سؤال من أحد المؤمنين: 

ما الحكمة في الغيبة الطويلة للإمام المهدي عجل الله فرجه المستمر منذ أكثر من ألف عام  و يعلم الله فقط إلى متى ستستمر؟ و لماذا يترك الله و هو الخالق القادر ،  البشرية تعاني الويلات لقرون طويلة دون أن يأتي المنقذ الموعود ؟ 

_________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم 

من المعلوم أن الإنسان الكامل هو العلة الغائية للخلق كما يستفاد من إشارات بعض الآيات و الروايات و يساعده العقل ، فالأسماء الوجودية التي من أجلها خُلق آدم و لمّا سأل الملائكة عن حكمة خلقه مع وجودهم و مع أن بني البشر يفسدون و يسفكون الدماء – و ذلك لأجل أن عالم الطبيعة عالم التزاحم بين المصالح و المفاسد فلا محالة يقع الجدال و النزاع  و القتال و .. فيقع الإفساد و سفك الدماء لا محالة مضافاً إلى علمهم بوجود أنسال سابقة أفسدوا فانقرضوا بالعذاب على ما ورد في بعض الروايات – أجابهم الله تعالى بأني أعلم ما لا تعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها … إلى أن قال تعالى ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض .. و نعلم أن تلك الأسماء الوجودية العاقلة – نقول عاقلة لإرجاع الضمير المذكر إليهم في الآية كما بيّنا ذلك في محاضراتنا – هم الأنوار القدسية المحمدية صلوات الله عليهم أجمعين أو أنهم من أهم مصاديق تلك الأسماء ..  كل ذلك يدل على ضرورة وجود الإمام و الحجة ( و طبعاً قد بيّنّا استفاده ذلك من الآيات في بعض مجالسنا و لا مجال للغور في ذلك في هذا المختصر)  و إذا كان غاية خلق العالم هو الإنسان الكامل حدوثاً فسيكون بقاؤه أيضاً علة غائية لبقائه و لولاه لم يبق حكمة لبقاء العالم أو المكلفين و عالم التكليف على أقل تقدير و لهذا تشير الروايات إلى أن وجود الحجة ضروري و إلا لابتلعت الأرض من عليها من الناس فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام على ما ورد في الكافي و غيره من الجوامع الروائية : ” أتبقى الأرض بغير إمام ؟  قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ” مضافاً إلى أن الهداية و إتمام الحجة على العباد يقتضيان وجود الإمام في جميع العصور و إلى يوم الدين سواء كان حاضراً أم غائباً للحِکَم التي سنشير إليها  ،  و ذلك لقوله تعالى: ” إنما أنت منذر و لكل قوم هاد ” و في الحديث عن الصادق عليه السلام : ” لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام ،  و قال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل أنه تركه بغير حجة عليه ” و في بعض الروايات أنه لولا الإمام لما عُبد الله ، مضافاً إلى أن وجوده سبب لنزول البركات على العباد و البلاد فببقائه بقيت الدنيا و بيمنه رُزق الورى و بوجوده ثبتت الأرض و السماء و..  ،  كما في دعاء العديلة ،  و في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث : ” …  بنا أثمرت الأشجار و أينعت الثمار و جرت الأنهار و بنا ينزل غير السماء و يثبت عشب الأرض .. “ 

و بذلك و غيره نعلم ضرورة وجوده و بقائه عليه السلام و لولاه لما بقي النوع الإنساني و لا سائر المكلفين من الجن و غيرهم إن وُجدوا و لو افترضنا بقاء البشرية و المكلفين لما فتح الله أبواب البركات من السماء و الأرض عليهم   

و لكن لماذا هو عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف غائب عنا  ؟ سؤال وجيه يطرحه الكثيرون من المؤمنين بوجوده عليه السلام و المنكرين له عجل الله فرجه ..  و قد لخّص المحقق الطوسي قدس سره الشريف الجواب في كلمتين فقال : ” و غيبته منا ” و هذا الجواب مع اختصاره مشتمل على عدة أمور يمكن تلخيصها فيما يلي : 

