بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجاً و جعله هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان و الصلاة والسلام على أشرف خلقه و خير بريته محمد و آله الطاهرين .. أما بعد
فقد قرر أمناء حسينية المرحوم السيد جعفر مشكورين إقامة مجالس لترويج القرآن الكريم و معارفه ضمن خطة خمسية وقد وفقني الله تعالى أن أكون بخدمة المؤمنين ضمن هذا البرنامج القيّم فألقيت عدة محاضرات حول القرآن الكريم و بعض معارفه لا سيما تلك المتعلقة بالعلوم القرآنية فاقترح عليّ بعض السادة الأفاضل أن أكتبها ليتم نشرها بين المؤمنين عسى أن ينفعنا الله بها في الدارين بحق القرآن و الرسول الأعظم و العترة الطاهرة عليهم آلاف التحية و الثناء ، و قد لخصت بعض تلك المحاضرات و فصّلت الكلام في بعضها الآخر بقدر ما سنحت لي الفرصة ، فأقول مستعيناً بالله العلي القدير :
١ ـ القرآن هداية و رحمة و شفاء :
قال الله عز و جل : ” إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ” سورة الإسراء : 9
* الانسان موجود مكون من بعدين الجسم و الروح و يعيش في عوالم مختلفة هي الدنيا و البرزخ و الآخرة .
* البعد الحقيقي لوجوده ، و بتعبير آخر حقيقته هي الروح و هي الباقية و الحافظة لوحدة وجوده مع تغيُّر الجسم و تبدله طوال حياته الدنيوية عدة مرات .
* العالَم الأصلي الذي خُلق الإنسان ليعيش فيه و يكون ظرف سعادته أو شقائه الحقيقيين هو عالم الآخرة فعالم الدنيا دار تكليف و امتحان له ليكتسب فيها ما يوجب سعادته أو شقاءه في تلك الدار .
* صحيح أن مصادر التشريع و الحجج التي يمكن أو يلزم التمسك بها لنيل الكمال و السعادة أربعة ـ القرآن والسنة و العقل و الاجماع ـ إلا أن الأساس هو القرآن الكريم و به نميّز السنة من غيرها من بين الأحاديث المروية عن المعصومين عليهم السلام فقد قال الله تعالى : “وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ” سورة الأعراف : 170 ، و هناك روايات كثيرة تسمى بـ” روايات العرض ” تأمرنا بعرض الروايات على القرآن لمعرفة الصحيح من السقيم منها لنكتشف السنة منها فإن كان الحديث موافقاً لكتاب الله جل و علا فهو حق صادر عن المعصومين عليهم السلام و هو من السنة التي هي من مصادر التشريع و يعدّ عِدلاً للقرآن الكريم و شارحاً له و مبيِّنا لمغازيه و .. ، و إن كان مخالفاً له فهو زخرف و ليس من السنة في شيء ..
* فالميزان و الأصل الأول لتشخيص الحق من الباطل و تمييز الصراط المستقيم من السبل المتفرقة هو القرآن الكريم وقد جاء ليبين للناس و سائر المكلفين ما يسعدهم و يهديهم لكمالهم الذي خلقوا لأجله ، و لم يكتف ببيان ما يهديهم للكمال الروحاني و لسعادتهم في الآخرة بل جاء ببرنامج عقدي و أخلاقي و علمي و عملي متكامل لنيل السعادة في جميع أبعاد وجودهم و لجميع العوالم التي يعيشون أو سيعيشون فيها ، قال تعالى : “وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين” سورة النحل : 30
* فالقرآن يشتمل على خير الدنيا و الآخرة و سعادة وكمال الروح و صحة الجسم و يهدي للتي هي أقوم و هو شفاء ورحمة و في نفس الوقت لا يزيد الظالمين الذين يتعدون حدود الله تعالى و لا يريدون الهداية و سعادة الآخرة، لا يزيدهم إلا خسارا ، قال تعالى : “إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا” سورة الإسراء : 9 ، و قال عز من قائل “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا” سورة الإسراء : 82 ، و قال عز و جل : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” سورة يونس : 57 ، و قالت سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها الفدكية الغراء : “أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم و بلغاؤه إلى الأمم ، زعيم حق له فيكم ، و عهد قدمه إليكم ، و بقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق و القران الصادق ، و النور الساطع والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ،منجلية ظواهره ، مُغتبطَة به أشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتّباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه . به تنال حجج الله المنورة ،وعزائمه المفسرة ، و محارمه المحذرة ، و بيناته الجالية ، و براهينه الكافية ، و فضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة . ” صحيفة الزهراء ع ص 220 .
* و قد ورد أن درجات الجنة على قدر آيات القرآن فعن حفص قال : سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول لرجل: أتحب البقاء في الدنيا ؟ فقال : نعم ، فقال : ولم ؟ قال : لقراءة قل هو الله أحد ، فسكت عنه فقال له بعد ساعة : يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُـلـِّم في قبره ليرفع الله به من درجته فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له : اقرأ وارق ، فيقرأ ثم يرقى . قال حفص : فما رأيت أحدا أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر ( عليهما السلام) ، ولا أرجا الناس منه وكانت قراءته حزنا ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا ـ الكافي ج 2 ص 606 باب فضل حامل القرآن الحديث 10.
* و بذلك يتبين ضرورة الاهتمام بالقرآن تلاوة ً و تدبراً وعملاً و تخلّقاً به فقد اُمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بتلاوته : ” إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ سورة النمل : 91 ـ 92 .
و تجدر الاشارة إلى أن التلاوة ليست مجرد القراءة بل من جملة معانيها الاتباع كما في قوله تعالى : ” وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ” سورة الشمس : 1 ـ 2 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٢ ـ ثواب بعض السور و الحاجة إليه يوم القيامة :
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” / سورة المؤمنون : 101 ـ 102 .
و قال عز و جل : ” فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ” / سورة القارعة : 6 ـ 7 .
* سبق أن قلنا أن النشأة الأصلية و الحياة الواقعية هي الحياة الأخروية و باقي النشئات مقدمة لتلك النشئة .
* النظام السائد في تلك النشئة مختلف عن النظام الدنيوي الذي نعيش فيه وفقاً لسننه المتناسبة بعالم الدنيا فلبناء المباني و غرس الأشجار و تحصيل المنافع و المكاسب في هذه الدنيا طرق طبيعية معروفة ـ و إن كان للإيمان و التقوى والعمل الصالح و كذا الكفر و العصيان و العمل السيّئ أيضاً آثار عظيمة و هي من جملة الأسباب في هذا النظام الذي نعيش فيه ، و هذا ما يحتاج إلى بحث مستقل ـ و لكن البناء و غرس الأشجار و .. في الآخرة لا يتم بالطرق المألوفة في هذه النشئة بل سيكون منشأ النعيم و الجحيم و جميع مستلزماتهما هو الإيمان و العمل الصالح أو الكفر و الطغيان و العمل الطالح بل سيكون الجزاء هناك ملكوت نفس أعمالنا الجوانحية و الجوارحية الصادرة منا هنا و الآيات و الروايات تبين ذلك بكل و ضوح و جلاء و هي كثيرة نشير هنا إلى بعضها كقوله تعالى : وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ” / سورة الجاثية : 28 و قوله تعالى : ” اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ” سورة الطور : 16 ـ 19 ،و كقول النبي صلى الله عليه وآله : ” الظلم ظلمات يوم القيامة ” وقوله صلى الله عليه وآله : ” الجنة قيعان وإن غراسها : سبحان الله وبحمده ” / بحار الأنوار ج 7 ص 229 .
* و من جانب آخر يرى الناس أنفسهم في يوم القيامة أنهم مغبونون قد خسروا الكثير مما كانوا قادرين على تحصيلهو لكنهم لم يفعلوا ما يحقق لهم الدرجات العلى أو ما ينقذهم من العذاب ، فأهل النار يندمون لعدم قيامهم بما ينقذهم منالنار و أهل الجنة يتحسرون لعدم تحصيلهم درجة ً أعلى مما هم فيه كما قال تعالى : ” يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُالتَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُالْعَظِيمُ ” سورة التغابن : 9 ، و قال عز من قائل : ” وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ” سورةمريم : 39 ، و قال جل وعلا : ” وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ” سورة يونس : 54 و غيرها من الآيات .
* و من هذا المنطلق يجب علينا أن لا نغفل عن تلك الدار و عما ينفعنا و ينقذنا من النار و العذاب و يسعدنا فيها بالنعيم المقيم و رضوان الرب الكريم فكلما ابتعدنا عن المعاصي و كانت حسناتنا أكثر اقتربنا من الله أكثر و اكتسبنا درجات أعلى و قد جعل لنا ربنا الرحمن الرحيم طرقاً و أعمالاً يسيرة توجب لنا مثوبات عظيمة و درجات رفيعة شريطة الإيمان والتقوى فـ” إنما يتقبل الله من المتقين ” سورة المائدة : 27 ، منها المشاركة في صلاة الجماعة و منها الصلاة على النبي و آله صلوات الله عليهم أجمعين و .. و من جملة تلك الأعمال الموعود عليها الثواب العظيم قراءة القرآن الكريم لا سيما إذا كان بتدبر و تأمل في آياته فقد وردت روايات كثيرة في ثواب السور سنورد أدناه بعض تلك الأخبار .
* و قبل ذكر تلك الروايات تجدر الاشارة إلى أن المثوبات العظيمة المترتبة حسب الروايات على بعض الأعمال و من جملتها سور القرآن قد يكون سند بعضها ضعيفاً إلا أن ذلك لا يؤثر في ترتب الثواب عليها لوجود روايات معتبرة ـ تسمى بأخبار من بلغ ـ تدل على أن الإتيان بالعمل الموعود عليه الثواب يوجب تفضل الله تعالى بذلك الثواب و إن لم يكن بحسب الواقع عملاً مندوباً إليه و موجباً لذلك الأجر الموعود فعن أبي عبد الله عليه السلام قال : من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شئ فيه الثواب ، ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله ، كان له ذلك الثواب ، و إن كان النبي صلى الله عليه وآله لم يقله / المحاسن : كتاب ثواب الأعمال الباب 1 الحديث 1 ، نعم يؤتى بتلك الأعمال ـ على رأي المحققين ـ بنية رجاء المطلوبية لا المستحب الوارد كما أن الفقيه بناءً على هذا الرأي لا يفتي بالاستحباب بل يذكر رجحان العمل بها بالنية المذكورة، و أما الثواب فهوكما أشرنا ثابت بلا فرق بين قوة السند وضعفه ـ وهذا من جملة أدلة عدم حذف الروايات الضعيفة السند من جوامعنا الروائية ..
* و إليكم بعض الروايات الواردة في ثواب قراءة السور القرآنية :
سورة الحمد : عن أمير المؤمنين عليهم السلام : ” … وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش ، وإن الله عزوجل خصّ محمداً صلى الله عليه وآله وشرفه بها ، ولم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه ، ما خلا سليمان عليه السلام فإنهأعطاه منها : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ … ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد صلى الله عليه وآله وآله الطيبين ، منقادا لأمرها، مؤمنا بظاهرها وباطنها ، أعطاه الله بكل حرف منها أفضل من الدنيا وما فيها ، من أصناف أموالها وخيراتها ، و من استمع إلى قارئ يقرأها كان له قدر ما للقارىء ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم فإنه غنيمة ، لا يذهبن أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة ” . و عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ” لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة ، ثم ردت فيه الروح، ما كان عجباً ” .
سورة البقرة و آل عمران : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ” من قرأ البقرة وآل عمران ، جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين ، أو العباءتين ” .
سورة النساء : ” عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : ” من قرأ سورة النساء في كل جمعة أمنمن ضغطة القبر ” أقول : من الممكن أن يكون قوله كل جمعة بمعني كل يوم جمعة كما يمكن أن يكون المقصود كل أسبوع وهو الأظهر ، و قد أطلق الجمعة على الأسبوع في بعض الروايات كما سيأتي قريباً في ثواب سورة الأعراف .
سورة الأنعام : “عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : ” نزلت سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير ، فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة ” . و عن أبي عبد الله عليه السلام أنهقال : ” إن سورة الأنعام نزلت جملة ، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله ، فعظموهاوبجلوها ، فإن اسم الله عز وجل فيها ، في سبعين موضعا ، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها ” .
سورة الأعراف : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ” من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فإن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة ، أما إن فيها محكما ، فلا تدعوا قراءتها فإنها تشهد يوم القيامة لكل من قرأها ” .
سورة الأنفال و البراءة : عن أبي عبد الله ، قال : سمعته يقول : ” من قرأ سورة براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حقا ، وأكل يوم القيامة من موائد الجنة مع شيعته حتى يفرغ الناس من الحساب ” .
سورة يونس : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين ، وكان يوم القيامة من المقربين ” .
سورة هود : عن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ” من قرأ سورة هود في كل جمعة بعثه الله فيزمرة المؤمنين والنبيين ، وحوسب حسابا يسيرا ، ولم يعرف خطيئة عملها يوم القيامة ” .
سورة النحل : عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ” من قرأ سورة النحل في كل شهر ، كفي المغرم في الدنيا وسبعين نوعاً من أنواع البلاء أهونه الجنون والجذام والبرص ، وكان مسكنه في جنة عدن ، وهي وسط الجنان ” .
سورة طه : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ” لا تدعوا قراءة سورة طه ، فإن الله يحبها ويحب من يقرأها ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، واعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى “
سورة المؤمنون : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة المؤمنين ، ختم الله له بالسعادة ، وإذا كان مدمنا قراءتها في كل جمعة ، كان منزله في الفردوس الأعلى ، مع النبيين والمرسلين ” ، وعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ” من قرأ هذه السورة ، بشرته الملائكة بروح وريحان ، وما تقر به عينه عند الموت ” .
سورة العنكبوت و الروم : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو – والله يا أبا محمد – من أهل الجنة ، لا أستثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب علي في يميني إثم ، وإن لهاتين السورتين عند الله مكانا ” .
سورة السجدة : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة السجدة في كل ليلة جمعة أعطاه الله تعالى كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما كان منه ، وكان من رفقاء محمد وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ” .
سورة يس : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ” إن لكل شيء قلبا ، وإن قلب القرآن يس ، فمن قرأها قبل أن ينام ، أو في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي ، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكل الله به ألف ملك يحفظونه من شر كل شيطان رجيم ، ومن كل آفة ، وإن مات في يومه أدخله الله الجنة ، وحضر غسله ثلاثون ألف ملك كلهم يستغفرون له ، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار له …”
سورة فصلت : عن ذريح المحاربي ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : ” من قرأ حم السجدة كانت له نورا يومالقيامة مد بصره وسرورا ، وعاش في الدنيا محمودا مغبوطا ” .
سورة الزخرف : عن أبي جعفر عليه السلام قال : ” من أدمن قراءة حم الزخرف ، آمنه الله في قبره من هوام الأرض و ضغطة القبر ، حتى يقف بين يدي الله عز وجل ، ثم جاءت حتى تدخله الجنة [ بأمر الله تبارك وتعالى ] ” .
سورة الدخان : قال أبو جعفر عليه السلام : ” من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله ، بعثه الله من الآمنين يوم القيامة تحت عرشه ، وحاسبه حسابا يسيرا ، وأعطاه كتابه بيمينه ” .
سورة الأحقاف : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ كل يوم أو كل جمعة سورة الأحقاف ، لم يصبه الله بروعة في الحياة الدنيا ، وآمنه من فزع يوم القيامة ، إن شاء الله تعالى ” .
سورة محمد صلى الله عليه وآله :عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة(الَّذِينَ كَفَرُوا) لم يرتب أبدا، ولم يدخله شك في دينه أبدا ، ولم يبتله الله بفقر أبدا، ولا خوف من سلطان أبدا ، ولم يزل محفوظا من الشك و الكفر أبدا حتى يموت ، فإذا مات وكل الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ، يكون ثواب صلاتهم له،ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند الله عز وجل ، ويكون في أمان الله وأمان محمد صلى الله عليه وآله ” .
سورة الفتح : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” حصنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة 🙁 إِنَّا فَتَحْنا ) ، فإنه من كان يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق : أنت من عباد الله المخلصين ،ألحقوه بالصالحين من عبادي ، وأسكنوه جنات النعيم ، واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور” .
سورة ق : عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ” من أدمن في فرائضه ونوافله قراءة سورة ق ، وسع الله [ عليه في ] رزقه ، وأعطاه الله كتابه بيمينه ، وحاسبة حسابا يسيرا ” .
سورة الذاريات : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة الذاريات في يومه ، أو في ليلته ، أصلح الله له معيشته ، وأتاه برزق واسع ، ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة ” .
سورة الرحمن : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة الرحمن ، فقال عند كل آية ( فَبِأَيِّ آلاءِرَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) : لا بشيء من آلائك رب أكذب ، فإن قرأها ليلا ثم مات مات شهيدا ، وإن قرأها نهارا ثم مات مات شهيدا ” .
سورة الواقعة : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ في كل ليلة جمعة الواقعة ، أحبه الله وأحبه الىالناس أجمعين ، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا ولا فقرا ولا فاقة ، ولا آفة من آفات الدنيا ، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه السلام خاصة ، لم يشركه فيها أحد ” .
سورة الحشر : عن النبي صلى الله عليه وآله ، قال : ” من قرأ سورة الحشر لم تبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجب ولا السماوات السبع ولا الأرضون السبع والهواء والريح والطير والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له ، وإن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا ” .
سورة الجمعة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ” من أدمن قراءتها كان له أجر عظيم ، وأمن مما يخاف ويحذر وصرف عنه كل محذور ” .
سورة الملك : ” عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ” من قرأ هذه السورة ، وهي المنجية من عذاب القبر ،أعطي من الأجر كمن أحيا ليلة القدر ، ومن حفظها كانت أنيسه في قبره ، تدفع عنه كل نازلة تهم به في قبره من العذاب ،وتحرسه إلى يوم بعثه ، وتشفع له عند ربها وتقربه حتى يدخل الجنة آمنا من وحشته ووحدته في قبره ” .
سورة الفجر : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فإنها سورة للحسين بن علي عليهما السلام ، من قرأها كان مع الحسين عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنة ، إن الله عزيز حكيم ” .
سورة القدر : عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ” من قرأ (إِنَّا أَنْزَلْناه فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يجهر بها صوته ، كان كالشاهر سيفه في سبيل الله ، ومن قرأها سرا كان المتشحط بدمه في سبيل الله ، ومن قرأها عشر مرات غفر له على [ نحو] ألف ذنب من ذنوبه ” و عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ” من قرأ (إِنَّا أَنْزَلْناه فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) في فريضة من فرائض الله نادى مناد : يا عبد الله ، غفر الله لك ما مضى فاستأنف العمل ” .
سورة العاديات : عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال :” من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر كمن قرأ القرآن ، و من أدمن قراءتها وعليه دين أعانه الله على قضائه سريعا ، كائنا ما كان ” .
سورة التكاثر : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من قرأ سورة (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) في فريضة كتب الله لهثواب أجر مائة شهيد ، ومن قرأها في نافلة كتب الله له ثواب خمسين شهيدا ، وصلى معه في فريضته أربعون صفا منالملائكة إن شاء الله تعالى ” .
سورة العصر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ” من أدمن قراءتها ختم الله له بالخير ، وكان من أصحاب الحق و إن قرئت على ما يخزن حفظه إلى أن يرجع إلى صاحبه ” .
سورة الهمزة : عن أبي عبد الله ، قال : ” من قرأ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) في فرائضه ، أبعد الله عنه الفقر ، وجلب عليه الرزق ، ويدفع عنه ميتة السوء ” .
سورة الكوثر : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من كانت قراءته : ( إنا أعطيناك الكوثر ) في فرائضه ونوافله سقاه الله من الكوثر يوم القيامة ، وكان محدثه عند رسول الله صلى الله عليه وآله في أصل طوبى ” .
سورة الكافرون : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” كان أبي صلوات الله عليه يقول : ” ( قل هو الله أحد) ثلث القرآن ، و ( قل يأيها الكافرون ) ربع القرآن ” .
سورة الإخلاص : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ فيدبر الفريضة بـ ( قل هو الله أحد ) فإن من قرأها جمع الله له خير الدنيا والآخرة ، وغفر له ولوالديه وما ولد ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٣ ـ الوحي و أقسامه و فضل الوحي القرآني على غيره :
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم : ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ” سورة الشورى : 13
* غير خافٍ على أحد من المتشرعة أن جميع أقوال و أفعال النبي صلى الله عليه و آله و سلم تابع للوحي الإلهي بل هو صلوات الله و سلامه عليه و آله تجسيد للوحي بتمام وجوده فهو ” لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ” إلا أنه قد يكون وحياً لفظاً و معنىً و هو القرآن الكريم و قد يكون معناه وحياً و لفظه و قالبه منه عليه و آله آلاف التحية و الثناء و هو السنة المباركة ـ و إن أمكن القول بأن ألفاظ السنة أيضاً وحيانية و من الله تعالى مباشرة و لكنها ليست من الوحي الخاص القرآني الذي قد ضمن الله تعالى صيانته من التحريف و أن يكون في قمة الفصاحة و البلاغة و .. ـ .
* معنى الوحي : يقول الراغب الاصفهاني في تبيين معنى الوحي : أصل الوحي الإشارة السريعة ، و لتضمن السرعة قيل أمر وحي و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، و بالكتابة .. المفردات في غريب القرآن ص 515 .
* موارد استعمال الوحي : يقول العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف بعد نقل معنى الوحي من مفردات الراغب الاصفهاني : والمحصل من موارد استعماله انه القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد افهامه فالإلهام بإلقاء المعنى فيفهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كل ذلك من الوحي و قد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله و أوحى ربك إلى النحل الآية و قوله : ” وأوحينا إلى أم موسى ” القصص : 7 وقوله : ” إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ” الانعام : 121 وقوله :”فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ” مريم : 11 ومن الوحي التكليم الإلهي لأنبيائه ورسله قال تعالى : ” وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا “الشورى :51 / الميزان ج١٢ ص ٢٩٢ .
* فأطلق القرآن الكريم الوحي على : ١ – ما أودعه الله تعالى في غريزة الحيوان كما في الوحي إلى النحل و ٢ – مايلقيه في قلب المؤمن كما في الوحي إلى أم موسى و ٣ – ما يلقيه في قلوب الانبياء عن طريق الرؤيا في المنام كما في رؤيا إبراهيم عليه السلام في قصة ذبح اسماعيل عليه السلام و ٤ ـ ما توسوس به الشياطين إلى أوليائهم كما في الآية ١٢١ من سورة الأنعام ، و
٥ ـ ما يلقيه المتكلم إلى مخاطبه بالاشارة و الرمز كما في قصة زكريا عليه السلام عندما بُشِّر بيحيى و اُمر ألا يكلّم الناس ثلاث ليال سويا كما في سورة آل عمران و إلا رمزاً كما في سورة مريم ” فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ” سورة مريم : ١١ . و ٦ ـ تكلمه تعالى مع الأنبياء كما في الآية ٥١ من سورة الشورى التي تتحدث عن أنحاء تكلم الله تعالى مع البشر حيث يقول عز من قائل : ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ” فقد يكون التكلم عن طريق الوحي و الظاهر أنه التكلم المباشر كما الوحي على النبي في بعض الأحيان و سنشير إليه من خلال بعض الروايات ، و قد يكون من وراء حجاب كحجاب الشجرة و النار في الوحي الى موسى عليه السلام و قد يكون بإرسال الملك و أمين وحي الله تعالى ( جبرائيل ) كالوحي على عامة الأنبياء ومنهم خاتمهم و أفضلهم محمد صلى الله عليه و آله و عليهم و سلم تسليماً كثيراً ..
* أشرنا إلى أن الوحي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد يكون من الله مباشرة و قد يكون كسائر الأنبياء من وراء حجاب أو عن طريق جبرائيل عليه السلام ، و فيما يتعلق بالوحي المباشر ورد في الأحاديث أن ذلك كان بتجلي تعالى له فعن عبيد بن زرارة ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أنزل عليه الوحي ؟ فقال : ” ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له ، قال : ثم قال : تلك النبوة يا زرارة و أقبل يتخشع ” / التوحيد ص ١١٥ ، و عن هشام ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال بعض أصحابنا : أصلحك الله ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : قال جبرئيل عليه السلام ، وهذا جبرئيل يأمرني ، ثم يكون في حال أخرى يغمى عليه؟ قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام : ” إنه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل عليه السلام ،أصابه ذلك لثقل الوحي من الله و إذا كان بينهما جبرئيل عليه السلام لم يصبه ذلك ، فيقول: قال لي جبرئيل، وهذا جبرئيل يأمرني” / الامالي للشيخ الطوسي ص 663 الحديث 1385 / 29 .
