التعبد في أحكام الدين

سلام عليكم ..

شيخنا حينما نسأل عن حكمة بعض الأحكام و العبادات، ففي بعض الأحيان يقال بأن هذا واجب تعبّدي وقد أمر به المولى عز وجل ولاتوجد حكمة أو فلسفة واضحة له كعدد ركعات الصلاة، فهل هناك وراء هذا الجواب حكمة وفلسفة لجميع الأحكام الشرعية لايعرفها إلا الله تعالى؟

_________

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

هناك من الاحكام ما قد ذكرت الروايات له حِكَماً، كما قد ذُكر لقليل منها علة (والعلة هي ما يدور الحُكم مدارَه فبوجود تلك العلة يثبت الحُكم وبانتفائها ينتفي كحرمة الخمر لأجل إسكارها بخلاف الحكمة التي هي الفائدة المترتبة على الحُكم ولا ينتفي الحُكم بانتفائها بل هو ثابت سواء ترتبت الحكمة عليه وتحققت الفائدة أم لا) ولكن غالب الأحكام الشرعية تعبدية والمطلوب فيها التسليم لأمر الله تعالى، وقد يصعُب التقبُّل بالتعبد في الاحكام الشرعية على البعض لا سيما في هذا العصر الذي يبحث فيه الناس و خاصة الشباب عن حِكَم الأحكام وعللها عادة، إلا أنه يسهل تقبُّل التعبد بل ضرورته إذا أخذنا المقدمات التالية بعين الإعتبار :

١ – الله هو الخالق والمالك للجميع ..

٢ – وهو عالم بجميع الأمور وجميع ما في الكون وجميع المصالح والمفاسد ..

٣ – وهو المُشرِّع والواضع للأحكام الشرعية ..

٤ – والأحكام الشرعية مبتنية على المصالح والمفاسد الواقعية فلا يوجد واجب أو مستحب إلا وله مصلحة مُلْزِمَةٌ أو غير ملزمة، كما لا يوجد حرام أو مكروه إلا وفي فعله مفسدة مُلْزِمَةٌ أو غير ملزمة ..

٥ – قد تكون المصلحة والمفسدة في نفس مُتَعَلَّقِ الحكم كما هو الغالب وقد تكون في ابتلاء العبد بذلك الحكم وإن لم تكن في نفس المتعلَّق مصلحةٌ بل قد يكون في تحققها مفسدة كما في أمر الله تعالى بذبح إسماعيل عليه السلام فالمصلحة في امتحان إبراهيم الخليل عليه السلام وليس في ذبح إسماعيل عليه السلام ولهذا حالَ اللهُ تعالى دون تحقق المأمور به (وهو ذبح إسماعيل) ..

٦ – المنافع والمضار (المصالح والمفاسد) التي تبتني عليها الأحكام راجعة إلى المكلفين أنفسهم لا إلى الله تعالى لأنه جل وعلا غني بالذات بل هو عين الغنى فلا يمكن أن يفعل شيئاً لينتفع هو به أو ليدفع به الضرر عن نفسه فالمكلف هو المنتفع بامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه جل وعلا كما أنه هو المتضرر بترك العمل بأحكام الله عز وجل(ولا ينحصر هذا الأمر في التشريع بل هو جارٍ في التكوين أيضاً فالله تعالى قد خلق الخلق لحِكَمٍ وفوائد لأنه حكيم والحكيم لا يفعل ما لا حكمة ولا فائدة فيه إلا أن الفائدة راجعة إلى الخلق أنفسهم لا إلى الخالق لأنه عين الكمال ومنزه عن كل نقص وعيب فلا يُتصوَّر فَقْدُكمالٍ أو وجودُ نقصٍ فيه حتى يكون خلقه الخلق لأجل انتفاعه بهم أو دفع ضرر أو رفع نقص عن نفسه، فإذا كان وجود الحكمة والفائدة في الخلق امراً ضرورياً لكونه حكيماً ومن جهة أخرى هو عين الكمال وغني بالذات بحيث لا يمكن رجوع فائدة إليه فلا محالة تكون فائدة الخلق راجعة إلى المخلوق لا الخالق، كما بيّنا ذلك في بعض الأجوبة) ..

٧ – الله تعالى رحيم بعباده ولا يريد لهم إلا الخير والصلاح والسعادة والكمال و..

والنتيجة : إذا كان الله تعالى هو الخالق المالك المشرع العالم بجميع المصالح و المفاسد وقد وضع جميع الأحكام وفقاً للمصالح والمفاسد الواقعية وهو لا يريد لعباده إلا الصلاح والكمال لزم اشتمال جميع الأحكام الإلهية على مصالح للعباد – إما في فعلها أو في تركها – ونحن نثق بل نقطع ونؤمن بأنها كذلك لأنها من عند الله تعالى فنعلم يقيناً بأن مصلحتنا في تطبيقها والعمل بها سواء علمنا تلك المصالح والمفاسد أم لم نعلمها ولكننا نعلم بوجودها كما أننا إذا راجعنا الطبيب وكتب لنا وصفة فإننا نعمل طبق وصفته لأننا نعلم بأنه عالم بالطب ولا يريد لنا الشر ولهذا نطبق الوصفة بلا تردد ولا سؤال عن حكمتها مع أننا نحتمل في حقه العداء أو الخطأ في تشخيص الداء أو الدواء ولكننا لا نعتني بهذا الإحتمال الضعيف فنمتثل جميع أوامره تعبداً وتسليماً له؛ والله سبحانه وتعالى لا يُحتمل في حقه الخطأ أو النسيان أو السهو كما لا نحتمل في حقه إرادة السوء والشر بعباده لأنه قد خلقهم للرحمة (ولذلك خلقهم) ولا يحتاج إلى أن يظلمهم لأنه : (إنما يحتاج إلى الظلمِ الضعيفُ) والله هو القوي العزيز الغني على الإطلاق فيستحيل أن يظلم أحداً فهو لا يريد لعباده من خلال أحكامه أيضاً إلا الخير والسعادة فنتعبّد ونسلّم الأمر له ..

أضف إلى ذلك أن التسليم له تعالى موجب للقرب منه والقرب منه يعني القرب ممن هو عين الكمال، وقربُ الناقص من عين الكمال وتقرّبه إليه كمالٌ له، وإذا كان لخفاء حِكَم الأحكام على العباد مدخليةٌ في تحقق التسليم لله جل و علا كان خفاؤها عليهم أمراً ضرورياً كما أشرنا، وبذلك يتبين لنا ضرورة تقبُّل تعبُّدية الأحكام الإلهية .

و هناك جهات أخرى في الموضوع لا أتمكن من الخوض فيها في هذه العجالة وقد أشرت إليها في بعض الأجوبة فيمكن مراجعتها في القناة على التلغرام و سائر وسائل التواصل …

موفقين لكل خير محروسين من كل سوء و شر ولا تنسوني من صالح دعواتكم الكريمة ..

أيوب الجعفري

يوم الخميس ٢٦ ذو القعدة الحرام ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٩ / ٨ / ٢٠١٨ م

https://telegram.me/ayoobaljafary