١ – تشكيل الحكومة الإلهية الربانية المبتنية على العدل التام يحتاج إلى أعضاء و أعضاد يكونون عساكره عليه السلام في محاربة الأعداء الذين سيقفون في وجهه بعد الظهور ،  و لو لم يكن قد غاب عنا لحاربوه و قتلوه كما قتلوا سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام بالسيف أو السم ،  و قد ورد في الأخبار ضرورة وجود أصحاب الألوية و هم ٣١٣ من أجلاء و عظماء البشرية ليكونوا أعضاء و أعضاد دولته و قادة عساكره مضافاً إلى عشرة آلاف من المؤمنين الذين يكونون تكملة لحلقته عليه السلام كما في بعض الروايات ،  و مع عدم وجود هؤلاء لم تتهيأ الظروف لخروجه و لم يتحقق الهدف من الظهور و هو إقامة العدل و إبادة الظلم و الظلمة،  فإذا لم يكن بيننا هذا العدد لتشكيل دولة العدل لزم أن يغيب ليبقى حتى يتكون ذلك العدد فيصدق أن غيبته منا .. 

٢ –  دوران أمره عليه السلام في حالة ظهوره قبل أوانه و قبل وجود الناصر و المعين له بين القتل و البيعة لأن الظلمة لا يمكنهم ترك من يريد إزالة حكمهم و قد نقل لنا التاريخ كيف كانوا يأخذون الأئمة عليهم السلام بالظنة و  يقتلونهم و … فأمْرُ صاحب الأمر عليه السلام سيكون دائراً بين القتل و البيعة لهم فإذا قتلوه لم يتحقق الهدف من وجوده في هذا العالم و هو إقامة دولة الحق و العدل – مضافاً إلى ما سبق من أن وجوده سبب لبقاء البشرية فقتله عليه السلام سبب لزوال عالم التكليف إن لم نقل بأنه سبب لزوال عالم الدنيا قبل تحقق الهدف و إقامة دولة الحق و العدل – و إذا بايع فسيضطر إلى الوفاء  بالعهد و البقاء على العهد المأخوذ منه و إن تحققت الظروف للقيام بالحق و إقامة دولة العدل  – مع أنه يلزم القيام بالحق و إقامة دولة الحق بمجرد تحقق شرائطها من تكوُّن العدد و سائر ما له مدخلية في ذلك ، و الخلاصة أنه إن لم يبايع سيُقتل و إن بايع لم يتمكن من القيام بعد تحقق الشروط ، و لا مفر من ذلك القتل أو البيعة إلا الغيبة عن أعين الناس إلى أن تتحقق الظروف و شرائط القيام فيقوم و يقيم دولة الحق و يزيح الباطل و يزيل الظلم من دون أن تكون في رقبته بيعة لأحد ،  و هناك روايات تدل على أن الغيبة لأجل خوف القتل و أخرى تدل على أنها لأجل أن لا تكون في عنقه بيعة إذا قام بالسيف فالجمع هو أن عدم تحقق الغيبة يستلزم أحدهما و كلاهما منافيان للهدف و حكمة وجوده في هذا العالم فيلزم تحقق الغيبة للتخلص منهما – و لهذا الجانب من الموضوع بحث طويل نسبياً قد تطرقنا له في بعض محاضراتنا في بعض المناطق .. – 

فإذا كان الظهور سبباً لذلك كان معناه أن البشرية غير مستعدة لظهوره و ظهوره سبب لأخذهم البيعة منه أو قتله من قبل البشر أنفسهم فيصدق أن: ” غيبته منا ”  

٣ – ولادة الودائع الإلهية : نقل العلامة المجلسي قدس سره عن علل الشرائع  عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : ما بال أمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل مخالفيه في الأول؟ قال لآية في كتاب الله عز و جل ” لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ” قال : قلت : و ما يعني بتزايلهم؟ قال: ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ، فكذلك القائم عليه السلام لن يظهر أبداً حتى تخرج ودائع الله عز وجل فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز وجل جلاله فقتلهم .

