القرآن كتاب عربي أصيل و ليس ترجمةً ومنقولاً من ثقافاتٍ أخرى :

أحد المؤمنين :

السلام عليكم شيخناالحبيب الغالي …
معذرة على مزاحمتكم … هل ممكن الجواب على (الاشكال) الموضوع التالي بشكل مفصل(كبحث) ؟
لماذا يقول القرآن ( انا عربي ) هل لأنه يريد أن يقول (أنا مترجم)ومنقول من ثقافة اخرى؟
كل الشكر والتقدير لكم .
_______________________________________________


الجواب :

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن الكريم كتاب سماوي نزل على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعظم الأدلة على رسالته صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أعظم المعجزات من جهات كثيرة كما سنشير إلى بعضها لاحقاً بعون الله تعالى مضافاً أنه قد حُقِّق في محله أن المُعْجِزَ القولي أعلى وأهم من المعجز العملي الذي يتصرف في الكون و يُغَيّر الواقع الخارجي ..

وأما كونه باللغة العربية : فليس فيه دلالة على كونه مُتَرْجَمَاً من لغة أخرى لأنه اولاً لا محيص عن أن يكون الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى بلغة من اللغات فإن اللغة وسيلة تفهيم المعاني والمطالب وتَفَهُّمِها وقد جعلتها البشرية وسيلةً للتفيهم والتفهُّم من قديم الأيام – سواء قلنا أن واضع اللغات هم البشر انفسهم أم قلنا أن الواضع هو الله تعالى مباشرة أو بطريق غير مباشر، وتحقيقه موكول إلى محله كعلم أصول الفقه -، نعم من الممكن أن يتم تفهيم بعض المطالب الجزئية بطرق أخرى كالإشارة إلا أن الإشارة مضافاً إلى صعوبتها لا تتمكن من إيصال جميع المعاني والمطالب حتى الجزئية منها لجميع الناس فكيف بالمطالب المعرفية والدقائق العلمية والأبحاث الفكرية و.. والدين لا يريد أن يسلك طريقاً صعبا عسيرا في فهم مطالبه حتى الجزئية منها وما يمكن فهمه ولكن يحتاج إلى وقت ومجال واسع فيضيع الوقت وتفوت فُرَصُ التكامل والحركة نحو المعرفة و.. فما دام هناك طريق سهلٌ مُعَبَّدٌ وسريع لإيصال العقائد والأحكام وسائر معارف الدين إلى للجميع، لم يبق داعٍ لإيصال المطالب بطريق لا يفهمه جميع المكلفين وما يفهمه بعضهم ليس هو جميع ما كُلِّفوا به وبمعرفته، بل لا يُعقل سلوك هذا الطريق لا سيما إذا أخذنا كثرة المعارف (بل عدم تناهيها لأن مُتَعَلَّقَ المعرفة غير متناهٍ) وعمقها ودقتها في كثير من الاحيان بعين الاعتبار ..

فإذا كان ضرورة تفهيم المطالب والمعارف باللغة والعبارات والألفاظ أمراً مسلَّماً فلا محالة ستكون تلك اللغة إحدى اللغات المتداولة بين الناس، فبأية لغة كانت وقصد القرآن بيان معارفه بها لزم أن يذكر تلك اللغة وبما أن القرآن قد نزل باللغة العربية فإذا أراد أن يُخبِر عن لغته لزم الإخبار عنه بأنه بهذه اللغة ولا يمكن أن يقول أنه بلغة فارسية مثلا، فالإخبار عنه أنه باللغة العربية لا يدل على أنه مُتَرْجَمٌ من لغة أو ثقافة أخرى بل هو بيان لواقع الأمر في لغة القرآن، كما أنه إذا كان كتاب المسيح عليه السلام (وهو الإنجيل) باللغة العبرانية وورد فيه أنه بلغة عبرانية لم يَدّعِ أحد أنه يدل على كونه مترجَماً ومأخوذاً من ثقافة أخرى ..

ومن جانب آخر : لا يقول القرآن أنا عربي ولا نجد هذا المضمون في آية من القرآن الكريم، بل الوارد فيه أن الله تعالى قد أنزله أو أوحاه أو جعله بلسان ولغة عربية ففي سورة الشعراء الآيات ١٩٢ – ١٩٥ : “وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ..” وفي سورة الشورى الآية ٧  : “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ” وفي سورة الزخرف الآية ٣ : “إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” و …

فالآيات تدل وبكل وضوح على أن القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله جل و علا باللغة العربية وأن الله تعالى قد أوحاه إلى النبي باللغة العربية وأنه هو من جعله باللغة العربية لا أنه مأخوذ من ثقافة أخرى  ..

