ما المقصود من الأم والأمة في استعمالاتهما المختلفة في القرآن الكريم؟

وردني سؤال بشأن استعمالات لفظ “الأم” و “الأمة” في القرآن الكريم وهل هناك ارتباط بين هذه الاستعمالات في الموارد المختلفة؟ والجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأُم مأخوذ من أَمَّ يَؤمُّ بمعنى قصد يقصد و تسمى الأم أُمّا لأنها مقصد الأولاد فيقصدونها في أفراحهم وأحزانهم و.. ومنه قوله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمِّين البيت الحرام ..” فقوله جل وعلا : “آمّين” جمع آمّ وأصله آمِمٌ على وزن فاعِل (فأُدغمت الميم الأولى في الثانية بعد تسكينها)فهو اسم فاعل من أمَّ يؤمُّ بمعنى قصد يقصد، فآمّين – بتشديد الميم لا بالميم المخففة فإن آمِين بتخيف الميم اسم فعل بمعنى اسْتَجِبْ ولا علاقة له بمشتقات كلمة الأمّ- بمعنى قاصدين أي الذي يقصدون البيت الحرام .. كما أن قوله تعالى : “فأمّه هاوية” يعني أن مقصده وما ينتهي إليه أمره هو جهنم .. وقوله تعالى : “لتنذر به أُمّ القرى و من حولها” أيضا بنفس المعنى لأن المقصود من أم القرى مكة المكرمة وفيها البيت الحرام الذي يقصده الناس للحج والعمرة – والقول أن أُمَّ القرى بمعنى الأصل (أصل القرى) لأن الكعبة (أو موضعها)أصل اليابسة وبعد خروجها من الماء دُحيت وانبسطت الأرض من تحتها، فهو قول صحيح ايضاً إلا أن معنى الرجوع والقصد مأخوذ في الأصل أيضاً فاليابسة من الكرة الأرضية يرجع أصلها إلى مكة المكرمة بشكل عام والكعبة المشرفة على وجه الخصوص .. وقوله جل وعلا : “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أُمّ الكتاب وأخر متشابهات” فالمحكمات من آيات القرآن الكريم أم الكتاب أي أنها هي المرجع التي يجب قصدها في معرفة معارف الدين وكذا في تفسير المتشابهات حيث أنه يمكن تفسير المتشابهات بإرجاعها إلى المحكمات فيمكن إرجاع جميع الآيات التي يُستَشمّ منها التجسيم مثلاً إلى قوله تعالى : “ليس كمثله شيء” وقوله جل وعلا : “لا تدركه الإبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” ولو كان جسماً لكانت الموجودات المادية مثلَه – و عوذاً به – في كونه جسماً مركباً – على أقل تقدير – وهو منافٍ لقوله تعالى : “ليس كمثله شيء” وقوله جل وعلا : “لا تدركه الإبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” مضافاً إلى منافاته لتجرده المطلق وبساطة ذاته المتعالية التامة من جميع انواع التركب، واستحالة كونه مركباً – بأي نحو من أنحاء التركب – بدليل القرآن والبرهان كما هو مُبَيَّنٌ في محله وقد أشرنا إليه في بعض الأجوبة، فالأصل في المعارف الإلهية والمرجع الذي يلزم أن نقصده في معرفة الدين وكذا في تفسير المتشابهات هو محكمات الآيات فهي أم الكتاب ..

فيرجع معنى الأم في جميع الموارد إلى المقصد ولكن يستعمل في كل مورد بمناسبة خاصة قد أُخذ فيها معنى القصد والمقصد ..
وأما الأمة فلها اطلاقات متعددة منها حقيقية ومنها مجازية فهي تُطلَق على :
١ – جماعة من الناس كقوله تعالى : “ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون” سورة المؤمنون الآية ٤٣ ومثلها الآية التالية .
٢ – شخص واحد (وذلك فيما إذا كان ذلك الشخص عظيماً جامعاً لفضائل جمّة ولكمالاتِ كثيرٍ من الناس أو جميعهم كإبراهيم الخليل عليه السلام – إن إبراهيم كان أمة قانتا لله .. -) .
٣ – مدة طويلة من الزمان كقوله تعالى : “وادّكر بعد أمة” أي بعد سنوات، وقوله جل وعلا : “ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة” أي إلى فترة معلومة أو سنين معدودة ..
٤ – الملة والدين، وقد قيل أن المقصود من الأمة في قوله تعالى في سورة المؤمنون الآية ٥٢ وهي قوله تعالى : “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون” – وكذا في سورة الأنبياء الآية ٩٢ وهي قوله تعالى : “وإن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” – هو الملة والدين ..
والظاهر ان كثيراً من هذه المعاني مجازية والمعنى الحقيقي هو الجماعة التي لها مقصد واحد وبهذا المعنى يكون المقصود من أمة واحدة بحسب الواقع – أي من يصدق عليهم الأمة الواحدة في سورتي المؤمنون والأنبياء، بحسب الحقيقة والواقع – هم جميعَ الناس – لا المسلمين خاصة – حيث أن إله الجميع وربهم واحد وهو خالق السموات والأرض فيلزم أن يكون هو من يُتّقى كما في سورة المؤمنون، وهو من يُعبَد كما في سورة الأنبياء لأن المشركين أيضاً عندما يعبدون غير الله تعالى فإنما يعبدونها لأنهم يرونها أرباباً تدير وتدبر شؤون الكون أو بعض شؤونه ويرون أن بيدها النفع والضر وأنها تتمكن من إيصال النفع والضرر إلى العباد فيعبدونها لتنفعهم ولا تضرَّ بهم، ولكن القرآن ينفي أن تكون الأفلاك أو الأصنام أرباباً بيدها الخير والنفع والشر والضرر بل الله هو الرب لا رب سواه فلا ينفع ولا يضر إلا هو وهو النافع الضار فبناءً على هذا يلزم أن يكون مقصد الجميع واحداً وهو الله تعالى فيعبدوه دون من سواه ويتقوه دون مَن عداه فالناس جميعاً بهذا المعنى أمة واحدة وإن انحرف من انحرف وضل من ضل ..

وهذا إشارة لتفسير بعض جوانب آية المؤمنون والانبياء ولها جوانب أخرى قد ذكرناها في بحثنا التفسيري – في تفسير سورة المؤمنون – وليست محط البحث في هذا الموضوع ..

أيوب الجعفري
يوم الثلاثاء ٢١ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ٨ / ٥ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary