاً يعني أن لهم عليهم السلام مقامَ جمعِ الجمع – بفارق أن الله تعالى واجدٌ لهذا المقام بالذات وأما الهداة من الأنبياء والأولياء فلهم هذا المقام بإعطاء الله تعالى لهم ذلك وهذا هو الفارق الأساسي وهو الدال على غنى الله الذاتي وفقرهم عليهم السلام الذاتي إلى الله تعالى فلا ينافي التوحيد كما يتوهمه بعض الجهلة ..
إذا تبين ذلك تبين أن التفات أمير المؤمنين عليه السلام إلى حضور الفقير والتصدق عليه لا ينافي كمال توجهه القلبي إلى الله عز وجل في صلاته حيث أن مقام جمع الجمع يمنع من الغفلة عن الله تعالى سواء كان هناك التفاتٌ إلى الغير أم لم يكن ..
فإذا أخذنا كل واحدة من هذه النقاط بعين الإعتبار انحلت الشبهة من الأساس ولم يبق مجال للتشكيك في عظمة أمير المؤمنين وجلالة شأنه عند الله تعالى ولا في كونه عليه آلاف التحية والثناء هو من نزلت الآية في شأنه ..
رزقنا الله وإياكم عليا درجات المعرفة به وبأوليائه المعصومين المقربين عليهم صلوات الله والملائكة والناس أجمعين ..
موفقين لكل خير ولا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
ليلة الخميس ١٨ ذو الحجة الحرام( ليلة عيد الله الأكبر ) ١٤٣٩ ه ق الموافق ٣٠ / ٨ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary