ضرورة الجمع بين التبشير و الإنذار في الدعوة إلى الدين و الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
وردني ملف صوتي يتحدث فيه أحدهم ويقول من هذا الإله الذي تعرّفون الناس به؟ فالله كريم و غفور ولا يمكن أن لا يعفو، وعفوه بمرتبة يطمع إبليس في رحمته يوم القيامة مع أن اسمه “إبليس” وهو من الإبلاس بمعنى اليأس وإبليس يعني شديد اليأس و.. فهل يعقل أن يعذب الله تعالى عباده في النار وإذا عطشوا يسقيهم من الحميم و.. ؟ مَن هذا الإله الذي لا يمكن أن نسأله ولا يمكن الإعتراض عليه؟ فيقول أن ذلك خطأ ونحن لم نبيّن للناس من هو الله بشكل صحيح فالله كريم والكريم يعني من لا يتمكن من أن لا يعفو، ويقول أن الذنب ظلم بأنفسنا وليس ظلما لله لأنه لا يمكن أن يظلم اللهَ أحدٌ فهل يُعقل أن يعذبنا لأننا ظلمنا أنفسنا؟ ويكرر أمثال هذه العبارات ..
فكتبت في جوابه ما يلي :
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كلامه غير دقيق وفي بعض موارده غير صحيح بل يؤدي بعض ما ذكره إلى الشرك إذا كان مع الإلتفات .. فالله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ولكنه أشد المعاقبين أيضاً في موضع النكال والنقمة، والدنيا دار امتحان وتكليف وهو تعالى قد خوّفنا من النار كما أطمعنا في الجنة فهو من قال عن قيام القيامة – وهو من مقدمات نفس القيامة والقيامة من مقدمات دخول النار أو الجنة – : “يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد” وهو من قال : “لهم شراب من حميم وعذاب أليم” وقال : “كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب” و… كما أنه وعد بالجنة والحور العين والرضوان الذي هو أكبر من النعيم المتعلق بالجانب الجسماني لأنه – أي الرضوان – جنة الروح والروح أشرف بُعدي وجود الإنسان بل حقيقتُه ولولا الروح لما كان هذا الموجود إنساناً و.. وكل ذلك الوعد والوعيد لأجل أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء فلا يدعوه الخوف المحض إلى اليأس من رحمة الله ولا يجرُّه الطمع الخالص إلى الأمن من مكر الله لأنهما – أي اليأس والأمن – كليهما من أكبر الكبائر بل من مفاتيح سائر الكبائر كما لا يخفى، فلا يمكن أن يقال أنه لا عذاب ولا … بحجة أن الله أرحم الراحمين وأن الشيطان أيضا يرجو رحمته، فإن هذا الكلام إذا أصبح عقيدة دعا إلى ارتكاب المعاصي والذنوب مع الأمن من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .. فيلزم أن لا نعصي مضافاً إلى أنه يجب أن لا نيأس من روح الله جل وعلا كما أن علينا ألّا نأمن مكره جلا جلاله ..
وأما قوله أن الله تعالى كريم والكريم يعني من لا يتمكن أن لا يعفو فهو ايضاً غير صحيح فإن الكريم هو من يعطي من يستحق ومن لا يستحق بما يستحق وبما لا يستحق لا أنه لا يعذب من يستحق العذاب ولا أنه لا يتمكن من أن لا يعفو، كيف وقد قال عز من قائل : “إن الله لا يغفر أن يشرك به” فيمكن أن لا يغفر ، والاستدلال باننا قد ظلمنا أنفسنا ولم نظلم الله فلا يمكن أن لا يعفو عنا، غير صحيح لأن المشرك ايضاً لم يظلم الله بل ظلم نفسه لأنه لا يمكن أن يُظلم الله تعالى فإن الظلم يعني الانتقاص ولا يتمكن أحد أن ينتقص شيئاً من الله وأن يأخذه منه جبراً ويسلبه حقه كُرهاً، ومع ذلك قد أخبر الله تعالى بأنه لا يغفر الشرك وإن أمكن أن يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولكن لا إلزام في العفو والغفران بل إن تاب المذنب أو شملته الشفاعة أو كانت حسناته أكثر من سيئاته أو فعل ما يستحق معه العفو – وذلك بوعد الله تعالى بالعفو لأجل ذلك – و .. ، عفا عنه وإلا فلا ..