* مقارنة بين الوحي على خاتم المرسلين و على غيره من أولي العزم : نعلم أنه لا فرق بين الرسل في اصل الرسالة وكونهم رسلاً من قِبَل الله جل و علا : ” لا نفرق بين أحد من رسله ” سورة البقرة : ٢٨٥ ، فيلزم الإيمان بالجميع و أن لا نفرق بين رسول و آخر فنؤمن ببعضهم دون بعض ، إلا أن هناك فرقاً في المنزلة و درجة النبوة و الرسالة فمن الأنبياء من هو رسول لديه كتاب منزل عليه من الله تعالى و منهم من ليس له كتاب بل هو نبي كما أن درجات الرسل فيما بينهم ـ و كذا الأنبياء ـ أيضاً مختلفة كما قال تعالى : ” تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ .. ” سورة البقرة : ٢٥٣ و من بين الأنبياء و المرسلين يختص أولوا العزم بأعلى الدرجات إذ أن كل واحد منهم صاحب شريعة مستقلة ناسخة لما قبلها من الشرائع و منسوخة بما يأتي بعدها إلى أن يصل الدور إلى شريعة خاتم النبيين عليه و آله صلوات المصلين فلا تُنسخ بشريعة أخرى لكونها خاتم الشرائع و ستكون الشريعة المتبعة لجميع المكلفين من الجن و الإنس و غيرهم إلى يوم الدين فهي ناسخة غير منسوخة ، فهناك فروق متعددة بين شريعة انبياء أولي العزم السابقين على الشريعة المحمدية صلى الله عليه و آله وسلم و بين هذه الشريعة الختمية من حيث درجة الرسالة والمعارف الإلهية النازلة فيها ، و من حيث درجة المرسل بتلك الرسالة و الشريعة و كماله الوجودي و القيمي ، و من حيث الشمولية الزمانية و عدم تقيّده بزمان خاص إلى أن تقوم الساعة و بهذه الاعتبارات و غيرها لا يقاس نبي و لا رسول بخاتم الأنبياء كما لا تقارن رسالة من رسالات السماء بالرسالة الخمية فإذا ما قورنت تلك الرسالات بهذه الرسالة كانت مقدمات لها و إذا قورنت معارفها بمعارف القرآن لما كانت قابلة للقياس معه كما أنه لا يقاس بصاحب هذه الرسالة و أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين احدمن الأنبياء و المرسلين و أولياء الله الصالحين ..
* و لأجل توضيح ذلك بالدليل نشير إلى بعض الآيات القرآنية الدالة على هذه الفروق بشيء من التوضيح فنقول :
١ ـ قال تعالى : ” وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ” / سورة آل عمران: ٨١ وللبحث حول دقائق و مغازي هذه الآية مجال واسع لسنا بصدده في هذه العجالة و في هذا المبحث المختصر إلا أن من جملة احتمالات الآية هو أن المقصود من الرسول في قوله تعالى : ” ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ ” هو النبي الخاتم صلى الله عليه و آله فيكون سائر الأنبياء عليهم السلام بناء على هذا التفسير بمثابة أمة الرسول الأكرم فهو صلوات الله عليه و آله رسول إلى الأنبياء عليهم السلام فأخذ الله تعالى الميثاق منهم للتصديق و الإيمان و البشارة بخاتم النبيين و قد صدّقوا به و بشروا به أممهم حتى جاء كثير من أهل الكتاب و سكنوا يثرب و حولها ترقبا للبعثة الختمية و الإيمان بالمبعوث بها صلى الله عليه و آله و سلم و إن كفروا به لما أرسل مع العلم بكونه حقاً و أنه هو الرسول المبشر به من قبل أنبيائهم عليهم السلام : ” وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ” سورة البقرة : ٨٩ .
٢ – و قال تعالى : ” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاتَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ .. ” سورة المائدة : ٤٨ ، فالقرآن يصدق بالكتب السماوية السابقة إلا أنه تصديقٌ بأنها كتب سماوية نازلة من الله تعالى على الأنبياء السابقين لا أنه مُبْق ٍ عليها لا يغيرها ولا ينسخها بل للقرآن هيمنة ٌ عليها كما قال تعالى : “وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” فينسخها و يغيرها في بعض الشرائع والأحكام و يضيف إليها معارف عميقة أخرى لم ينزلها تعالى في تلك الكتب والرسالات و ..
٣ – قال تعالى : ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه .. ” سورة الشورى : ١٣ ، و هذه الآيه قد دلت على الفرق الكبير بين الوحي القرآني و بين الوحي النازل على سائر أولي العزم من الأنبياء فمع أنهم أولوا العزم من الأنبياء إلا أنه عُدّ الوحي النازل إليهم مقارنةً بالوحي النازل على النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم مجرد وصايا إلهية : ( ما وصَّى ) (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ ) قبال ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) فالبرغم من أنه تعالى عندما يريد بيان أصل الوحي على الأنبياء يعدّ الجميع وحياً كما في قوله تعالى : ” إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ” سورة النساء ١٦٣ ، إلا أنه عندما يريد بيان الشرائع المختلفة يغير السياق بما سبق .
و هناك نكات أدبية في الآية كاستبدال ما الموصولة بشأن ما أنزل على نوح ( ما وصى ) و ما أنزل على إبراهيم و موسى وعيسى ( ما وصينا ) بـ (الذي) و هي أيضاً من الأسماء الموصولة إلا أن انتخاب اللفظ المشتمل على حروف أكثر يدل على التأكيد فإن ( زيادة المباني تدل على زيادة المعاني ) كما أنه بدّل أسلوب الكلام من الغائب فيما يتعلق بنوح:(وصّى) إلى المتكلم فيما يتعلق بسائر أولي العزم 🙁 أوحينا – وصّينا ) و بدّل صيغة المفرد بشأن ما وصّى به نوحاً إلى الجمع بشأن ما أوحى إلى النبي الخاتم و ما أوصى به سائر أولي العزم :(أوحينا ـ وصّينا) و لهذا الجمع قبال ذلك المفرد نكات بلاغية تُنْتِجُ نكاتٍ معرفية ًو لا مجال للخوض فيها .. و كل ذلك دليل على عظمة هذه الرسالة و المرسل بها و أنه لا يقاس بشريعته شريعة أحد منهم عليهم جميعاً سلام الله كما لا يقاس به أحد من الرسل و الأنبياء و لهذا يُصعد نبيه الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم إلى ما فوق السماء السابعة ليلة المعراج و يذكر له من الأوصاف ما لم يذكره لغيره من الأنبياء و المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين و يريه ما لم يُرِهم من الآيات الكبرى ، و هذا ما ذكرته الآيات التالية من سورة النجم التي نذكرها بلا شرح و تفسير حيث يتطلب مجالاً أوسع بكثير من هذا المختصر :
٤ – و قال تعالى : ” بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ، وَهُوَ بِالأفُقِ الأَعْلَى ، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ،فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ، وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ،عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ،إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ، لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ” سورة النجم : ١ – ١٨ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٤ ـ التجويد ـ التلاوة ـ التدبر ، ضرورة معرفة الغاية من الوسيلة :
قال الله العظيم في محكم آيات كتابه الكريم : ” كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ” سورة ص : 29 و قال عز و جل : ” أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتلافاً كَثِيرًا ” سورة النساء : 82 ، و قالعز من قائل : ” أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ” سورة محمد : 24 .
نزل القرآن الكريم من قِبل خالق الكون سبحانه و تعالى لأجل هداية البشرية و سائر المكلفين إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم في جميع جوانب الحياة المادية و المعنوية ، الفردية و الاجتماعية و في جميع النشئات ـ من الدنيا إلى الآخرة ـ ، ولا تتحق الهداية إلا في ظل تحقق شروطها من ناحية فاعل الهداية و قابلها ، أما من ناحية الفاعل ففاعليته تامة فإن من أرسل هذا الكتاب لأجل الهداية هو الله تعالى العالِم بجميع ما له مدخلية في الكمال و السعادة في جميع الأبعاد المذكورة فهو الإله العليم القدير الفعّال لما يريد الذي لا منتهى لعلمه و قدرته و قد أراد لعبيده الكمال و السعادة كما هو مقتضى كونهالكمال المطلق الذي يفيض منه جميع الفيوضات للحكمة المذكورة و العائدة إلى الخلق أنفسهم فإن الكمال المطلق إنما يفعلما يفعل لأجل كونه كمالاً لا لأجل أن يصل هو الى الكمال لنزاهته عن كل نقص و عيب و حاجة و .. كما هو واضح و مبيّن علمياً و معرفياً في العلوم المتكفلة بذلك ، مضافاً إلى أن هذا مبيَّن في آيات القرآن الكريم حيث أن جميع الآيات تتحدث عن ذلك مباشرة أو بأسلوب غير مباشر عن طريق بيان عناصر الكمال و السعادة علماً و عقيدة و أخلاقاً و عملاً ، هذا و قد أراد سبحانه و تعالى أن تكون حركتهم نحوهما باختيارهم من دون جبر و إكراه ( لا إكراه في الدين ) ، و الخلاصة أن فاعل الهداية هو الله القادر على ما يشاء العليم بالمصالح و المفاسد الرحيم بعباده و قد أرسل إليهم عناصر سعادتهم عن طريق رسله و أوليائه عليهم السلام فأتم الحجة على الجميع فلا يمكن لأحد أن يدّعي عدم وجود الحجة و ما يهديه أو يدعي نقصه في فاعليته في أمر الهداية .
و أما من ناحية القابل فقد جعل الله تعالى في خلقه المكلفين ما له مدخلية في ذلك تكويناً من العقل و القوى المُدركة والعاملة (المُعَبَّر عنها في العلوم العقلية بالقوى الإدراكية و التحريكية ) و أودع فيهم القدرة على الإرادة و الإختيار فأوكل إلى الإنسان بعد إيداع كل ذلك فيه قبول الهداية من عدمه تكويناً و إن لم يوكل إليه ذلك تشريعاً ، بمعنى أنه لم يجبره على القبول مع أنه يطلب منه ذلك في الشرع بأن يقبل بإرادته و اختياره ، فالقابلية أيضاً من ناحية كونها فعل الله تعالى و التي تعود إلى فاعلية الفاعل تامة ٌ لا نقص فيها و لكن فيما يتعلق بارادة المكلف فعليه هو بعد ما يشاهد المعجزات و البيّنات و البراهين القاطعة أن يؤمن و يقبل و يسلك طريق الهداية الناجية من العذاب و الموصلة إلى الكمال و السعادة في الدارين لا سيما فيما يتعلق بالآخرة من النعيم المقيم و الرضوان الذي هو النعيم الأكبر و السعادة الكبرى ..
و إذا اهتدى الانسان بالهداية الربانية و قـَبـِلها باختياره و إرادته فقد دخل في طريق الهداية و الصراط المستقيم إلا أن ذلك غير كاف و لا يفي بالمقصود حيث أن مجرد القبول لا يكون ناجياً و موصلا لكمال السعادة بل يلزم أولاً المعرفة بالتكاليف الفقهية و العقدية و الأخلاقية و ثانياً العمل بها بعد تلك المعرفة ، و بما أن القرآن هو المصدر الأساسي لذلك فمن البداهة بمكان لمن يريد الهداية أن يعرف القرآن بما فيه من معارف و مفاهيم تتعلق بالعلم و العقيدة و الأخلاق و العمل ليتمكن من الاعتقاد و التخلق و العمل بعناصر الهداية الموصلة للكمال و السعادة .
و من المعلوم أن معرفة القرآن تتوقف على مقدمات لا تتحق بدونها أو لا ترتقي الى الدرجة المطلوبة ، فمعرفة ظواهر القرآن تتوقف على معرفة اللغة العربية مع قواعدها من النحو و الصرف و البلاغة ـ فلولا معرفة القواعد و لولا تشخيص الفاعل من المفعول ، و الصفة و الموصوف من المضاف و المضاف إليه ، و الحال من التمييز و النهي من النفي و .. لما تمكنا منمعرفة المعاني الظاهرية للقرآن الكريم المبتنية على اللفظ العربي و تركيب الجمل بالأسلوب المبتني على القواعد ، و كذا فيمايتعلق بعلم الصرف لولا معرفة أبواب المصادر المشهورة و غيرها و جذور الكلمات و الصيغ المختلفة و .. لما عرفنا المعاني المقصودة من ظاهر آيات القرآن لا سيما أننا نجد أن الكلمة الواحدة يتغير معناها من صيغة لأخرى فمادة الضرب مثلاً تدخل في صياغات و أبواب مختلفة فله بنفس هذه الصياغة معنىً يختلف عن الضرب في صيغة باب المفاعلة (المضاربة) والتفاعل (التضارب) و الإفعال (الإضراب) و الإنفعال ( الانضراب ) و الافتعال ( الاضطراب ) و … فكما ترون المعاني مختلفة و أحياناً متضادة تماماً ، و كذا فيما يتعلق بعلم البلاغة فلولا معرفة الدقائق البلاغية و من جملتها التقديم و التأخير وأسبابهما و أدوات الحصر و التشبيه و التمثيل و الاستعمالات المجازية و الكنائية و الاستعارية و .. لما فهمنا المعنى الدقيقمع أنه من المعارف المتعلقة بظاهر القرآن الكريم ..
و أما معرفة المعارف و المفاهيم القرآنية الدقيقة فتتوقف على علوم مختلفة عقلية و نقلية و و لولاها لما تكاملت المعرفة أو لاختلت أركانها و هذا ما يؤدي أحياناً إلى عدم معرفة التناسب و الترابط العميق بين مختلف المفاهيم و المعارف الإلهية و هومن جملة أسباب حدوث الشبهات بل و الإنحراف عن الحق أحياناً جرّاء عدم معرفة مقاصد الحق جل وعلا الحقيقية في القرآن الكريم فقد يكون الانسان ملماً بالعلوم النقلية دون العلوم العقلية فيتمكن من معرفة الأحكام الفقهية و الأخلاقيات الواردة في القرآن و كذا السنة المباركة و لكنه يعجز عن المعرفة التامة أو الدقيقة للآيات المعرفية المتعلقة بالجوانب العقلية لاسيما التوحيدية منها سواء في توحيد الذات ـ الواحدية و الأحدية ـ أو في الصفات و الأفعال ـ و في مسألة التوحيد الأفعالي إذا لم يتمكن من الفهم الدقيق للمسألة و على ضوئها الآيات الدالة على التوحيد الأفعالي ابتلي بالجبر أو التفويض و إسناد فعل القبيح إلى الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ ، كما أن المتضلع في العلوم العقلية دون النقلية أيضا قد يلتبس عليه فقهيات الكتاب و السنة و غيرها من الجوانب المتعلقة بالعلوم الاعتبارية ( و البحث في و عن أسباب حدوث الشبهات أو الانحرافات الفكرية يتطلب موضعاً آخر غير ما نحن فيه و مجالاً أوسع من هذا المختصر ) .
