بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثورة الحسين عليه السلام – الجزء الرابع عشر – :
٣ – الدعوة بالبيان والبنان : من جملة أهم مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الدعوة ببيان الحق والمعروف والفضائل – قولا باللسان وشرحا بالقلم والبنان – ومخاطبة القلوب والعقول ببيان الحق والفضيلة والمعروف وطلب الاعتقاد بالعقائد الحقة والتخلق بفضائل الأخلاق والعمل بالمعروف وصالحات الأعمال، وتبيين الباطل ورذائل الأخلاق والمعاصي وسيئات الأعمال وطلب الإبتعاد عن الباطل والتنزُّه عن رذائل الأخلاق واجتناب المعاصي والذنوب، وقد عمل بهذه المرتبة واستخدم هذا الأسلوب – في الدعوة إلى الحق وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – جميع الأنبياء والأولياء والدعاة إلى الحق طوال التاريخ، وفي القرآنُ الكريم آياتٌ تدل على لزوم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا الأسلوب حيث ينقل لنا ما أمر به اللهُ تعالى أنبياءَه وما قام به المرسلون في دعوتهم إلى الحق ولا نريد هنا ذكر جميع الآيات المتعلقة بالأنبياء السابقين وما أمرهم الله تعالى به والأساليب التي انتهجوها في الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما نشير في هذا المختصر إلى بعض الآيات الناظرة إلى مسألة الدعوة وكيفية القيام بها والأسلوب الواجب اتّباعه في هذا النوع وهذا الأسلوب من الدعوة – الشاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – فنقول مستعينين بالله الكريم :
قال الله العظيم : “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” – سورة النحل : ١٢٥ – هذه الآية تبين لنا أسلوب الدعوة البيانية القولية والكتابية بمختلف مراتبها وأساليبها لمختلف الطبقات الفكرية ومراتب الناس العقلية حيث تقسّم الدعوة إلى ثلاثة أقسام لثلاث طوائف من الناس – و يمكن اجتماع هذه المراحل لطائفة واحدة منهم فقد يكون البعض ممن يُخاطَب بإحدى هذه المراحل بحسب الظاهر وبحسب موقعه الفكري وشأنه الاجتماعي إلا أنه لا يتأثر ولا يقبل الحق العقدي والمعرفي ولا يرتضي أن يتخلق بالفضيلة الأخلاقية ولا يتقبل أن يكون مطيعا لله جل و علا غير مرتكب للمعاصي – أو غير متجاهر بها على أقل تقدير – إذا تم خطابه بما يناسبه من حيث العقلانية ودرجته العلمية والفكرية والثقافية فنحتاج إلى الدعوة بأسلوب آخر ومرحلة أخرى من المراحل المذكورة في الآية الكريمة والخلاصة أن هذه المراحل قابلة للجمع لبعض أفراد المجتمع، نعم من الممكن أن يكون في الناس من لا يتمكن وقوته العقلية لا تساعده على إدراك بعض المراحل والأساليب الواردة في الآية الكريمة كما سنشير إليها فلا يمكن دعوته إلى سبيل الرب بما لا يطيقه فكريا فيلزم مخاطبته بقدر عقله كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم” – المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي رض ج١ ص١٩٥ الحديث١٧ -، وفي رواية أخرى : “إنا معاشر الأنبياء أُمِرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم” – الكافي للشيخ الكليني رض ج١ ص٢٣ كتاب العقل والجهل الحديث١٥ – فالتكلم مع الناس على قدر عقولهم أمرٌ إلهي فالله تعالى يعلم أنه لا يمكن مخاطبة الجاهل ومن لا يحظى بالعلم أو بمرتبة عالية منه ومن العقل والإدراك العقلاني، كمخاطبة العالم والفيلسوف و.. (ولا يخفى عليكم أن لهذه الرواية – أي رواية مخاطبة النبي للناس على قدر عقولهم – جوانب مختلفة منها أنه لا يوجد في الناس من حيث الإدراك العقلي من يكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من هو بمنزلة نفس النبي وهو أمير المؤمنين وسائر المعصومين بالعصمة الكبرى صلوات الله عليهم أجمعين فمن مقاصد الحديث الأساسية هو بيان كمال عقل النبي وعلوّ درجة العقلانية فيه صلى الله عليه وآله وسلم بحيث لا يدانيه أحد من الخلق ما لم يكن من مصاديق “وأنفسنا” في آية المباهلة ولهذا ورد في صدر الحديث الذي نقلناه عن الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : “ما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله العباد بكنه عقله قطّ” ثم ينقل الإمام الصادق عليه السلام الحديث المذكور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا من أهم مقاصد الحديث إلا أنه يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق أيضا فيستخدم الأنبياء أساليب مختلفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولدعوة الناس إلى الحق و الفضيلة كل حسب درجة عقله وقوة إدراكه العقلاني ومستوى علمه وثقافته و..) فيلزم أن تكون الدعوة مناسبة لمستوى المخاطب ومتناسبة مع علمه وعقله وعمق إدراكه ولا ينحصر ذلك – رعاية المراتب – في الدعوة إلى الحق والفضائل والصالحات بل يشمل الحساب يوم القيامة أيضا بمعنى أن الدعوة في الدنيا والمداقّة في الحساب في يوم الجزاء كلتاهما على قدر العقول ففي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : “إنما يُدَاقُّ اللهُ العبادَ في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا” – المحاسن للباقي رض ج١ ص١٩٥ الحديث١٦ –
