“المراد من “عملوا السوء بجهالة”
استفسار من أحد المؤمنين أدام الله عزهم :
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
سلام الله عليكم شيخنا الجليل. ما المقصود بكلمة “بجهالة” في الاية الكريمة، حيث ان فهمي القاصر يقول ان المقصود هنا ليس “بغير علم بالذنب” والجهل بانه الفعل من الذنوب على اعتبار ان الله لا يحاسب الجاهل غير العالم بالذنب. افيدونا جزيتم خيرا
——————————————————————
الجواب :
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس المقصود من الجهالة الجهل بالحكم الشرعي مقابل العلم به فالعاصي يعصي مع علمه بالحكم و أما الجاهل بالحكم المرتكب للمعصية لجهله بالحرمة و كونِ ارتكابه معصيةً فليس بعاصٍ ما لم يكن مقصرا في تعلم الحكم الشرعي، بل المقصود من الجهالة هو العمل الذي يصدر بلا تعقل و بغلبة الشهوة أو الغضب فإن الروايات تجعل الجهل قبال العقل لا العلم فنجد في الجوامع الروائية بابا بعنوان “كتاب العقل و الجهل” لا كتاب العقل و الجنون و لا كتاب العلم و الجهل، كما أن بعض الروايات تتحدث عن جنود العقل و الجهل لا جنود العقل و الجنون و لا جنود العلم و الجهل و…، فمن له عقل لا يستعمله في تشخيص المصلحة و فيما يوجب السعادة بل يُعمِله في سبيل الشقاء، جاهلٌ بتمام ما للكلمة من معنى – و إن كان ذلك في ظرف ارتكاب المعصية فقط – حيث أنه يرتكب ما يرتكبه الجهلة و إن كان أعلم العلماء بحسب الظاهر و على حد تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في النهج الشريف : “و آخر قد تسمّى عالما و ليس به فاقتبس جهائل من جُهّال و أضاليل من ضُلّال …” – و إن كان هذا الكلام شاملا للجهل في الجانب النظري أيضا – فمن جهة نرى أن هذا الإنسان لا يعرف اللهَ و عظمتَه تعالى فلهذا لا يشعر بالخشية في قلبه حيث أن الخشية – على بعض التفاسير – هي الخوف الناتج عن المعرفة بالعظمة، و من لم يشعر بالخشية لا يتقي و غير المتقي لا يتورع عن الذنب فتصدر منه المعصية و كل ذلك ناتج عن عدم المعرفة و هو نوع من الجهل و لهذا قال جل و علا : “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ” و قد تبين بما تمت الإشارة إليه أنه ليس المقصود من العلماء من تعلم العلوم الدينية أو غيرها بل المراد أهل المعرفة القلبية بعظمة الرب الكريم الموجبة للخشية المؤدية إلى التُّقى و التورع عن معاصي الله تعالى، نعم تعلُّم العلوم الدينية و غيرها أيضا قد يؤدي إلى خشية القلب إذا كان تعلمها عن بصيرة القلب الموجبة للانتقال من هذه العلوم و المعلومات إلى المعرفة بعظمة الخالق عن طريق أسمائه الحسنى و صفاته العليا و أفعاله الخارقة و كونه الواضع للقوانين العلمية الدقيقة في الآفاق و الأنفس، فإذا أدى تعلُّمُه للعلوم و المعارف الإلهية إلى هذه المعرفة بعظمة الرب الكريم تحققت الخشية لا محالة، فهذا الإنسان العارف بعظمة الله تعالى عاقل يتبع مقتضى عقله و يعمل بما يُمليه عليه عقلُه و لا يأتي – أو يحاول أن لا يأتي – بكل ما تُمليه عليه القوى الشهوية و الغضبية فإنه – أي الاتيان بكل ما تمليه هذه القوى من دون حكومة العقل عليها – جهل و جهالة و لهذا تُفسَّرُ الجهالة بغلبة الشهوة و الغضب …
هذا من جهة، و من جهة أخرى لا يعرف هذا الإنسان سوءَ عاقبة العصيان و لا ملكوت أعماله و أنها – أي الأعمال – هي بنفسها في ملكوتها النارُ و العذاب كما أن الأعمال الصالحة هي بنفسها الجنة و الثواب، فهو جاهلٌ من حيث المعرفة القلبية و إن علم الحكم الشرعي، و من جهة ثالثة : العاصي يعمل عمل الجهلة غير العقلاء فإن من جملة أبعاد العقل و العمل العقلاني هو الحساب و المقارنة بين مصالح الأعمال و مفاسدها و العاصي حين عصيانه لم يقم بهذه المحاسبة و المقارنة بين منافع المعصية و مضارها، بين مُلكها و ملكوتها، فعصيانُه – الناتج عن عدم المقارنة بين مضار العصيان و منافعه إن كانت له منافع – جهلٌ و جهالة حيث أنه قام بعمل جاهل لا يصدر إلا من الجهلة لترجيحه المنفعة الوهمية أو العابرة على المصلحة و المنافع الحقيقية بالنجاة من العذاب الحقيقي و الفوز بالنعيم الدائم و.. و مع ذلك نحد أن الله تعالى قد جعل باب التوبة مفتوحا أمامه فإذا تاب من قريب ( و في بعض الروايات أن القرب يعني قبل معاينة الموت و قبل مشاهدة أماراته ) تاب الله عليه و هي – أي التوبة – من أعظم مظاهر رحمة الله فيما يتعلق بالأعمال بل و العقائد أيضا و لهذا نجد أن الله تعالى تارةً يجعل قبول التوبة حقا على نفسه للتائب من قريب كما في قوله تعالى : “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما” فمع أنه لا يُتصوَّر أن يكون لأحد من الخلق حقٌّ على الله تعالى حيث أنه جل و علا هو المالك الحقيقي و المطلق لجميع من و ما سواه و هو المنعم بجميع النعم من أصل الوجود فما دونه على جميع الخلق بلا استثناء فلا حق لأحد عليه بل لا يُعقَل و لا يُتصوَّر ثبوت حقٍ لأحدٍ عليه تعالى و إذا كان هناك حقٌّ لأحد عليه جل و علا فإنما يكون ذلك بجعله هو على نفسه كما إذا وعد المؤمنين الطائعين له بالجنة فإنهم يستحقونها لوعده إياهم لا بذاتهم بل و لا لأجل عملهم و طاعتهم فإن عملهم و طاعتهم و جميع حركاتهم و سكناتهم نعم إلهية عليهم فهو من خلقهم و رزقهم الحياة و مقوماتها و مكّنهم على التفكر بالعقل الذي هو أيضاً نعمة منه عليهم و منحهم القوى الظاهرة و الباطنة و القوى الإدراكية و التحريكية و هو من هداهم و هو من وفّقهم للطاعة و أعطاهم ما يتمكنون به من الطاعة و … فإن أطاعوه فبنعمته و منّه عليهم أطاعوه كما قال الإمام السجاد عليه السلام في مناجاة الشاكرين : “فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، و نعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها فكيف لي بتحصيل الشكر و شكري إياك يفتقر إلى شكر؟! فكلما قلت لك الحمد، وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد” ، و الخلاصة أنه تعالى تارة يجعل التوبة على التائب حقا على نفسه و أخرى يصف توبته على العصاة التائبين بأنها رحمة منه فيقول : “و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح فأنه غفور رحيم” ..
موفقين مسددين
دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
ليلة الاثنين ١٨ من ذي القعدة ١٤٤٥ ق
الموافق ٢٧ / ٥ / ٢٠٢٤ م