و أما علم التجويد فهو أيضاً مهم في حدّ ذاته و لكنه يتعلق بصحة أو حسن التلاوة و قراءة القرآن، فما يتعلق بتصحيح القراءة من مخارج الحروف و غيرها أمر ضروري للإجتناب عن القراءة الملحونة ، و أما ما يتعلق بتحسين القراءة من دون أن تتوقف صحة القراءة عليه كالتفخيم و الترقيق و القلقلة و .. فتعلمها و إعمالها حسن و لكنها ليست ضرورية حيث لا تتوقف صحة القراءة عليها و لا هي مقدمة للفهم الأكثر لمفاهيم و مضامين الآيات القرآنية بل هي مجرد وسائل لتجويد و تحسين القراءة و ..
و بهذا الاعتبار يجب التمييز بين الهدف و غيره و عدم الخلط بينهما ، فكما أشرنا هدف القرآن و العترة الطاهرة عليهم آلاف الثناء و التحية ـ و هما الثقلان اللذان تركهما النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمته ـ هو الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل للكمال و السعادة الحقيقية ، و القرآن كتاب عظيم مشتمل على معارف عظيمة و مفاهيم عميقة فإذا اشتغلنا بالتجويد ـ و هو كما أسلفنا أمر حسن في حدّ ذاته ـ لزم ألا نتوقف عنده فنغفل عن الهدف الأساس و ما لأجله اُنزل القرأن ،و بما أن الغالبية ليسوا أخصائيين في العلوم الدينية و المعارف الالهية قد لا نتمكن من تكليفهم بالغور و التعمق في الآيات لنيل المقاصد العلية و لكن يمكننا أن نقول أن على كل مسلم أن يسعى في معرفة ظواهر القرآن و معاني عباراته ـ و هو للعوام كما في بعض الروايات ـ بالتدبر في آياته و مراجعة التفاسير المعتبرة و المشاركة في دروس التفسير التي تُعقد فيبعض المناطق من قبل بعض الفضلاء و أهل العلم المتمكنين في العلوم الدينية و التفسير و .. شكر الله مساعيهم و أثابهم خير جزاء الدارين ـ و بعبارة أخرى إما أن نكون أخصائيين فنقوم بالتدبر و التفكر العميق بقلوب صافية و على ضوء العلوم التي اكتسبناها ، و إما أن نستمع للأخصائيين بالمشاركة في دروسهم و مراجعة تأليفاتهم و هذا هو المنقذ من الجهل والعذاب كما أنه سُلّم الكمال “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ” سورة الملك : 10 ـ ففي الآيات التي ذكرناها بداية هذا المبحث حثّ على التدبر و تأنيب على تركه و ما ذلك إلا لأجل أن الهداية و التدرج فيها هو الهدف من إرسال الرسل و إنزال الكتبِ و القرآن ِ الكريم ، و لا يتحقق ذلك إلا بتميم القابلية في أنفسنا بما أسلفنا في البداية و بالتدبر المشار إليه هنا فقد قال الامام الصادق عليه السلام : ” إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليَجْلُ جالٍ بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ” الكافي ج 2 ص 600 ( قوله عليه السلام فليجل فعل أمر غائب إما من الجلاء ـ فليَجْلُ ـ أو من الإجالة و الجَوَلان ـ فليَجُلْ ـ) .
و أما تلاوة القرآن الكريم فهي أيضاً من جملة الأمور المهمة في هذا المجال و قد أسلفنا في بحث سابق عظيم الثواب لها ، و من المعلوم أن نيل الثواب و التقرب بذلك إلى الله تعالى أمر مطلوب بل التقرب إليه سبحانه مطلوب نفسي لنا فإنه الكمال و الكمال مطلوب فطري أو غريزي لكل موجود ذي شعور و إدراك إلا أنه يلزم أن تكون نظرتنا إلى التلاوة نظرة طريقية و مقدمية بمعنى أن الوصول إلى الكمال بالقرب العبودي و المعرفي إلى الله تعالى هو الهدف و تلاوة القرآن وسيلة و طريق إلى المعرفة و تجذّر روح العبوية لله تعالى في الإنسان و إلى العمل بأحكامه و معارفه بالجوارح و الجوانح ، و قد تكون الحكمة في ذلك الثواب العظيم لقراءة القرآن الكريم و سوره تشويق الناس للالتفاف حول القرآن والتسابق إليه وهدايتهم نحو المعرفة و العلم و العمل به .
رزقنا الله و إياكم العلم و المعرفة و العمل بآيات كتابه و التقرب إليه بحق محمد آله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٥ ـ ضرورة المعرفة بالقرآن و بيان أقسامها :
قال الله جل و علا : ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ” سورة البقرة : 266 ، و قال سبحانه و تعالى : ” كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ” سورة آل عمران : 103 ، و قال عز من قائل : ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” سورة يوسف : 2 .
سبق أن ذكرنا أن ما يوصل الإنسان إلى معارف القرآن و مغازيه و يبلغه درجات الكمال هو التفكر و التدبر في القرآن و العمل به و أن معرفة اللغة و القواعد و البلاغة مقدمات ضرورية لذلك و أن علم التجويد مطلوب لتصحيح و تحسين القراءة كما أن التلاوة أيضاً أمر مهم لنيل الثواب مضافاً إلى كونها مقدمة للتدبر و التفكر في الآيات ، إلا أن التدبر و التفكر هو الطريق و الوسيلة الأهم لنيل المعارف القرآنية ، و قد قسّم الباحثون في العلوم القرآنية المعرفة بالقرآن إلى ثلاثة أقسام نشير إليها في هذا المقال (و إذا أردتم التفصيل أمكنكم مراجعة الكتب المدونة في العلوم القرآنية أو الكتب المؤلفة للتعرف الاجمالي على القرآن الكريم ككتاب ” آشنايي با قرآن باللغة الفارسية) فنقول :
أقسام المعرفة بالقرآن :
لمعرفة القرآن أقسام أو أبعاد ثلاثة :
ألف ـ المعرفة السندية :
ما يُستند إليه لإثبات المفاهيم الدينية من الأحكام و الأخلاق و العقائد و المعارف يجب أن يكون ثابت الحجية حيث أننا نريد أن نستند في أعمالنا و عقائدنا و … إلى ما يكون حجة بيننا و بين ربنا كيما إذا سألنا الله تعالى يوم القيامة لم فعلت كذا ؟ أو لم اعتقدت بهذا الأمر ؟ تمكنّا من الإجابة بأننا تمسكنا بهذه الحجة و هذا الدليل ، فمثلاً إذا وردت رواية على حكم شرعي ما ، أول ما يجب معرفته هو صدوره من مصدر التشريع و ما لم يحصل العلم أو الإطمئنان بصدوره عن المعصوم الذي يكون كلامه حجة شرعية بيننا و بين الله تعالى لم نتمكن من الإستناد إليه لإثبات ذلك الحكم ـ و لهذا البحث نطاق واسع لسنا بصدد الغور فيه ـ .
و القرآن أيضاً باعتباره الدليل الأول و هو المصدر الأساس للمعرفة الدينية بل قد أشرنا فيما سبق هو الميزان في معرفة دليلية الأدلة الأخرى و لهذا يجب أن يثبت لدينا انتسابه الى الله تعالى و أنه صادر و نازل من قبل الله تعالى ليكون حجة إلهية إلا أن القرآن الكريم لا يحتاج إلى كثير بحث و تحقيق لمعرفة أنه هو القرآن النازل من ذي الجلال إذ أن الأدلة والقرائن الموجبة للقطع بذلك كثيرة جداً نشير هنا إلى بعضها : أما أولاً فقد نُقل القرآن بشكل متواتر لا يُبقي أدنى شك في أنه هو القرآن النازل من الله تعالى على قلب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم .
و ثانياً نعلم خارجاً أن القرآن الكريم هو الكتاب النازل من قِبل الله تعالى و ليس لدينا نسخة أخرى من القرآن يدّعي أحد أنه هو القرآن النازل ليقع النزاع و الخلاف في إثبات أن أيهما هو القرآن الأصيل الذي كان على عهد النبي الخاتم صلوات الله عليه و آله و هذا دليل قاطع على أن ما بأيدينا هو القرآن النازل و غاية ما يمكن أن يُدّعى هو وقوع التغيير فيه وهو مدفوع بما سنشير إليه لاحقاً ـ و هذا الأسلوب في الاستدلال قابل للتطبيق في كثير من الأمور فكل ما ثبت أصله ومفهومه العام و ادّعى أحد أو طائفة انطباقه على مصداق خاص و لم يوجد من يدّعي انطباقه على فرد و مصداق خارجي آخر بمعنى عدم وجود المعارض للمدّعى الأول ثبت انطباقه عليه فمثلاً نعلم بوجود آيات تدل على عصمة أفراد في الأمة الإسلامية غير النبي الخاتم صلى الله عليه و آله كما يستفاد ذلك من آية التطهير و آية إطاعة اولي الأمر و آية إيراث الكتاب للمصفين في هذه الأمة و .. فالشيعة تدّعي أنهم هم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام و لا يوجد لهذا المدّعى معارض حيث لا يوجد أحد يدّعي العصمة لغير هؤلاء عليهم السلام فيتعين حمل تلك الآيات عليهم و إلا لزم أن يكون ما دل على عصمة أفراد من هذه الأمة لغواً و حاشا القرآن أن يكون فيه ذلك ، و هذا النوع من الاستدلال قابل للتطبيق على القرآن نفسه أيضاً كما أشرنا ..
و ثالثاً القرآن كتاب معجز لم و لن يتمكن أحد بالمجيء بمثله بل بسورة من مثله و قد تحدى القرآن جميع الخلق من الجن و الإنس أن يأتوا بمثله فقال جل و علا : ” قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ” سورة الاسراء : 88 ، و قال : ” أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” سورة هود : 13ـ 14 ، و في النهاية يتحدّى قائلاً ” وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ” سورة البقرة : 23 ـ 24 ، و هذا التحدي قائم إلى يومنا هذا و سيظل قائماً إلى قيام الساعة و لم يأت أحد إلى يومنا هذا و لن يأتي بكتاب يوازي القرآن في أدبه و بلاغته و فصاحته فكيف بمعارفه التي سنشير إليها في القسم الثاني من المعرفة بالقرآن الكريم ، ألا يدل ذلك و بكل وضوح و جلاء أن هذا القرآن هو ذلك القرآن النازل من الله تعالى .
و رابعاً بقاء القرآن على حاله من دون أن تناله أيدي التحريف ـ و قد أقيمت أدلة عقلية و نقلية قاطعة على صيانة القرآن من التحريف و القائل به شاذ و محجوج بتلك الأدلة القاطعة ـ خير دليل على أنه كتاب إلهي و أن ما بأيدينا هو ذلك القرآن النازل من الله تعالى على قلب النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم .. و قد نقل بعض أساتذتنا أنه قد قارن بعض أجلاء العلماء القرآن الذي بأيدينا مع النسخة القديمة الموجودة في مكتبة النجف الأشرف بخط أمير المؤمنين عليه السلام فلم يجد بينهما اختلافاً و لا في حرف احد ،مضافاً إلى أننا نجد أن رسم الخط القرآني يختلف مع المتداول في اللغة العربية فقد كتب كُتّابُ الوحي القرآنَ بأسلوبهم في الكتابة فكتبوا التاء المربوطة مفتوحة أحياناً و في بعض الكلمات كما في قوله تعالى : ” أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ” سورة الزخرف : 32 كما حذفوا همزة الوصل في البسملة و الألف من أيها في قوله تعالى : ” سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلان ” سورة الرحمن : 31 و .. و لشدة حرص المسلمين على صيانة القرآن من التغيير لم يغيّروا هذه الكلمات إلى ما هو المتعارف في الخط العربي مع أن ذلك لا يعدّ تحريفاً و لكنهم مع ذلك صانوه منه .