هذا وقد أجاب القرآن على ادعاء كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تعلم القرآن من غيره بأن ذلك الغير أعجمي فكيف له أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو في قمة الفصاحة والبلاغة العربية – والعربي يعني الكلام الواضح الفصيح وتوضيحه يتطلب مقاماً آخر ولكن أقول هنا بإشارة عابرة : أن من جملة معاني قوله تعالى في سورة طه : “وكذلك أنزلناه حكماً عربياً” هو كونه حكماً واضحاً لا حكما بلغة عربية فإن الحكم لا يدخل في نطاق اللغة وإن تم بيانه بلغة من اللغات ولكن الحكم – في هذه الآية – بنفسه موصوف بكونه عربياً فهو حكم واضح لا غبار عليه ولا غموض ولا إبهام فيه؛ وإن أمكن تفسيره بأنه حكم منزل أو مُبَيَّنٌ بلغة عربية أيضاً ..- ، نعم قد أجاب الله جل وعلا عن كون القرآن الكريم من تعليم الغير بقوله تعالى في سورة النحل الآية ١٠٣ : “وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ” – وهناك أقوال مختلفة فيمن كانوا يلحدون إليه ويميلون إلى أنه هو مُعَلِّمُ النبي ولا داعي للتطرق لها هنا لعدم مدخليته في موضوع الكلام والمهم أنهم كانوا يدّعون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعلم القرآن من غيره وعندما نرجع إلى ذلك الغير نجده أعجمي لا يفصح (فالأعجمي كما في مجمع البيان هو الذي لا يفصح وإن كان عربياً كما أن العجمي هو المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً، فسيبويه مثلاً عجمي وليس أعجمياً) فالذي كانوا يلحدون إليه أعجمي سواء كان عجمياً أو من العرب الذين لا يفصحون فكيف يمكن أن يكون الأعجمي هو من يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكلامَ العظيمَ في فصاحتِه وبلاغتِه الرفيعَ في معارفه وبيّناته؟ ..

هذا؛ وقد كان المشركون يتذرعون بكل الذرائع وبكل ما لديهم من قوة وحيلة لنفي وَحَيَانِيّةِ القرآن الكريم فادعاؤهم أنه : “إنما يُعَلّمه بشر” كان يهدف هذا الأمر ولهذا يقول القرآن الكريم أنه لو نزل القرآن على بعض الأعجمين لما آمن به هؤلاء حيث قال تعالى في سورة الشعراء الآية ١٩٨ و ١٩٩ : “وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ” كما أنه لو أنزله الله تعالى بلغة الأعجمين لطلبوا التفصيل والشرح بلغة عربية فصحى وهذا ما يتطرق له مع جوابه قولُه تعالى في سورة فصلت الآية ٤٤ : “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ” وقد أشارت هذه الآية إلى أن هؤلاء ليست مشكلتهم لغة القرآن بل المشكلة هي أنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولهذا يبحثون عن الأعذار ويتذرعون بكل ذريعة لنفي كون القرآن الكريم وحياً إلهياً وذلك في قوله تعالى : “.. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ”  ..

وهنا تجدر الإشارة إلى حكمة كون القرآن باللغة العربية فنقول : ما يمكن فهمه من القرآن الكريم مضافاً إلى ما يتبادر إلى الذهن في حكمة كونه عربياً – مع ما سبقت الإشارة إليه من الحيلولة دون احتجاجهم بعدم فهم لغة الرسول المرسل إليهم والكتاب المنزل عليه – أمران، الأول : إن الرسالات الإلهية تنزل بلغة القوم الذي أرسل فيه صاحب تلك الرسالة وإن كان مبعوثاً لأصحاب تلك اللغة وغيرهم بل ولجميع المكلفين من الجن والإنس – كأولي العزم من الرسل – ولكن النبي والمرسل إلى قومٍ ما، يواجه ذلك القوم في بداية رسالته فلا يتمكن من أن يتحدث معهم بلغة لا يفهمونها فإن ذلك يجعل رسالته بتراء بل لاغية بلا حكمة ولا هدف حيث أن القوم لا يفهمون لغة الرسول وكتابِه فلا يؤمنون به ويجعلون ذلك عذراً لأنفسهم في عدم إيمانهم فإذا لم يؤمن قومه به لم يؤمن به سائر الأقوام أيضاً أو يصعب أن يؤمنوا به ولهذا يلزم أن تكون لغة الدين بلسان قوم النبي المرسل إليهم ليتمكن من إبلاغ الرسالة وتبيينها لهم من دون حاجة إلى الترجمة التي لا تكون موصلة لتمام المعنى المقصود في أغلب الأحيان ولا سيما إذا كان متعلقاً بالمعارف العميقة خصوصاً إذا أخذنا وجود مصطلحات وأمثال تُستعمل في لغة وليس لها معادل في سائر اللغات، بعين الإعتبار حيث أنها تحتاج إلى وقت موسع للبيان وهذا ما يفوّت على الرسول الفرصة لتبيين جميع الاحكام والمعارف والعقائد و.. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية الرابعة من سورة إبراهيم حيث قال جل وعلا : “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” فهذه الآية مضافاً إلى الإشارة إلى أن الغاية أو من جملة غايات إرسال الرسول بلغة قومه هي تبيين ما نُزِّل إليهم، تُخْبِرُنا بأن الله تعالى لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه ولم يستثن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه القاعدة وقد قال تعالى في موضع آخر : “قل ما كنت بِدْعَاً من الرسل” فيتبين أولاً أن سنة الله تعالى في إرسال الرسل هي أن تكون لغة كل رسول هي اللغة التي يتحدث بها قومه المرسل إليهم، وثانياً أن القرآن قد نزل باللغة العربية وليس ترجمةً لثقافات أخرى …