وعلى أية حال وبالرجوع إلى الآية الكريمة نجد أن للدعوة القولية – الشاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان بينهما فرق من حيث أن الدعوة عادة تكون قبل قبول أصل الدين، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد الإيمان بأصل الدين فتكون الدعوة لأصل الإيمان والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر للالتزام العملي بما آمن به وبلوازم إيمانه – حسب هذه الآية الكريمة ثلاث مراتب وهي :
أ – الحكمة : المرتبة الأولى الدعوة بالحكمة والظاهر أن المقصود من الحكمة البرهان والدليل العقلي أو النقلي أو العلمي القاطع – إلى جانب الكلمات الحكيمة والهادفة مضافا إلى التصرف الحكيم و اتّخاذ الأسلوب الجميل الجاذب إلى الحق غير المنفِّر عنه – قال العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف – بعد نقل كلام الراغب الاصفاني في تفسير الحكمة وكلام بعض اللغويين في تفسير الموعظة و الجدال – : “والتأمل في هذه المعاني يعطى أن المراد بالحكمة والله أعلم الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا ابهام” الميزان ج١٢ ص٣٧١ ، فالحجة و البرهان القاطع الموجب لزوال الشك ولا يُبقي مجالا للارتياب فضلا عن الإنكار وإذا ارتاب فيه أحد أو أنكره عدّه العقلاء عنادا ومكابرة على الحق، هذه الحجة وهذا البرهان بهذا الوصف هي الحكمة التي يلزم اتّباعها في الدعوة إلى الحق والفضيلة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
والمُلاحظ في الآية الكريمة هو أنها ذكرت الحكمة مطلقة من دون تقييد بالحُسن أو الأحسنية بينما قُيِّدت الموعظة بالحُسن كما قُيِّد الجدال بالأحسنية، و سنشير إلى وجه لزوم كون الموعظة والجدال مقيدَين بذلك وأما بالنسبة للحكمة فقد قال بعض العلماء رض أن قيد “الحسنة” راجع إلى كلا الأمرين أي الحكمة والموعظة فيكون المعنى : “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة والموعظة الحسنة” إلا أن عود القيد إليهما معا خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة صارفة عن اختصاص القيد بالأخير ولا توجد في الآية قرينة دالة على ذلك بل يمكن القول بوجود القرينة على الاختصاص كما سنشير، ومن المفسرين من ذكر الوجه في تقييد الموعظة و الجدال وأما بالنسبة للحكمة فلم يشيروا إلى وجه الإطلاق وإنما قالوا أن الحكمة مأذون فيها بجميع أقسامها دون الموعظة والجدال، نعم ذكر في صدر كلامه قدس سره الشريف أن التقييد يدل على أن من الموعظة ما هو حسن وما ليس كذلك ومن الجدال ما هو حسن وما هو ليس بحسن والحسن ما هو أحسن وما ليس بأحسن، والظاهر أنه أراد القول بأن الحكمة ليست كذلك فلا تنقسم إلى حسن وغير حسن فنقول أن هذا المستفاد من صدر كلامه حق وصحيح حيث أن الحكمة – وكما قلنا – هي الحجة والبرهان القاطع الذي لا يبقى معه الريب ولا يُبقي محلا للارتياب والإنكار فلا يتصور أن يكون من الحكمة ما هو سيّء وغير حسن لا سيما إذا أخذنا ما أشرنا إليه في بيان معنى الحكمة في بداية الكلام بعين الاعتبار حيث قلنا أن الحكمة هي ما أشرنا إليه مضافا إلى الكلمات الحكيمة الهادفة التي تصدر أحيانا من العقلاء وكذا الأسلوب الجميل الجاذب إلى الحق و.. وإذاكانت الحكمة هي الحجة القاطعة مع الكلمات الحكيمة الهادفة والكلام الجميل الجاذب للحق والفضيلة، لم يُتَصَوَّر فيها غير الحُسن و الجمال لأنها متقوِّمة بحُسن المعنى والمظهر فما تكون حقيقتُه في المضمون والمظهر الحُسن لا يمكن أن يتصف بغير الحُسن حتى يحتاج إلى التقييد، والظاهر أن هذا هو السبب في عدم تقييد الحكمة في الآية بالحُسن أو الأحسنية ..
وعلى أية حال المرتبة الأولى من الدعوة بالبيان والبنان هي الدعوة بالحكمة والبرهان والحجة القاطعة المتضمنة لقوة الاستدلال وجمال البيان والمشتملة على الكلمات الحكيمة الهادفة وهذه المرحلة من أهم مراتب وأساليب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أننا – و كما سبقت الإشارة إليه – لا نتمكن من انتهاج هذا الأسلوب وهذه المرتبة لجميع الناس لاختلاف الناس في العلم والعقل واستيعاب المطالب العلمية والاستدلالات العقلية كما أن هناك من يعاند ولا يتقبل البراهين و إن كان عاجزا عن ردها علميا ومنطقيا فلا تؤثّر فيه البراهين فيلزم انتهاج الأساليب الأخرى المذكورة في الآية و التي سنبينها في الجزء التالي إن شاء الله تعالى .. يتبع ..
أيوب الجعفري
يوم السبت ٣٠ صفر ١٤٤٥ ق
الموافق ١٦ / ٩ / ٢٠٢٣ م