و خامساً التناسب و الارتباط الوثيق بين الآيات و عدم وجود الاختلاف و التضادّ بينها خير شاهد و دليل على أنه هوالقرآن النازل من الله تعالى و نكتفي في ذلك بقوله تعالى : ” أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِاخْتِلافًا كَثِيرًا ” سورة النساء : 82 .. هذا كله و عشرات الأدلة و الشواهد و القرائن القطعية الاخرى في القسم الأول من المعرفة بالقرآن و هو في الواقع مقدمة للبعد الثاني و هو :
ب ـ المعرفة بمضامين و مفاهيم القرآن الكريم أو ما يعبّر عنه البعض بالمعرفة التحليلية للقرآن :
سبق أن ذكرنا أن المهم في المعرفة القرآنية هو معرفة مفاهيمه و مضامينه الفكرية في مختلف جوانب الحياة فبما أن القرآن هو الكتاب الإلهي النازل من الله خالق الكون و هادي المكلفين إلى الصلاح و الفلاح و ما هو دخيل فيهما فمن المهم جداً أن نعرف حقيقة الصلاح و الفلاح و السعادة و الكمال و الطريق الموصل إليها في منظور القرآن الكريم و أن نعلم ماهي الرؤية الكونية من وجهة نظر القرآن و أية أيديولوجية يقدمها لنا ، يقول العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان في كتابه ” القرآن في الاسلام ” ما ترجمته : ” إن هذا القرآن .. يبين لنا رؤية كونية متكاملة مبتنية على أدق البراهين العقلية و التي تُعدّ سنداً لأهم أركان السعادة في حياة البشرية ، و يدعو الناس إلى الإيمان بحسن النية و مع أخذ العاقبة الحسنة بعين الاعتبار ، و أما فيما يتعلق بحاجات الإنسان فقد جعل القرآن الكريم توحيد إله الكون قاعدة و أصلاً أساسياً لنفسه ، ويستنتج منه جميع المعارف الاعتقادية فلم يغفل في هذا المجال من أي شيء مهما كان صغيراً ” ثم يتطرق رحمه الله لاستنتاج الفضائل الأخلاقية من ذلك الأصل فيبين ذلك ببيان شاف إلى أن يصل إلى شرح الأفعال الفردية و الاجتماعية حسب الفطرة الانسانية و يحيل التفاصيل و الخصوصيات الى السنة المحمدية ، و يستنتج من مجموع الكتاب و السنة الدين الاسلامي بشموليته المحيرة للعقول حيث يشتمل على جميع دقائق الحياة الفردية و الاجتماعية للجميع و لجميع العصور فيُصدر لهم أحكاماً ايجابية من دون أن يحدث أي تضاد و تدافع بينها .. ثم يبين نظرة القرآن إلى الله و صفاته و أنها عين ذاته المستجمعة لجميع الكمالات النزيهة عن كل نقص و أنه يسبحه جميع ذرات الكون كما قال : ” َإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ” سورة الاسراء : 44 ، كما أن للكون في المنظور القرآني هدفاً و لم يُخلق لغواً و عبثاً كماقال : ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ” سورة المؤمنون : 115 ، كما يتحدث عن السنن و القوانين الثابتة السائدة في الكون و أن النظام العلّي و المعلولي سارٍ في جميع أجزاء العالم .. إلى أن يحين وقت قيام الساعة فيتغيرالنظام الكوني و القوانين السائدة : ” يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ” سورة إبراهيم : 48 ، كما يشير إلى كونالانسان عزيزا و قد خُلق مختاراً : ” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً ” سورة الانسان : 3 …
و يبين الشهيد المطهري قدس سره ـ على ما نقل عنه مؤلفوا كتاب “آشنايي با قرآن” ـ في كتاب ” شناخت قرآن ” يبين موقف القرآن من العقل و أنه يعطي العقل قيمته و يراه مناط التكليف و يذم العقلاء الذين لا يستفيدون من عقولهم كما يحذّر من عثراته و يصر على التوجه و الالتفات إلى الأخطاء الثلاثة التي يبتلى بها العقل الانساني و هي : ١ ـ أخذ الظن محل اليقين ..
٢ ـ التقليد الأعمى .. ٣ ـ اتباع الهوى ..
ج ـ المعرفة الجذرية و مقارنة القرآن بغيره من الكتب السماوية:
يقول مؤلفوا كتاب آشنايي با قرآن : إذا سُئلنا عن القرآن أهو مبتكر في أفكاره أم أنه يقلد الغير ؟ نجيب بأن القرآن يعرّف نفسه على أنه كلام إلهي و ليس كلاما مستقلا بشرياً حتى في كلمة واحدة منه و .. و قد كان في عهد نزول القرآن الكريم كتابان سماويان آخران التوراة ( العهد العتيق ) و الانجيل ( العهد الجديد ) ، و من المعلوم أن الأصول الأساسية فيجميع الأديان غير مختلفة فالتوحيد و عبادة الله وحده و الاعتقاد بالمعاد و نزول الوحي و ثبوت النبوة من الأصول الأساسية و المشتركة بين جميع الأديان إلا أن وقوع التحريف في كتب العهدين أدى إلى عدم إمكان المقارنة بين المعارف الموجودة فيهما مع معارف القرآن الكريم فإله التوراة إله يمشي في الجنة و لا علم له بأعمال خـَلْقـَيه آدم و حواء و يبحث عنهما هناك فلايجدهما في ناديهما و يعرف من اختبائهما خلف الأشجار أنهما قد أكلا من الشجرة الممنوعة ، كما أن توحيد الانجيل هو التثليث و القول بالأقانيم الثلاثة و ألوهية المسيح عليه السلام ….
أقول : أين هذا من معارف القرآن و لا سيما في الأبحاث التوحيدية حيث يتحدث القرآن عن إله واحد أحد بسيط غير مركب من أجزاء ـ من أي نوع كانت تلك الأجزاء و في أي ظرف كان التركب فإن التركب ينافي الألوهية و وجوب الوجود كماهو مبيّن و مبرهن عليه في محله و قد بيّن القرآن أن التركب و الزوجية في الوجود من خصائص الممكنات و المخلوقات كمافي سورة الذاريات و غيرها .. ـ كما يدل القرآن على كون صفاته الذاتية من العلم و القدرة و الحياة و غيرها غير متناهية فهو بكل شيء محيط عليم و على شيء قدير و .. و لا يحدّ علمه و قدرته شيء و هذا و غيره دليل كون صفاته الذاتية عينذاته المتعالية و بيانه يتطلب مقدمات و بياناً خارجاً عن موضوع مقالنا هذا ، و قد أشرنا فيما نقلناه عن العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف أن القرآن يبني جميع معارفه و أحكامه و الأسس و المسالك الأخلاقية على التوحيد في أبعاده المختلفة من التوحيد في الذات بمعنى واحدية الذات و أحديتها و التوحيد في الصفات و الأفعال ـ و هو أي التوحيد الأفعالي في مصطلح المتكلمين و الفلاسفة بمعنى استقلاله تعالى في أفعاله فلا معين له فيها و لا يتمكن غيره من إعانته تعالى حيث أنه بتمام وجوده قائم به تعالى فكيف يتمكن من أن يعينه ، و في مصطلح العرفاء بمعنى أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله و هذا أيضاً يثبت بقيوميته تعالى و .. ، و كلا المصطلحين حق و مستفاد من آيات القرآن الكريم و لكن يحتاج إلى سرد الآيات وبيان المقدمات التي يتوقف معرفة معانيها عليها ثم تفسير و بيان نفس الآيات … فأين هذه المعارف العميقة و أين ما ورد في التوراة و الإنجيل المحرفين بشأن التوحيد و الصفات العليا و الأسماء الحسنى لله تعالى ، مضافاً إلى أن القرآن هو خاتم الكتب السماوية النازل على خاتم أنبياء الله تعالى ليبقى هاديا للمكلفين إلى يوم الدين فلا محالة يكون أكمل كتاب سماوي ومشتملاً على أكمل المعارف الإلهية و أدقها ليستفيد منه جميع المكلفين من خواصهم و عوامهم على مرّ العصور فمهما تطورت العلوم و تكاملت العقول لم يستغن أحد من التدبر فيه لنيل معارفه فإن فيه ما هو أدق و أعمق مما توصلوا إليه و … فحتى لو افترضنا أن الكتب السماوية السابقة لم تُحَرَّف مع ذلك لما كانت معارفها قابلة للقياس مع معارف القرآن الكريم .. وفقنا الله و إياكم لمعرفة القرآن إنه حميد مجيب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٦ ـ نزول القرآن الدفعي و التدريجي :
قال تعالى : ” بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” سورة القدر : ١ ـ ٣ . و قال عز من قائل : ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ” سورة الدخان : ٣
نعلم جميعاً أن الله سبحانه و تعالى قد أنزل القرآن الكريم في ليلة القدر العظيمة المباركة كما نعلم أيضاً أن القرآن كان ينزل نجوماً و تدريجياً حسب الحاجات الفردية و الاجتماعية إما ببيان أمر جزئي مصداقي فقهياً كان أم أخلقياً أم عقيدياً أم في الجوانب الأخرى ـ و إن كان الحكم المصداقي أيضاً قابلاً للتطبيق على المصاديق المشابهة و المستقبلية حيث أن القرآن لا يموت بموت مورده و مصداقه الخارجي ـ و إما ببيان القواعد العامة التي يمكن الاستفادة منها في كل جديد وهذا الأمر جار في السنة المباركة المحمدية صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً و لهذا وردت السنة في الجزئيات و الكليات العامة جميعاً و قد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال :” إنما علينا أن نلقى إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا” وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٤١ باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي .. الحديث ٥١ ، و لهذا نقول أن هذا القرآن بشكلخاص و الدين الإسلامي بجميع مصادره و حججه بشكل عام دين عالمي لجميع الأزمنة و الأمكنة و المجتمعات و الظروفوالمستويات العلمية و العقلية و .. و ما ذلك إلا لأجل أن القرآن و الدين الحنيف يبين الصراط المستقيم للكل و يجيب علىأسئلة الجميع و في جميع الموضوعات و ..
و وجه الجمع بين هذين الأمرين ـ أي كون القرآن قد اُنزل في ليلة القدر و كونه قد نُزّل تدريجاً ـ هو أن كتاب الله تعالى قد أنزل بوجهين نزولٍ دفعي ٍ إجمالي و تدريجي ٍ تفصيلي ، و القرآن الكريم يعبّر عن الدفعي بالإنزال من باب الإفعال و عن التدريجي بالتنزيل من باب التفعيل فيقول بشأن النزول الدفعي عند إسناده إلى الله تعالى : ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ” أو: ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ” أو ” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ” سورة البقرة : ١٨٥ ، و لكنه يعبِّر عن التدريجي بقوله جل و علا : ” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ” سورة الإسراء : ٨٢ ، و قوله تعالى :”وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ” سورة الإسراء :١٠٦ .
النزول الدفعي كما أشرنا نزول إجمالي ، و ليس المقصود من الإجمالي معناه المصطلح في علم أصول الفقه الذي يكون العلم فيه محفوفاً بالإبهام و الشك بل المقصود أن جميع المعارف و مغازي القرآن الكريم قد نزلت جملة ً واحدة ً و بوجود جمعي في ليلة القدر على قلب النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم من دون تفاصيل الألفاظ بينما يشتمل النزول التدريجي على تفاصيل المعارف بألفاظها القرآنية الخاصة .
و بما أن القرآن قد نزل جملة واحدة على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ليلة القدر فقد كان النبي عالماًبما يريد الله تعالى إنزاله و لأجل أن لا يسبق النبيُّ الوحيَ في ألفاظه التفصيلية جاء النهي عن الاستعجال بقراءته قبل أنيُقضى إليه وحيه فقال عز وجل : ” وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ” سورة طه : ١١٤ وقال عز من قائل :”لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ” سورة القيامة : ١٦ ـ ١٨ ،نعم قد ذكر بعض الأعاظم أحتمالات أخرى في معنى الآيتين و لكن الظاهر هو ما ذكرناه كما قوّاه المحققون و من جملتهم العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف في تفسيره القيم ” الميزان ” .
و الأمر الآخر هو أن نزول القرآن أو إنزاله و تنزيله لا يعني أنه قد أُنزل أو نُزِّل من السماء المادية الجسمانية فإن اللهتعالى حاضر بالحضور العلمي القيومي في كل مكان بل المقصود النزول من مقام العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ أو ما شابه..
قلنا أن النزول الإجمالي كان في ليلة القدر و قد قيل في وجه تسميتها بليلة القدر وجوه كثيرة نشير هنا إلى بعضها :
* قيل أنها سميت بالقدر لأنها الليلة التي يكتب فيها المقدرات و ما سيحدث في العالم إلى العام القابل .
* وقيل : لأجل أنها ليلة التقدير ، لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن .
* و قيل أنها سميت بذلك لشرف هذه الليلة و عظمتها من القدر بمعنى الشرف و المنزلة كما في قوله تعالى : ” وَمَا قَدَرُوااللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ” سورة الأنعام : ٩١ أي ما عظموه حق عظمته كما ذهب إليه الزهري .
* و قيل سُمّيت بذلك لأن من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر و شرف ، و هذا الوجه نفس السابق إلا أنه يرجعالقدر و المنزلة و الشرف للعامل فيها .
* و قيل أن ذلك لأجل أن ثواب العمل فيها أعظم فيرجع الشرف و المنزلة و العظمة للعمل و ثوابه .
