وردني مقال لأحد الكُتّاب يدّعي فيه أن الله لم يحرِّم الخمر و لم يرد تحريم لها من النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم بل الفقهاء هم من حرموا ذلك ، و تهجم على الفقهاء و نسب إليهم الخطأ في فهم الآيات ثم ارتقى في توهينهم و نسب إليهم الكذب و عوذاً بالله و قال أننا لسنا عبيد الفقهاء و… ثم ذكر الآيات المتعلقة بتحريم الخمر و أخذ في توضيح عدم دلالتها على الحرمة… و سيتبين لكم خلال الجواب ما ذكره هذا الكاتب فلا داعي لنقل مقاله المشتملة على التوهين و الاطناب الممل و إليكم الجواب على ما ذكره :
_____________________________________
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
* الفقهاء عدول لا ينطقون بشيء بلا دليل و قد صرفوا أعمارهم في معرفة الدين و أحكام الله تعالى من دون أن يطلبوا شيئاً من أحد لأنفسهم بل قد عاش الكثير منهم في الفقر حتى جاءهم الموت و هم فقراء فلا يمكن اتهامهم بهذه الأمور ، و ذلك من قِبَل من لم يدرس معارف دين الله و أسسها العلمية و يريد معرفة كل شيء بمراجعة الألفاظ و مع ذلك هو لا يفهم معاني الألفاظ و لهذا نجده يفسرها بشكل خاطئ ثم لا يتهم الفقهاء بالخطأ فحسب بل بالكذب أيضاً .. فهل التقوى تقتضي هذا الاتهام و ذلك لجميع الفقهاء – فإن حرمة الخمر ليست فتوى البعض بل عليها إجماع و اتفاق جميع الفقهاء من جميع الفرق الاسلامية بل جميع المسلمين بل هي من الضروريات القطعية في الدين .. فهذا الكاتب – مع سذاجة استنتاجاته من الآيات بتصور عمقها و دقتها – يتهم جميع الفقهاء بالكذب فيجب عليه أولاً إثبات كون الحرمة خلاف حكم الله و ثانياً أنهم جميعهم تعمدوا الكذب و ثالثاً عليه تحمل مسؤولية هذا الاتهام عند الله تعالى في يوم الحساب ..
و أما الآيات المتعلقة بالخمر فنقول إجمالاً أن دلالتها على الحرمة أمر ظاهر بيّن _ و إن كان تبيين الحرمة تدريجياً كما أشار إليه الكاتب و أنكره بلا دليل و إنما قاس ذلك بتبيين حرمة الميتة و لحم الخنزير في حين أنهما مختلفان فإن من أدمن شرب الخمر ثم دُعي إلى الإسلام فقيل له من بداية الأمر أنه يجب في هذا الدين ترك شرب الخمر ، فهذا الانسان سیبتعد عن الدين تماماً من بداية الأمر فهو ليس لديه تلك المعرفة العليا بالدين و بالله و بالمعاد حتى يقبل كل شيء من بداية الأمر بل لمّا دُعي إلى الاسلام فرأى فيه الحق قبله فإذا قيل له من أول الأمر يجب عليك ترك شرب الخمر مع إدمانه عليها لابتعد من الاسلام و قبول الدين الحق من أول الأمر و من المعلوم أن کثیراً الناس في عصر البعثة النبوية كانوا مدمنين على شرب الخمر ، بخلاف الخنزير و الميتة فترك أكلهما لا يشكِّل صعوبة لا يمكن استحمالها … _ فهذه الآيات تدل بكل وضوح على أن الخمر حرام و بيان ذلك هو ما نذكره في التوضيح المختصر بعد هذا الإجمال فنقول :
* أما قوله تعالى : ” و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكراً و رزقاً حسناً .. ” فإما أن يكون المقصود من ” السَکَر ” السُکّر و الحلاوة فتكون الآية بعيدة عن بيان حكم الخمر و المسكرات و ذكر السَكرَ قبل الرزق الحسن يكون من باب ذكر الخاص قبل العام و بتعبير آخر يكون من باب المصداق للعام التالي ، و إما أن يكون السَکَر من السُکْر أي تتخذون منه مُسكراً و رزقاً حسناً فيكون السَكرَ مقابل الرزق الحسن فيكون سيئاً و السيء ليس بحلال قطعاً كما لا يخفى .. فالآية إما أنها ليست في مقام بيان حكم المسكرات فلا تدل على الحلية المزعومة في هذا المقال أو أنها تدل على أن المسكر رزق سيّء یستخرجه الانسان من ثمرات النخیل و الأعناب ..