فإذا كان الذنب ظلماً بالنفس فإنما هو ظلم بها لأسباب منها أن الذنب يوجب العقاب وإذا ارتكب العبد شيئاً يوجب العقاب فقد ظلم نفسه، فنفس استحقاق العقاب لأجل المعصية دليلٌ أو من أدلة كون الذنب ظلماً بالنفس لا أن كون الذنب ظلماً بالنفس سبب لعدم استحقاق العقاب كما يظهر بأدنى تأمّل ..
هذا والجدير بالذكر أن الناس كما ورد في الروايات من حيث عبادتهم وطاعتهم لله تعالى ثلاث طوائف فمنهم من يعبد الله تعالى خوفاً من ناره التي هي مظهر غضبه جل وعلا وهي عبادة العبيد والكثير من الناس من هذه الطائفة ولولا النار لما اطاعوه وما عبدوه سبحانه وتعالى، ومنهم من يعبده طمعاً في جنته التي هي مظهر رحمته جل جلاله وهذه الطائفة أيضاً كثيرون ولولا الجنة لما أطاعوه وما عبدوه، ومنهم من يعبد الله تعالى لأنه أهل للعبادة فعبادتهم عبادة الأحرار المتحررين من عبودية من سوى الله ومن قيود العبادة لأجل دوافع ودواعي وغايات غير الله جل وعلا فسواء كانت هناك جنة ونار أم لا، فهم يقومون بواجب الطاعة والعبادة وإن لم تكن واجبة بمعناه الفقهي، لكونه أهلاً لها لأنه الخالق المالك للجميع بالملكية الحقيقية المطلقة كما قال حبيب النجار في سورة يس : “وما لي لا أعبد الذي فطرني” فكونه تعالى فاطرَه كافٍ في أن يعبده ولا يعبد سواه ولا داعي لوجود النار والجنة و لا لوجود الأمر بالعبادة كي يعبده كما ورد ذلك عن الأئمة المعصومين عليهم السلام أيضاً، نعم سائر الناس ينطبق عليهم قوله تعالى حكايةً عن حبيب النجار بعد كلامه ذلك : “وإليه تُرجَعون” فرجوعهم إلى الله للحساب والجزاء بالجنة أو النار هو السبب والداعي لهم لأن يعبدوه، وأما من يعبد الله تعالى لأنه أهل للعبادة فهم الأقلون وهم الكُمّل من عباد الله المعصومون عليهم السلام ..
فإذا كان كذلك لم يُعقل من العليم الحكيم على الإطلاق أن يدعو الناس إلى التوحيد والطاعة والعبادة بما لا يؤثر في الأكثرية منهم، فلو اكتفى في الدعوة إلى الدين والتوحيد والطاعة وعبادة رب العالمين بذكر الجنة والرحمة فقط لما ارتدع من لا يرتدع إلا بالخوف من العذاب ولما عَبَدَ اللهَ من لا يُحَرِّكُهُ نحو الطاعة والعبادة سوى الخوف وهم غالبية الناس وبذلك تكون الدعوة و أساليبها ناقصة ويكون الدين عاجزاً عن دعوة الجميع إلى ما يريد دعوتهم إليه من التوحيد والطاعة والعبادة وسائر ما يريده منهم في سبيل تحصيل الكمالات والفضائل، فكمال الدين أو من جملة عناصر كون الدين كاملاً هو أن يدعو الجميع بجميع الأساليب الممكنة لتعم الدعوة جميع المكلفين فيدعو من يخاف النار بالوعيد بها ومن يطمع في الجنة بالوعد بها وأما من يعبد الله تعالى لأنه أهل للعبادة فأولئك هم الكُمّل من عباد الله تعالى وهم يعبدونه من دون حاجة إلى دعوتهم بل هم الدعاة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وهم ينادون ويعلنون حبهم لله تعالى وإن أُدخلوا النار كما قال أمير المؤمنين عليه السلام – وكذا سائر الأئمة عليهم السلام – في المناجاة الشعبانية : “وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها اني أُحبك” وقال في دعاء كميل : “فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك .. ” ..