* و قيل : الوجه هو أنه اُنزل فيها كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر لأجل أمة ذات قدر على يدي ملك ذي قدر .
* و قيل : وجه ذلك أن الأرض تضيق بالملائكة في تلك الليلة ، من قبيل قوله تعالى : ” وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ” سورةالطلاق : ٧ .
* و في النهاية تجدر الإشارة إلى أن لكل من النزول التدريجي و الدفعي فوائد خاصة به و من جلمتها أن النزول التدريجي للقرآن الكريم يوجب الارتباط الدائم و المستمر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم مع مصدر الوحي بينما يكون النزول الدفعي في وقت واحد فينقطع الارتباط ، كما أن هذا النوع من النزول كان سبباً لحفظ القرآن الكريم من قِبل المسلمين في الصدر الأول ، و أما النزول الدفعي فمن جملة فوائده حضور جميع المعارف القرآنية لدى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من بداية الدعوة و الرسالة ، و قد يكون ما ذكرنا من جملة أسباب تنوع نزول القرآن إلى الدفعي والتدريجي و الله العالم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٧ ـ مصطلحات قرآنية :
قال الله العظيم في كتابه العزيز : ” هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألبَابِ ” سورة آل عمران : ٧
هناك مصطلحات قرآنية يحسن بنا أن نتعرف عليها إلا أننا لضيق المجال لا نتمكن من التطرق لجميعها فنشير إلى بعضها و نقول توكلين على الله العلي القدير :
ألف ـ الظاهر و الباطن :
ورد في الروايات أن للقرآن ظهراً و بطناً و لبطنه بطناً إلى سبعة أبطن أو سبعين بطناً ، والظاهر هو ما يُفهم من الألفاظ والكلمات و الجمل بموادها و هيئاتها ـ كهيئة اسم الفاعل و اسم المفعول و الصفة المشبهة و صيغ المبالغة و كهيئة الجمل كفعل الأمر و النهي و .. ـ حسب الوضع اللغوي أو المتفاهم العرفي و أما الباطن فهو ما يقابل الظاهر بمعنى ما يخفى على غير أهله إما لأجل أن اللفظ بظاهره لا يدل عليه أو أنه يدل عليه و لكن يحتاج إلى مراجعة آيات أخرى و الربط بينها لمعرفة المقصود منها أو لأجل دقة المفهوم و المعنى المقصود لابتنائه على أسس علمية و فكرية أو لأجل أن هناك فروعاً كثيرة تتفرع على قاعدة أو حتى كلمة قرآنية لا يعرفها إلا الراسخون في العلم كما سنشير في كلمة ” الصمد ” أو لأجل أن للآية مصاديق خفية لا يتمكن كل أحد من تطبيقها عليها أو لأيّ سبب و دليل آخر ..
و بذلك يتبين أن بعض مصاديق الباطن يمكن الوصول إليه من قِبل غير المعصومين عليهم السلام أيضاً كما سنشير إلى بعض الأمثلة و بعضها لا يمكن معرفتها إلا ببيان المعصوم عليه السلام ، و إليكم بعض الأمثلة :
* المثاني : قال تعالى :” ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم “سورة الحجر : ٨٧ ، ففي مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي ج ١ ص ٥٣١ : السبع المثاني في ظاهر القرآن سورة فاتحة الكتاب ، وهي سبع آيات سميت بالمثاني لأنها تثنى في الركعتين كما ورد ذلك في بعض الروايات ، وفي باطن القرآن الأئمة عليهم السلام (ففي) التوحيد : عن أبي جعفر عليه السلام قال : نحن المثاني التي أعطاها الله نبينا – الخبر
* الكتاب المبين : كما أن الإمام المبين ينطبق على أمير المؤمنين عليه السلام أو الأئمة عليهم السلام بشكل عام ـفيكون ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الروايات من باب المصداق ـ كذلك الكتاب المبين فقد ورد أنه عليه السلام هوالقرآن الناطق و أنه الكتاب المبين في قوله تعالى : ” و ما من غائبة في السماء و الأرض إلا في كتاب مبين ” سورة النمل : 75 ، و كذا في الآيات الأخرى التي تذكر الكتاب المبين ـ راجع مستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤٥ و ج ٩ ص ٢٠ .
* النعيم : فقد ورد في تفسير قوله تعالى : ” ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم ” سورة التكاثر : ٨ ، أن النعيم هو الحقالذي عليه المؤمنون أو أنه محمد و آله الطاهرون عليهم السلام ـ كما في المحاسن ج ٢ ص ٣٩٩ و ٤٠٠ ـ أو أنه حب أهلالبيت و موالاتهم ـ كما في العيون ج ١ ص ١٣٧ ـ
* الرزق : الرزق يطلق على ما يقوته الانسان لحفظ حياته و من الممكن أن يطلق على الرزق المعنوي الذي تقوم عليه الحياة المعنوية و الروحانية و لهذا ورد عن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ” ومما رزقناهم ينفقون “سورة القرة : ٣ ، قال : مما علمناهم يبثون ، ومما علمناهم من القرآن يتلون ـ بحار الأنوار ج ٨٩ – ص ٣٧٥ .
* الصمد : قال العلامة الطباطبائي في معنى الصمد : ” الأصل في معنى الصمد القصد أو القصد مع الاعتماد يقال: صمده يصمده صمدا من باب نصر أي قصده أو قصده معتمدا عليه ، وقد فسروا الصمد – وهو صفة – بمعاني متعددة مرجع أكثرها إلى أنه السيد المصمود إليه اي المقصود في الحوائج ، وإذا أطلق في الآية ولم يقيد بقيد فهو المقصود في الحوائج على الاطلاق . وإذا كان الله تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه انهشئ غيره ، في ذاته وصفاته وآثاره ” ـ تفسير الميزان ج ٢٠ – ص ٣٨٨ ، و هذا واضح إلا أن الصمد يشتمل على معارفكثيرة و عميقة يُعدّ بعضها من الظاهر و بعضها من الباطن الذي يخفى على عامة الناس لابتناء استنتاجها من قوله تعالى ” الله الصمد ” على القواعد و العلوم العقلية ، و لكن له من الباطن ما يخفى على غير المعصومين عليهم السلام فكيف بعامةالناس فقد ورد فيه ما يحير العقول فعن الإمام الباقر عليه السلام في حديث طويل أنه قال عليه السلام : ” … لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عز وجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان و الدين والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين عليه السلام حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح مني علما جماً … ” التوحيد للشيخ الصدوق رحمه الله تعالى ص ٩٢ – ٩٣ .
قد أشرنا أن بعض البواطن يمكن الوصول إليها عن طريق غير المعصومين أيضاً و ذلك بملاحظة الآيات المرتبطة بالآية التي تشتمل على معارف باطنية و التدبر و التدقيق فيها و مثالاً على ذلك ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف حيث قال في بيان مصداق من مصاديق باطن القرآن 🙁 يقول الله تعالى في كلامه المجيد :”واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً” سورة النساء : ٣٦ ، ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى ” فاجتنبوا الرجس من الأوثان ” سورة الحج : ٣٠ ، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى ، وهذا لا يختص بعبادة الأصنام بل عبر عز شأنه عن إطاعة الشيطان أيضا بالعبادة حيث قال : ” ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ” سورة يس : ٦٠ ، ومن جهة أخرى يتبين أنه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين أن تكون للغير أو للانسان نفسه ، فان إطاعة شهوات النفس أيضا عبادة من دون الله تعالى كما يشير اليه في قوله : ” أفرأيت من اتخذ الهه هواه ” سورة الجاثية : ٢٣ ، وبتحليل أدق نرى أنه لا بد من عدم التوجه إلى غير الله جل وعلا ، لأن التوجه إلى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له ، وهذا هو العبادة والطاعة بعينها ،يقول تعالى :” ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس” إلى قوله ” أولئك هم الغافلون ” سورة الأعراف : ١٧٩ . عند التدبر في هذه الآيات الكريمة نرى بالنظرة البدائيةفي قوله : ” و لا تشركوا به شيئا ” أنه تعالى ينهي عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادةغير الله من دون أذنه ، ولو توسعنا أكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الانسان نفسه باتباع شهواتها ، أما لو ذهبنا إلىتوسع أكثرفنرى النهي عن الغفلة عن الله و التوجه إلى غيره . ان هذا التدرج – ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا – جار في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء . و بالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في كتب الحديث والتفسير من قوله : ” ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن ” تفسير الصافي المقدمة الثامنة و سفينة البحار مادة ” بطن ” . وعلى هذا للقرآن ظاهر و باطن أو ظهر وبطن ، وكلا المعنيين يرادانمن الآيات الكريمة ، الا أنهما واقعا في الطول لا في العرض ، فان إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن وإرادة الباطن لاتزاحم إرادة الظاهر) القرآن في الاسلام تأليف اللامة الطباطبائي ـ تعريب السيد أحمد الحسيني ص ٢٦ ـ ٢٧ .
ب ـ المحكم و المتشابه :
للمحكم و المتشابه معان ٍ مختلفة قد استعملهما القرآن الكريم فيها و لأجل أنهما قد استُعملا في كل مورد بمعنى يختلف عن المورد الآخر يرتفع ما قد يتوهم من الاختلاف بين الآيات لإننا نجد أن القرآن أحياناً يصف نفسه بأنه كتاب متشابه و أخرى يقول بأن آيات القرآن محكمة و ثالثة ً يقسم الآيات إلى محكمات و متشابهات ، فمن جانب يقول : ” اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .. ” سورة الزمر : ٢٤ ، و من جانب آخر يقول : ” كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير ٍ ” سورة هود : ١ ، و لكنه في سورة آل عمران يقسّم الآيات إلى محكمات ومتشابهات و قد سبقت الآية في بداية هذا المبحث ، فعندما يصف القرآن ـ كل القرآن ـ بأنه كتاب أحكمت آياته يريد بالإحكام إتقان الآيات و أنها مستحكمة لا يتطرق إليها البطلان و الخلل كما صرح به في قوله تعالى : ” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ” سورة فصلت : ٤١ ـ ٤٢ ، وحينما يصفه بالتشابه يقصد به أن جميع الآيات يشبه بعضها البعض في النظم و التناسب بين الآيات و حلاوة البيان وجمال التركيب و الأسلوب و قدرة البيان الخارقة للعادة و هذا شأن جميع القرآن و ليس وصفاً لبعض الآيات دون بعضها ، وأما الطائفة الثالثة التي تقسم الآيات إلى محكمات و متشابهات فالمقصود من المحكمات هي الآيات التي تدل على معانيه االمقصودة بإحكام من دون حدوث اشتباهٍ في المعنى المراد بخلاف المتشابهات حيث أن من الممكن أن يشتبه الأمر على الناس أو على بعضهم فيخطر ببالهم معنى غير مقصود ـ و هذا هو التعريف المشهور للمحكم و المتشابه في الطائفة الثالثة من الآيات و هناك تفاسير و تعاريف أخرى كثيرة بلغت عشرين تعريفاً ـ راجع القرآن في الاسلام باللغة الفارسية ص ٤٥ ـ ونحن لسنا بصدد التحقيق و البحث عن ذلك في هذا المختصر و يكفي أن نعرف إجمالاً المقصود منهما و أن الذي يجب الإيمان به هو المحكم و المتشابه جميعاً و لكن الذي يلزم اتباعه هو المحكم فقط فإن اتباع المتشابهات عمل من في قلبه زيغ حيث يتبعها ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم ، و باعتبار أن المتشابه ما اشتبه علمه على جاهله يختلف عدد الأيات المتشابهة باختلاف الأشخاص في العلم و المعرفة و صفاء القلب فقد تكون آية متشابهةلشخص و محكمة لمن هو أعلم منه أو من هو أصفى و أطهر قلبا منه لأن العلم ـ لا سيما العلوم العقلية ـ يساعد الإنسان في معرفة المعاني الصحيحة و الدقيقة المتناسبة مع القواعد العقلية و المعتقدات الحقة ، كما أن صفاء القلب و طهارة الباطن أيضاً يعينه على ذلك بل يساعده على الترقي إلى المعارف العليا و بعض البواطن التي هي فوق مستوى العقول ، و قد قسّم ابن رشد الأندلسي ـ الفيلسوف المعروف ـ الناس إلى ثلاثة أصناف الأول العلماء و يعني بهم الحكماء الإلهيون و الثاني جمهور الناس و الثالث المتوسطون الذين لا يعدون من العلماء و لا من عامة الناس و عنى بهم المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ، قال : ” و هذا الصنف الأخير ، هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع ، و هم الذين ذمهم الله تعالى ، وأما عند العلماء فليس في الشرع تشابه ،لأنهم يعرفون من كل وجه تخريجها الصحيح الذي قصده الشرع ، و الجمهور لايشعرون بالشكوك العارضة ، بعد أن كانوا أخذوا بالظواهر و استراحوا إليها من غير ترديد .. ” ـ راجع التمهيد في علوم القرآن ج ٣ ص ١٦ ـ ١٧ ، و مقصوده من أن العوام و جمهور الناس لا يوجد لديهم متشابه أن القرآن قد خاطبهم بما يفهمون من الأمثال و تشبيه المعقولات بالمحسوسات لأنه لو ذُكر للبعض الحقائق من دون تمثيل لأمكن إنكارها من قِبلهم لعدم قدرتهم على إدراك الحقائق كما هي فيجعلون عدم قدرتهم عليه مساوياً لعدم وجودها ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال :” إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم ” الكافي ج ١ كتاب العقل و الجهل ص ٢٣ الحديث ١٥ .