فعدم وجود الودائع من أسباب غيبته ف “غيبته منا ” بمعنى عدم تحقق القابلية في البشرية للظهور.. 

٤ – لم يتحقق اليأس التام عن الأنظمة الحاكمة على العالم بعدُ فيلزم أن يتحقق العلم بأن الأنظمة السائدة لا تتمكن من إسعاد البشرية فكما علموا و أثبت لهم الواقع الخارجي أن الماركسية غير قادرة على تحقيق السعادة يلزم أن يعلموا أن الرأسمالية أيضاً غير قادرة على ذلك – و علامات ذلك أخذت في البُدُوّ و الظهور – و كذلك أي نظام آخر يمكن أن يظهر في المستقبل ،  فيجب أن يعرفوا أن العدل المطلق هو الكفيل بتحقيق السعادة و من يتمكن من إقامة هذا العدل هو المعصوم المُسَدَّد من قبل الله تعالى  دون غيره ،  و لكن البشرية بعدُ لم يصلوا إلى هذه النتيجة و ذلك لأنه إذا تقبّل البعض بالعدل لم يتقبل البعض الآخر لشعوره بأن العدل يضرّ به اقتصادياً أو من حيث المناصب أو غير ذلك .. مع أن العدل هو الموجب للسعادة قطعاً حتى لمن يراه مضراً به لجهله – و هذا ما يحتاج إلى بحث آخر – فلو لم يَغِبو افترضنا توليه الأمر لما استحمل الناس عدله و قد كان هذا الأمر في غاية الوضوح في دولة أمير المؤمنين عليه السلام حتى قال المفكر المسيحي جبران خليل جبران : ” قُتل علي في محراب عبادته لشدة عدله ” فلو ظهر الإمام صاحب الأمر عليه السلام و قام بتشكيل الدولة الإسلامية العالمية – لو افترضنا تحقق الشروط الأخرى غير هذا الأمر – لابتلي بمثل ما ابتلي به جده أمير المؤمنين عليه السلام فإذن : ” غيبته منا “ 

و بناء على جميع ما تقدم و أمثاله نقول  – كما جاء في السؤال – أن الله تعالى قادر على أن يُظهر وليه عليه السلام و لا يترك البشرية تعاني من هذه الويلات إلا أن الدنيا دار تكليف و التكليف يستلزم الاختيار لا الجبر فالله القادر لا يريد أن يدير المجتمع البشري بالإعجاز و إلا لكان ذلك ممكناً من يوم خلق آدم و لم يكن داعٍ لإرسال الرسل و تنصيب الحجج و إنزال الكتب و ..   فصاحب الأمر و إن كانت غيبته و بقاءه طوال هذه الفترة و…. أموراً إعجازيةً إلا أن قيامه و إقامة دولته و استعداد الناس لظهوره و تقبُّلهم لعدله و..   يلزم أن يكون كل ذلك حسب ما يتطلبه عالم التكليف بأن تكون هذه الأمور و أمثالها اختيارية لا بالإعجاز  و إن استعان صاحب الأمر عليه السلام و عجل الله تعالى فرجه الشريف بالمعجزات أحياناً و بمقتضى الضرورات الطارئة أو لأجل مصالح خاصة   

و الجدير بالذكر أن المذكورات من جملة حِکَمِ الغيبة و لكن المستفاد من بعض الروايات أن الحكمة الأصلية لها ستتبين بعد الظهور

  فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول : إن لصاحب هذا الامر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له : ولم جعلت فداك ؟ قال : لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم قلت : فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام، وإقامة الجدار ، لموسى عليه السلام إلا وقت افتراقهما . يا ابن الفضل إن هذا الامر أمر من أمر الله ، وسر من سر الله ، وغيب من غيب الله و متى علمنا أنه عز وجل حكيم ، صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة ، وإن كان وجهها غير منكشف لنا.

جعلنا الله و إياكم من خلص شيعته و أنصاره بحق محمد و آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين .. 

                                 أيوب الجعفري