والأمر الثاني هو أن الدين الإسلامي هو آخر الأديان وأكملها وسيبقى إلى يوم القيامة وسيكون في قادم الأيام بعد ظهور الحجة مهدي الأمة عجل الله تعالى فرجه الشريف، الدينَ الرسمي للعالم بأسره – وإن بقيت قلة قليلة من اليهود والنصارى على دينهم كما يستفاد من بعض الآيات على بعض التفاسير – وإذا كان هذا الدين هو الدين الأخير والخاتم لجميع الأديان وهو الأكمل على الإطلاق فمن الطبيعي أن تكون لغته ايضاً أكمل اللغات ونعلم جميعاً أنه لا توجد لغة أكمل من العربية بل هي الأكمل من جميع اللغات على الإطلاق وهذا ما يشهد ويُقِرُّ به جميع من له إلمام باللغة العربية وإن كان هو من أهل سائر اللغات ولسنا هنا بصدد بيان ذلك والبرهنة عليه بذكر ما جعلها أكمل وأوسع اللغات .. وبذلك يكون القرآن الكريم الذي هو منشور ولاية الله تعالى أكمل الكتب السماوية – وبالنتيجة هو أكمل الكتب الأرضية أيضاً – من جميع الجهات حتى من الناحية اللفظية و من حيث اللغة والعبارات ..

ومن جهة أخرى : القرآن الكريم لا ينحصر إعجازه في ألفاظِهِ وعباراتِهِ واللغةِ التي يتحدث بها حيث أنه من الواضح جدا أنه معجز في هذا الجانب بتمام ما للكلمة من معنى، بل إعجازه الأعظم والأهم في معارفه التوحيدية المنقطعة النظير والتي لا نجد لها مثيلاً حتى في الكتب السماوية – وقد أشرنا إلى جوانب من ذلك في بعض الأجوبة – كما أنه معجز في ملاحمه وإخباراته عن المغيبات وكذا في الجانب العلمي حيث أنه يشتمل على بيان أمور علمية لم يكتشفها البشر إلى ذلك الوقت وتم اكتشافها بعد قرون من الزمن بتطور العلوم التجريبية و غيرها وقد نُقل عن ابن عباس أنه قال : إن في القرآن آيات يفسرها الزمن ..

فلو افترضنا إمكان أن يكون القرآن ترجمةً من الثقافات الأخرى من حيث ألفاظه وعباراته فماذا نقول عن معارفه؟ من الذي كان يعرف هذه المعارف والملاحم؟ من الذي كان يعرف الأبحاث التوحيدية العميقة التي لا نجد لها مثيلاً حتى في الكتب السماوية فضلا عن غيرها ولم يعرف المسلمون مغازيها مع أنه قام أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمة المعصومين عليهم السلام ببيانها ومع ذلك لم يفهم ولم يتمكن الناس بل والعلماء منهم أن يصلوا إلى عُمق مقاصدهم في خطبهم التوحيدية وأدعيتهم المعمقة وزياراتهم المشتلمة على المعارف الدقيقة إلا بعد مُضيّ قرون ولمّا يصلوا إلى جميع تلك المقاصد؟ ومَن ذلك الإنسان المتطور علمياً والذي قد اكتشف قوانين علمية لم يكن البشر قد توصّل إليها إلى ذلك الوقت بل لم يكتشفها البشر إلا بعد قرون متمادية من الزمن؟ لا يمكن تصور ذلك إلا أن يكون جميع ذلك من الخبير العليم العالم بجميع حقائق الكون ومعارف الشرع، فإذا كان القرآن مشتملاً على هذه الأمور فمن غير المعقول بل من المستحيل عادةً أن يكون مِن عند غير الله تعالى فلا يمكن أن يكون ترجمة لغات ومن ثقافات أخرى ..

و الحمد لله رب العالمين

موفقين لكل خير  محروسين من كل سوء و شر  ..

أيوب الجعفري

ليلة الثلاثاء ١٤ شعبان المعظم ١٤٣٩ ه ق
الموافق ١/ ٥ / ٢٠١٨ م

https://telegram.me/ayoobaljafary