و المقصود من هذا البحث هو التعرّف الإجمالي على بعض أسباب و فوائد وقوع التشابه بالمعنى الثالث الذي يتحقق للمتوسطين في العلم و المعرفة و صفاء القلب و من دونهم ، فنقول :
أما أسباب وقوع التشابه في القرآن الكريم فهناك أمور أدت إلى ذلك و من جملتها :
١ ـ قصور العبارات و الألفاظ عن إيصال المفاهيم و المعارف العميقة :
من المعلوم أن البشر وضعوا الألفاظ لإيصال مقاصدهم لبعضهم البعض و بتعبير آخر للتفهيم و التفهّم ، و من الواضح أيضاً أنهم إنما يضعون الألفاظ لما يجدونه في حياتهم و يحسون به أو يدركونه بقواهم الإدراكية من العقل و الخيال وغيرهما و أما المعارف العميقة ـ سواء كانت عقلية يمكن التوصل إليها من قِبل الحكماء و رؤساء العقلاء أم كانت غيبية لايمكن التوصل إليها أو إلى التعرف عليها حتى بالمفاهيم الإنتزاعية المسماة بالمعقولات الفلسفية الثانية ما لم يكن بيان من الشارع المقدس و من له ارتباط بما وراء الطبيعة .. ـ فلم يكن لديهم أي تصور عنها ليضعوا لها ألفاظا مناسبة لها فمع أن اللغة العربية أكمل اللغات و أوسعها إلا أن العرب آنذاك لم يكونوا يعرفون هذه الحقائق و لا سيما الماورائية منها خصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أن القرآن قد جاء بمعارف بديعة لم تكن قد بُيّنت قبل ذلك لا من قبل الحكماء و لا الأنبياء السابقين على نبينا و آله و عليهم سلام الله ، و لهذا نجد أن الألفاظ قاصرة عن إيصال هذه الحقائق و تفهيمها للمخاطبین فيستعمل الوحي القرآني أساليب التمثيل و التشبيه و الاستعارة و الكناية و أنواع المجاز ، كما أنه يستعمل ألفاظاً قابلة للحمل على المصاديق الحسية و العقلية المجردة و المقصود هو المعاني العقلية فيلزم تجريدها عن المادة و لوازمها لمعرفة مغازيها الحقيقية على قدر القدرة و القابلية العقلية ..
و الخلاصة أن قصور الألفاظ أولاً و علوّ المفاهيم و المعارف ثانياً من موجبات استعمال ألفاظ و عبارات توقع من لا إلمامله بالمعارف الإلهية و العلوم العقلية في الاشتباه فتصبح الآية لديه من المتشابهات و من الجهلة من يأخذ بظواهر ألفاظها ويحملها على المحسوسات المادية فيُبتلى بأمثال التجسيم و التشبيه في الوجود الإلهي تعالى عن ذلك علوا كبيراً .
أمثلة :
في القرآن آيات متعددة تتحدث عما وراء الطبيعة أو عن المعارف العقلية التي لا سبيل للحس إلى إدراكها فيأتيبأمثلة تعد من تشبيه المعقول بالمحسوس أو المقصود منها معانيها بعد التجريد عن المادة و لوازمها و ذلك كقوله تعالى : ” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ” سورةالانبياء : ٤٧ ، و قوله تعالى : ” الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ” سورة طه : ٥ ، و قوله عز و جل : ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ.. ” سورة النور : ٣٥ ، و قوله سبحانه و تعالى : ” وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُمَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ” سورة الزمر : ٦٧ و غيرها من الآيات .. إذ من المعلوم أن الميزان يُجعل للوزنفيختلف باختلاف الموزون فإن كان ماديا جسمانياً كان الميزان أيضاً مادياً لوزن الأجسام و الأثقال المادية أو لقياس لوازمالمادة كحرارة الجسم و .. و إن كان معنوياً فلا بد أن يكون الميزان أيضاً كذلك و واضح أن وضع الموازين يوم القيامة لأجل توزين الأعمال و العقائد و الأخلاق لا أجسام أصحابها فيلزم أن يكون الميزان متناسباً و مناسباً لها فصلاح العمل و صدق النية و صحة العقيدة و حسن الخلق يعدّ وزناً و ثقلاً في الميزان كما قال جل و علا : ” وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” سورة الأعراف : ٨ كما أن فساد العمل و بطلان العقيدة و سوء الخلق خفة الوزن : ” وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ” سورة الأعراف : ٩ ، و قد يكون الله تعالى قد أحبط أعمال البعض ـكالمشركين ـ فلا يبقى لهم وزن كما قال تعالى : ” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ” سورة الكهف : ١٠٥ ، فيلزم أن يكون هناك ميزان معنوي و قد ورد في بعض الروايات أن المقصود من الموازين في قوله تعالى ” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ .. ” هم الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ـ الكافي ج ١ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ص ٤١٩ الحديث ٣٦ و لهذا ورد في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام : ” السلام عليك يا ميزان الأعمال يوم الحساب ” كتاب المزار ص ٢٠٧ .. و تفصيل الكلام موكول إلى محله ..
و كذا بالنسبة للآيات المتعلقة ببيان صفات الله تعالى بإرجاعها إلى المحكمات من قبيل قوله تعالى : “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ” سورة الشورى : ١١ ، و قوله عز و جل ” لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ “سورة الأنعام : ١٠٣ وكذا الآيات الدالة على كونه أحداً و صمداً و .. فقوله تعالى : ” الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ” ليس المقصود منه جلوسه على عرش جسماني مادي كجلوس و استواء الملوك على عروشهم بل هو تعبير كنائي لبيان السلطة التدبيرية الشاملة له تعالى على الكون بأجمعه و على حد تعبير العلامة الطباطبائي : ” الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك والاخذ بزمام تدبير الأمور و هو فيه تعالى – على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه – ظهور سلطنته على الكون واستقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها و إصلاح شؤنها ، فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شئ و انبساط تدبيره على الأشياء سماويهاو أرضيها جليلها و دقيقها خطيرها ويسيرها ، فهو تعالى رب كل شئ المتوحد بالربوبية ” الميزان ج ١٤ ص ١٢١ .. ، وأيضاًُ قوله عز و جل: ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ .. ” ليس المقصود منه النور المادي الذي ينبسط على الجدران و الحيطان و لاهو الفائض من جـِرم الشمس و القمر على حدّ تعبير بعض الأعاظم بل إما أن يكون المقصود مُنوِّر السموات و الأرض بنور الأجرام المنيرة أو بنور الوجود أو بنور الهداية كما ورد عن العباس بن هلال قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول الله : ” الله نور السماوات والأرض ” فقال : هاد لأهل السماء ، وهاد لأهل الأرض، وفي رواية البرقي : هدى من في السماء وهدى من في الأرض” الكافي ج ١ باب معاني الأسماء واشتقاقها ص١١٥ الحديث ٤ و بطبيعة الحال البحث عن هذه الآية وتفسيرها طويل الذيل خارج عن مبحثنا . و قوله : ” و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ” أي الأرض بما فيها من الاجزاء والأسباب الفعالة بعضها في بعض ، و القبضة مصدر بمعنى المقبوضة ، والقبض على الشئ وكونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض والمراد ههنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى : ” والامر يومئذ لله ” الانفطار : ١٩ ـ الميزان ج ١٧ ص ٢٩٢ ، و قس على ذلك سائر الآيات المشابهة للمذكورات هنا .
٢ ـ الاشتراك اللفظي :
من الامور التي قد توجب التشابه و كون الآية من المتشابهات هو وقوع الألفاظ المشتركة في القرآن الكريم فهناك ـفي جميع اللغات ـ ألفاظ لها معان ٍ متعددة متقاربة و متناسبة أحياناً و متباينة أخرى ، و قد يكون الجمع بين تلك المعاني ممكناً فيكون جميع المعاني مقصودة ًبناءً على إمكان و صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و قد لا يمكن الجمع بينها لحدوث التنافي بين المعاني المختلفة أو لأجل عدم إمكان أو عدم صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ـ و هوبحث موكول إلى علم أصول الفقه ـ فإن لم يمكن الجمع لزم تحديد المعنى المقصود من اللفظ المشترك إما بالقرأئن الداخلية الموجودة في الآية نفسها أو سائر الآيات أو القرائن الخارجية كتفسير المعصومين عليهم السلام أو دليل العقل القطعي أو .. ،فما لم يتم تحديد المعنى المقصود تبقى الآية مجملة من حيث المعنى و متشابهة لمن يجهل المراد منها و سيسيء من في قلبه زيغ الاستفادة منها ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأوله ، و إليكم بعض الأمثلة :
ألف ـ لفظ قَـَدَرَ و ما يشتق منه إذا تعدّى بحرف على كان له معنيان القدرة و التضييق و قد استُعمل بكلا المعنيين في القرآن الكريم و لكن المقصود أحياناً يكون واضحاً و أحياناً يحتاج إلى ضم قرائن أخرى ليتبين المعنى و لا يُستنبَط منهمعنى خلاف مقصود ربِّ العالمين جل و علا ، فمن موارد استعماله في معنى القدرة و التمكن قوله تعالى : ” ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ” سورة النحل : 75 ، و قوله تعالى : ” بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ” سورة القيامة : ٤ ، و من موارد استعماله في معنى التضييق قوله تعالى : ” وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ” سورة الفجر : ١٦ فمن الواضح أن المقصود في الآيتين الاُوليين القدرة بمعنى التمكن و في الأخيرة بمعنى التضييق ، و غالباً عندما يُستعمل في معنى التمكن يكون حرف على داخلاً على العمل كقوله على أن نسوي و قوله لا يقدر على شيء إذا كان المقصود : ” على فعل شيء ” و أما قـَدَرَ بمعنى ضيّق فيدخل حرف الجر فيه عادة ً على الشخص كقوله فقدر عليه .. حيثأن الضمير عائد الى الانسان المذكور في الآية السابقة .. و لكن قد التبس الأمر على بعض البسطاء أو من لا إلمام له بالمعارف الإلهية أو العلوم العقلية فحمل لفظ نقدر في قوله تعالى : ” وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه ” سورة الأنبياء : ٧٨ على القدرة بمعنى التمكن مع أن اللفظ بنفسه يمكن أن يكون قرينة على كون المراد التضييق لا التمكن حيث دخل حرف ( على ) على الشخص لا الفعل و العمل ، و إذا لم نأخذ ذلك قرينة على هذا المعنى فتكفي القرائن الأخرىو الأدلة الدالة على أن الله على كل شيء قدير و أنه لا يخرج عن حيطة قدرته ما يصدق عليه أنه شيء أيّاً كان و هذا مما لايخفى على المؤمن العادي المتوسط بل و من دونه فكيف بالأنبياء المعصومين علماً و عملاً و معرفة ً و ..فلا يمكن القول بأن يونس النبي عليه السلام قد ظن أن الله تعالى غير قادر على أن يفعل به شيئاً ..
ب ـ لفظ القـُرء لغة ً من الأضداد فهو يستعمل بمعنى الطُهر كما يستعمل بمعنى الحيض و قد ورد في القرآن الكريم أن المطلقة الرجعية عليها أن تعتدّ ثلاثة قروء فلا يجوز لها أن تتزوج في هذه الفترة و الزوج يتمكن من الرجوع إليها قبل خروجها من العدة جيث قال تعالى : ” وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ” سورة البقرة : ٢٢٨ فإن فترة العدة تختلف بحسب المقصود من القرء ، فمن لا يرجع أو لا يتمكن من الرجوع إلى الروايات المعتبرة الدالة على المقصود من القرء في هذه الآية سيلتبس عليه الأمر و لا يتمكن من معرفة و بيان حكم الله تعالى في تحديد العدة و وقت انتهائها ، و الجدير بالذكر أن المستفاد من الأدلة الشرعية و الذي قد أفتى به الفقهاء أن عدة المطلقة الرجعية ثلاثة أطهار .