وبذلك يتبين ضرورة الدعوة بالإنذار والتخويف كضرورة الدعوة بالتبشير والتشويق وأن الدعوة بالتخويف والإنذار علامة كمال الدين في أساليبه الدعوية لا نقصها فلا يمكن التنقيص من الدين لأجل ذلك بل الأمر على العكس من ذلك تماما فإن عدم وجود هذا الأسلوب وعدم وجود العذاب والنار علامة النقص وموجب للتنقيص ..
وأما الإعتراض على الله فليس له معنى معقول، فمن الذي يريد أن يعترض عليه؟ وبم يعترض عليه؟ ولِم يعترض عليه؟ و كيف يعترض عليه؟ و.. أيعترض عليه من هو مِلكٌ طِلْقٌ له تعالى؟ أيعترض عليه أن أنعم عليه بكل النعم وحتى وجوده وحياته وجميع قواه الظاهرية والباطنية التحريكية منها والإدراكية؟ .. أيعترض عليه لأنه أرسل له الرسل وبيّن له طريق الهداية والغواية؟ أيعترض عليه الجاهل الذي لا يعلم ما يعلمه الله تعالى؟ وقد قال جل وعلا : “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء” وقال الإمام الحسين عليه السلام : “إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي” .. فكيف يمكن لعاقل أن يتصور أنه يمكن الإعتراض على الله تعالى بل السؤال منه بمعنى السؤال الذي يكون فيه نوع من ادّعاء العلم قبال الله تعالى فيتصور السائل أن فعلاً من أفعال الله تعالى لا ينطبق على الحكمة مثلاً وقد قال تعالى : “لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون” لأنه لا يتصور خُلُوُّ فعلٍ من أفعاله عن الحكمة علمناها أم لم نعلمها فلا يمكن السؤال بهذا المعنى فكيف بالإعتراض – وللآية تفاسير أخرى لسنا بصدد بيانها لخروحها عن موضوع كلامنا – .. بل غير المعصوم لا يتمكن من الإعتراض على الإنسان المعصوم لأنه لو اعترف بعصمته لم يحق له أن يعترض عليه لأن الإعتراض ينقض اعترافه يعني أنه إذا أعترض فقد ادعى عدم العصمة لأن الإعتراض يكون على الخطأ أو المعصية وقد اعترف أنه معصوم، فالإعتراف بالعصمة يعني الإعتراف بأن الإعتراض على المعصوم باطل، والإعتراض عليه يعني ادعاء عدم عصمته فهما – أي الإعتراف بالعصمة والإعتراض على من اعترف بعصمته – متنافيان لا يجتمعان، فكيف بالله تعالى الخالق للمعصومين والعاصم لهم من الخطأ والزلل والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض والذي يعلم السر وأخفى والذي يعلم مصلحتنا و .. وقد ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : قال الله تعالى : “يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك” ..
فقول المتحدث من أنه : “أيّ إله هذا الذي لا يمكن السؤال منه ولا يمكن الإعتراض عليه؟” كلام باطل جملة وتفصيلا، ولا يمكن دعوة الناس إلى الدين بمفاهيم خاطئة بل هي شركية إن كان الناطق بها ملتفتاً إلى ما يقول ..
موفقين لكل خير ..
أيوب الجعفري
ليلة الخميس ٢٣ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ١٠ / ٥ / ٢٠١٨ م
https://telegram.me/ayoobaljafary