* قوله تعالى : ” لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى ” : هذه الآية في مقام بيان أن السُکر مانع من صحة الصلاة و ليست بصدد بيان أن السكر و شرب الخمر حلال أو حرام ، بل لأجل التدرج في بيان الأحكام أراد حالياً أن يبين أن السكر مانع صحة الصلاة و ذلك أن السكران لا يعلم ما يقول فربما قرأ خطئاً و هو لا يعلم و ربما تلفظ بكفر و هو لا يشعر كما اتفق ذلك للبعض فكان يتلفظ بالكفريات في الصلاة فنهى الله تعالى عن الاقتراب من الصلاة حالة السكر _ و طبعاً هذه الحكمة موجودة في غير حالة الصلاة أيضاً فهل يجوز للإنسان أن يفعل ما يوجب احتمالية صدور الكفر منه ؟ و هل جاء الدين إلا لأجل الابتعاد عن الكفر و لأجل الإيمان بالله تعالى؟ مضافاً إلى احتمالية صدور الذنوب و الكبائر و الجرائم من السكران ، فهل يسمح الله تعالى فعل ما يوجب هذا الاحتمال القوي و العقلائي في حين أنه يأمر بجميع ما يجنِّب الانسان عن الذنوب و عن ارتکاب الجرائم و ينهى عن جميع ما يقرِّب الإنسان إلى خطر الكفر و ارتكاب الجرائم و التعرض للأنفس و الأعراض و الأموال ، و لو كان المجال مفتوحاً لطرح هذه الأمور لذكرنا كثيراً من المصاديق و الأمثلة لذلك و لكن هذا المختصر لا يحتمله فهذه الآية بالدلالة على الحرمة أشبه من عدم الدلالة على شيء من الحرمة و الحلية فكيف بالدلالة على الحلية كما يدعي الكاتب ، و لكن لو تنزلنا عن ذلك قلنا أن الآية في مقام بيان مانعية السُكر لصحة الصلاة لا بيان حكم الخمر في حدّ نفسها ..
* قوله تعالى : ” يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما ” الإثم لا يعني الضرر بل الإثم في اللغة هو ما يبطئ عن الثواب فإذا قلنا أن الإثم من المحرمات لزم أن نفسره بما يبطئ عن الثواب الواجب تحصيله كالصلاة و الصوم و.. لأنه لا يمكن أن يكون عدم تحصيل الثواب المستحب حراماً و بعبارة أخرى نفس ترك الثواب المستحب أمر جائز فكيف بما يبطئ الإنسان من تحصيل الثواب بالعمل المستحب ، و أما إذا كان الإثم حلالاً كما يدعيه الكاتب فيكون المقصود مطلق ما يبطئ عن الثواب ، و لكن القرآن يدل على أن الإثم حرام و ذلك في قوله تعالى : ” قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق … ” – الأعراف : ٣٣ – فبمقتضى الآية التي ذكرتموها حول الخمر يكون في الخمر إثم كبير و بمقتضى آية الأعراف الإثم مما حرمه الله تعالى فالخمر مما حرمه الله تعالى بل حرمته كبيرة لأن فيها إثم كبير لا مجرد الإثم ..
إذن الإثم أولاً ليس بمعنى الضرر بل بمعنى ما يبطئ عن الثواب وثانياً هو محرم حسب آية سورة الأعراف فالخمر التي فيها إثم حرام ، و لو قلنا أن الإثم بمعنى الضرر أيضاً لم يضر بالاستدلال فهذا الضرر ارتكابه حرام بدليل آية الأعراف ..
* قوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فهل أنتم منتهون ” في الآية عدة وجوه تدل على الحرمة نبدأ من حيث استدل الكاتب فنقول :
١ – الاجتناب من الجنب و هذه المادة ـ كسائر المواد اللغوية – يتغير معناها من صياغة لأخرى فمثلاً كلمة الضرب لها معنى ظاهر وإذا دخلت عليه صياغة باب المفاعلة ( المضاربة) كان معناها معاملة خاصة يكون المال من أحد طرفي المعاملة و العمل من الطرف الآخر والربح بينهما حسب الاتفاق ، و إذا دخلت في باب التفاعل كان معناها أحياناً التعارض كما يقال في تعارض الروايات أنها تعارضت و أحياناً بمعنى ضرب شخصين كل منهما الآخر ، و إذا دخلت في باب التفاعل أي الإضراب كان معناها الإعراض عما سبق و هذا متعلق بقواعد اللغة فيقال أن كلمة بل للإضراب كأن يقال جاء زيد بل عمرو ، و بمعنى الامتناع من الأكل و الشرب و.. أحياناً أخرى كما يقال أضرب فلان عن الطعام و هكذا… و الجنب تستعمل بمعنى الناحية و التنحي و البعد و الابتعاد قال تعالى ” و اجنبي و بني أن نعبد الأصنام ” كما يستعمل الجنب بمعنى الغريب والاجتناب بمعنى الابتعاد و ترك الشيء على جانب و عدم الاقتراب منه كما أن مجانبة الشيء أيضاً بمعنى الإبتعاد عنه، و الجُنُب بمعنى البعيد فالمجنب بعيد عن حالة الصلاة و عليه أن يغتسل ليتمكن من الصلاة ، و المَجنب بفتح الميم بمعنى الكثير يقال إن عندنا لخيراً مجنباً أي كثيراً ، و الجَنَب بمعنى الشيء الذي نهي عنه و… فهذه معاني مختلفة لكلمة واحدة ولكن بصياغات مختلفة فلا يمكن القول: بما أن قول العسكري : جانب السلاح بمعنى اجعله على جانبك فيلزم حمل الجَنب و الجُنب و الاجتناب و المجانبة و التجنب و … على معنى واحد بمعنى الجانب، مضافاً إلى أن العرب يفهمون من قول ” اجتنب ” لزوم ترك الشيءو الابتعاد منه كنا لا يخفى على أحد من أهل اللغة العربية كما يفهمون من قوله تعالى: ” و اجنبي و بني أن نعبد الأصنام ” أبعدني و نَحِّني و بنيَّ أن نعبد الأصنام لا أنه اجعلني على جانب الأصنام إذا شئنا عبدناها و إذا شئنا تركنا عبادتها كما تفهمون أنتم من الاجتناب و الإجناب و..
٢ – قوله تعالى لعلكم تفلحون بمعنى أن اجتناب الخمر و الميسر و… يهيِّء أرضية الفلاح و الفلاح هو دخول الجنة لأن معنى الفلاح السعادة بحياة لا موت بعدها ، و غنىً لا فقر معه ، و علم لا جهل معه، و عِزٍّ لا ذل معه ، و صحة لا مرض معها ، و هذا لا يتحقق إلا في الجنة ، فارتكاب المذكورات و عدم اجتنابها لا یوجب الفلاح قطعاً بل يوجب الشقاء إذ مقابل الفلاح و السعادة هو الشقاء و لا يمكن أن يكون الحلال سبباً للشقاء ..
٣ – يريد الشيطان أن يوقع بين المؤمنين العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر ، فهل يمكن أن يكون سبب العداوة و البغضاء و بتعبير آخر سهم إبليس في إيقاع العداوة و البغضاء بين المؤمنين حلالاً ، في حين أن هدف الدين الإخاء بين المؤمنين و إبعادهم عن النزاع و التخاصم كما تدل عليه آيات متعددة ، و الخمر و الميسر من الأسباب المضادة لذلك …
٤ – فهل أنتم منتهون : معنى الانتهاء واضح لكل من يفهم اللغة العربية و إن لم يكن من العرب أنفسهم ، فمعناه ترك الشيء نهائياً و حتى الخليفة الثاني عمر الذي كان يقول مثل قولكم من أن القرآن لم يصرح بحرمة الخمر لما نزلت هذه الآية قال :” انتهينا انتهينا” كما في مسند أحمد ج ١ ص ٥٣ و سنن الترمذي ج ٤ ص ٣٢٠ و سنن النسائي ج ٨ ص ٢٨٧ و فتح الباري ج ٨ ص ٢١٠ و…. نعم عمر بن الخطاب الذي أراد بيانا شافياً في الخمر ، عرف بعد نزول الآية حرمة الخمر من نفي هذه العبارة فقال انتهينا انتهينا ..
٥ – قوله تعالى: ” رجس من عمل الشيطان” : ماذا يعني الرجس ؟ الرجس في اللغة بمعنى القَذِر و الخبيث ، و هل یُعقل أن يكون القذر الخبيث حلالاً ، فالعقل الذي يستقذر الشيء و يستخبثه لا يقبل حلية الخبيث و لكن لو شككت في ذلك فلا شك في القرآن الكريم و القرآن يُحل الطيبات و یُحرِّم الخبائث كما في سورة الأعراف الآية ١٥٧: ” الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم ..” كما أطلق الخبائث على اللواط في قصة قوم لوط كما في سورة الأنبياء الآية ٧٤ : “و لوطاً آتيناه حكماً و علماً و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ” فاللواط المحرم قطعاً و هو من أكبر الكبائر قد عده القرآن من الخبائث ثم قال إنهم كانوا يعملون الخبائث و لهذا عدّهم قوم سوء فاسقين .. ، كما أنه يقول تعالى في عبادة الأوثان أن ذلك رجس فاجتنبوه : ” فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور ” فهذه الآية تدل على أن الأوثان رجس فهل يحل عبادتها؟ ، مضافاً إلى استعمال كلمة الاجتناب في صياغة الأمر فهل يمكنكم القول بأن الاجتناب هنا لا يعني ترك عبادة الأوثان ؟؟!!
و أما قوله أن القرآن لم يقل اجتنبوا الخمر و.. بل قال اجتنبوه والضمير عائد إلى عمل الشيطان فهذا يدل على أنه ليس له باع في اللغة العرببة ، فالآية بينت أولاً أن الخمر و الميسر و … رجس – و قلنا أن القرآن قد حكم بحرمة الرجس و الخبائث – و قال أنه من عمل الشيطان ثم قال اجتنبوا هذا الرجس و عمل الشيطان الذي هو الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالضمير راجع إلى الرجس أو إلى عمل الشيطان إلا أن الرجس و عمل الشيطان ينطبقان في الآية على الخمر و الميسر و الأنصاب و.. ؟
و من جانب آخر كيف يفسر حكم الأنصاب و الأزلام في الآية هل يرى الميسر والقمار و نصب الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها لأصنامهم و كذا الأزلام أي الأقداح التي كانوا يستقسمون بها لحوم القرابين .. هل يرى كل ذلك حلالاً ؟ فلو رآها حلالاً لزمه الرجوع إلى عصر الجاهلية و الحكم بحلية كل شيء و لا يبقى بعد ذلك دليل لنزول هذه الآيات !!!
و أما قوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرم الخمر و إنما حرمها الفقهاء فكلامه هذا ناتج عن عدم مراجعة الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ورد عنه أنه قال : ” كل ما أسكر كثيره فقليله حرام ” و قال صلى الله عليه وآله وسلم : ” كل مسكر حرام ” وقيل للامام الصادق عليه السلام بعد ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” كل ما أسكر كثيره فقليله حرام ” قيل له: فأكسره بالماء ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : لا و ما للماء أن يحلل الحرام ، اتق الله عز و جل و لا تشربه… هذا من مصادرنا أتباع أهل البيت عليهم السلام ، وإن كان الكاتب من أهل السنة فعليه مراجعة مسند أحمد ج ٢ ص ٩١ و ص ١٦٧و… وسنن الدارمي ج ٢ ص ١١٢و سنن ابن ماجة ج٢ ص ١١٢٤ و ….
فلا أدري بعد كل ذلك من هو المخطئ و على حد تعبير الكاتب نفسه من هو الكذاب؟ الكاتب أم الفقهاء الذين أفنوا أعمارهم في الدين و معرفة أحكام شريعة سيد المرسلين صلوات الله و سلامه عليه و آله و اكتسبوا العلم و أصبحوا من أهل الاختصاص في علوم متعددة كي يتمكنوا من معرفة مقاصد الله تعالى و رسوله العظيم في الكتاب الكريم و السنة الشريفة …
أعاذنا الله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا
أيوب الجعفري