ج ـ لفظ الأب يستعمل في الوالد و العم و المربي و أبي الزوجة و قد قالوا : ” إن الآباء أربعة ، أب ولدك ، وأب زوجك ، وأب علمك ، وأب رباك ” و قد يكون استعماله في غير الأب الوالد مجازياً إلا أنه استعمال شائع ، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في مواضع متعددة إلا أن المقصود في بعض الآيات واضح كما في قوله تعالى : ” قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ” سورة يوسف : ٧٨ و قوله جل و علا : ” فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ” سورة القصص : ٢٥ و قوله عز من قائل : ” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ” سورة الأحزاب : ٤٠ و كذا آيات الإرث و غيرها فإن المقصود من الأب في هذه الآيات هو الأب الوالد كما لايخفى ، و لكن هناك آيات تتحدث عن قصة إبراهيم النبي عليه السلام مه أبيه المشرك فقال تعالى : ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ، إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ” سورة مريم : ٤١ ـ ٤٥ فهذه الآيات تتحدث عن إبراهيم عليه السلام و أنه كان له أب مشرك ، و نحن الشيعة نعتقد بطهارة آباء الأنبياء و الأئمة عليهم السلام عن دنس الشرك فيحتج علينا من يخالفنا في العقيدة بهذه الآيات و أمثالها لإثبات أنه يمكن أن يكون آباء الأنبياء من المشركين فإن وقوع الشيء خارجاً أدل دليل على إمكانه و قد صرح القرآن بكون أبي إبراهيم مشركاً ، فهل يلزم رفع اليد عن تلك العقيدة أم أن هنا كقرينة تدل على أن المقصود من الأب غير الوالد ؟ فيشتبه الأمر على غير العارف بالمفاهيم القرآنية فإما أن يرفع اليد عن ذلك الإعتقاد و إما أن تصبح الآيات لديه من المتشابهات ، و لكن يمكن رفع هذا التشابه بالتدبر و التدقيق في الآيات القرآنيةالتي تتحدث عن إبراهيم و أبيه و استغفاره لأبيه و والده و خلاصة الحل هو أن هناك آيات تتحدث عن شرك أبيه و أنه قد استغفر إبراهيم عليه السلام له و انه لما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه كما قي قوله تعالى : ” وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاعَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ” سورة التوبة : ١١٤ فالمستفاد من هذه الآية أن إبراهيم قد استغفر لأبيه و لكنه تبرأ منه حينما تبين له أنه عدو لله و ذلك بعد ما مات آزر كما في الخبر كما أن هناك آية تتحدث عن استغفار إبراهيم عليه السلام لوالديه بعد كبر سنّه حيث قال تعالى : ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ” سورة إبراهيم : ٣٩ ـ ٤١ ، فأولاً قد استعمل في تلك الآيات لفظ الأب و هو قابل للحمل على غير الوالد و لكن هنا و في هذه الآيات قد استعمل لفظ الوالدين الذي لا يحمل على غير الأب و الأم الوالدين له فيستشم منهما أن الأب هناك غير الوالد المذكور ضمن الوالدين هنا ، و ثانياً يقول في تلك الآيات أن إبراهيم قد تبرأ من الأب الذي تبين له أنه عدو لله تعالى و يأتي في هذه الآية التي تذكر حمده لله و دعاءه في أواخر عمره و بعد كِبَر سنّه عندما وهب الله تعالى له إسماعيل و إسحاق و ذلك بعد موت ذلك الأب ( و هو آزر ) ، يأتي و يستغفر لوالديه فيلزم أن يكون الأب الذي تبرأ منه غير والده الذي دعا و استغفر له بعد ذلك حينما كـَبُر سنّه فيكون ذلك الأب عمه أو أبا زوجته أو .. و لا يمكن أن يكونوالده الذي دعا و استغفر له بعد كِبَر سنه كما لا يخفى بأدنى تأمل ..
د ـ لفظ النظر يُستعمل في النظر بحاسة البصر كما يُستعمل بمعنى و التوقع من الغير فإما أن يكون مشتركاً بينهما أويكون المعنى الأول حقيقياً و الآخر مجازياً ، كما يُستعمل بمعنى النظر القلبي أي المعرفة القلبية بالله تعالى و لكنه في هذه الحالة يكون مشتركاً معنوياً بين النظر بالحاسة الباصرة و النظر بالقلب فإذا قال موسى عليه السلام :”رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ” سورة الأعراف : ١٤٣ لزم حمل النظر على المعرفة القلبية لأن موسى أجلّ من أن يطلب النظر الحسي إلى الله تعالى و هويعلم أن الله ليس بجسم حتى يُرى بالعين الباصرة و الآيات كالأدلة العقلية دالة على ذلك بكل وضوح كما في قوله تعالى : ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ” سورة الشورى : ١١ ، و قوله تعالى : ” لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ” سورة الأنعام : ١٠٣ ، و آيات أخرى تدل على أحديته و غناه الذاتي و المطلق و أنه صمد و .. ، و بذلك يتبين أيضاً أن النظر فيقوله تعالى : ” وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ” سورة القيامة : ٢٢ ـ ٢٣ لا يُقصد به النظر الحسي بل إما النظر القلبي أو النظر بمعنى التوقع بمعنى أن أصحاب هذه الوجوه لا يتوقعون النعمة و الكرامة و دخول جنة الخلد التي وُعد المتقون إلا من ربها ، و قد ورد في كلام العرب النظر بهذا المعنى فقد نُقل أنه سمعت مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم تقول :”عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم ” و لكن للآية معنى آخر أدق مما سبق قد ذكره العلامة الطباطبائي فيتفسيره القيّم من أراده فليراجعه هناك ..
٣ ـ الايجاز :
من جملة العناصر الدخيلة في بلاغة الكلام و جمالية العبارات هو رعاية التناسب بين اللفظ و المعنى من حيث الإطناب و الإيجاز و المساواة فقد يتطلب الأمر ـ مع ملاحظة المقام و ملابسات الكلام و مستوى المخاطبين و أن من يتوجه إليه الخطاب صنف خاص أم عموم الناس في عصر و مصر واحد أم جميع الاعصار و الأمصار و .. ـ أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى الذي يراد إيصاله إلى المخاطب فيسمى بالمساواة و يسمى الكلام بكلام الأوساط ، و قد يقتضي المقام أو حال المخاطب أن يكون اللفظ و العبارات أكثر من مقدار كلام الأوساط فإن كان ذلك لفائدة كالمبالغة كان إطناباً و إلا كان إطالة و أما إذا كان اللفظ أقل من كلام الأوساط فإن لم يخلّ بالمعنى كان إيجازاً و إلا سُمّي تقصيراً ، و تفصيل ذلك موكول إلى علم البلاغة ..
من جملة وجوه إعجاز القرآن هو الإعجاز اللفظي و كونه في قمة الفصاحة و البلاغة و من جملة وجوه البلاغة فيه هو التناسب الدقيق بين الألفاظ و المعني فيوصل لمخاطبه مطالب كثيرة بألفاظ مساوية أحياناً و أكثر من ذلك أخرى و ذلك لحكمة كالتأكيد و المبالغة ، و بكلام موجز ثالثة ً ، فعندما يقول : ” إياك نعبد و إياك نستعين ” يكون اللفظ مطابقاً للمعنى الذي يريد إيصاله للمخاطبين فهو لا يريد أن يقول أن المكلف يعبد الله و يستعينه بل يريد إيصال ذلك مع الحصر و أن العابد المستعين بالله تعالى يلزم أن يكون عابداً لله و مستعيناً به وحده و لهذا لم يعبِّر عن ذلك بـ ” نعبدك و نستعينك ” لأنه و إن كانت العبارة حينئذ أقل و أكثر اختصاراً إلا أنها مخلة بالمقصود حيث أنه لا يستفاد منها الحصر المقصود من الكلام و لذا فصل الضمير المنصوب و قدمه على الفعل ليفيد الحصر لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر فقال : ” إياك نعبد و إياك نستعين ” .. ، والإطناب كقوله تعالى : ” قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ،و َيَسِّرْ لِي أَمْرِي” سورة طه : ٢٥ ـ ٢٦ و قوله تعالى :” قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ” فكان من الممكن أن يقول ( اشرح صدري و يسّر أمري ) و لكنه جاء بزيادة (لي) في الجملتين للتأكيد ، كما كان بالإمكان أن يقول ( هي عصاي ) و لكن جاء بذلك التفصيل للتلذذ بالحديث مع المحبوب الحقيقي و هو الله تعالى و لأسباب أخرى ..
و أما الإيجاز فقد يكون بلا حذف شيء من الألفاظ و يسمى بإيجاز القصر و قد يكون بالحذف و يسمى بإيجاز الحذف و القرآن قد استعمل النوعين فمن إيجاز القصر قوله تعالى ” في القصاص حياة ” سورة البقرة : ١٧٩ ، فالآية تدل على معنى كثير و مصاديق متعددة ـ من قصاص النفس و الأطراف ـ مع عدم التكرار بخلاف قول العرب قديماً : ( القتل أنفى للقتل ـ أو : أتقى للقتل ، أو : أوقى للقتل ) فحروفه أكثر من الآية و مضمونه أقل حيث يختص بالقتل فقط دون قصاص الأطراف كما أنه مشتمل على التكرار مضافاً إلى عدم صدقه دائماً فإن القتل العدواني لا ينفي القتل بل يسبب القتل الأكثر و يوجب القتال أحياناً كما أن كونه أنفى للقتل يعنى أن عدم الاقتصاص من القاتل أيضاً ينفي القتل إلا أن إجراء القصاص بالقتل يكون أنفى له و أمور كثيرة أخرى و الآية خالية من كل هذه النقائص و مفيدة للمعنى الأكثر كما هو مبيَّن في علم البلاغة و بعض التفاسير الأدبية كتفسير البرهان للزركشي ج ٣ ص ٢٢٢ و ..
و الإيجاز بالحذف قد يكون مخلاً بالكلام و هذا لا يوجد و لا يمكن أن يوجد في القرآن الكريم المعجز في فصاحته وبلاغته و قد لا يكون مخلاً و هذا موجود في القرآن بوفرة و لكن الحذف لأجل الإيجاز قد يوجب كون الآية من المتشابهات للبعض و قد لا يوجب ذلك فمن الثاني قوله تعالى : ” اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ، فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ” سورة طه : ٤٢ ـ ٤٩ ، حيث أنه لم يذكر أنهما أتيا إلى فرعون فقالا له إنا رسولا ربك فأرسل معنا …الخ و إنما ذكر ردّ فرعون مباشرة و هو سؤاله : ” فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ” لكونه معلوماً من الآيات السابقة فلا داعي لذكر ذلك و الكل يفهم بقراءة الآيات أنهما أتياه و أبلغا رسالة ربهما إلى فرعون ، و من الأول ـ أي الإيجاز بالحذف الموجب للتشابه للبعض ـ قوله تعالى : ” وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ” سورة الإسراء : ١٦ ، حيث أن من المعلوم أن الله تعالى لا يأمر بالقبيح و هو أجل من أن يأمر الناس بالفسق و كما أنه أجل من ان يدمرهم تدميراً لأجل فعل ما أمرهم به كما قال تعالى : ” قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ” سورة الأعراف : ٢٨ و قد ثبت في محله أن صدور القبيح من الله تعالى مستحيل عقلاً ـبالاستحالة الوقوعية لا الذاتية و هذا ما يحتاج إلى بيان لسنا بصدده في هذا المختصر ـ ، فمن لا إلمام له بالمعارف الإلهية ولا بالأدب العربي تصبح الآية متشابهة بالنسبة له و لكن ـ و بناءً على أحد التفاسير للآية ـ هناك محذوف في الكلام تقديره : أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، كما يقولون : أمرته فعصى ودعوته فأبى والمراد إنني أمرته بالطاعة فعصى ودعوته إلى الإجابة والقبول فأبى ، و يمكن تفسير الآية بمعنى آخر من دون تقدير محذوف و لكنه متوقف على مبادئ علمية و إلمام بالمعارف القرآنية فالآية تكون بهذا المعنى أيضاً متشابهة لغير حملة العلم و المعرفة القرآنية ، و يعود هذا المعنى إلى الإستدراج المشار إليه في قوله تعالى : ” وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ” سورة الأعراف : 182 و الأمر فيها متعلق بالفسق نفسه و لكن بمعنى الإكثار حيث أنه ورد الأمر في اللغة بمعنى الإكثار فقوله أمرنا مترفيها بمعنى أكثرنا مترفيها بإفاضة النعم على أهل تلك القرية و توفيرها على سبيل الاملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب ـ راجع تفسير الميزان ج ١٣ ص ٥٩ ـ ٦٣ .
٤ ـ التعريض :
هناك آيات قرآنية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله أو تأمره أو تنهاه بأمور لا يمكن أن تكون متوجهة إلى إليه صلى الله عليه و آله و سلم قضية َ عصمته الربانية الكبرى التي يمتنع معها صدور القبيح و المصعية منه أو ترك الواجب من قِبَله صلوات الله عليه و آله ـ و المقصود الإمتناع الوقوعي لا الذاتي ـ فمع أنه مكلف بالتكاليف الإلهية كغيره من الناس بل تكاليفه أكثر و أشد إلا أن توجيه الخطاب إليه و نهيه عما لا يصدر منه قطعاً على أن يكون هو المقصود بالخطاب أمر لا يستحسنه العقلاء ـ كما أشار إليه امرحوم الخوانساري في جامع المدارك ج ١ ص ٢٦ ـ و لهذا يكون كثير من الخطابات الموجهة إلى النبي صلى الله عليه و آله موجهة ً في حقيقة الأمر إلى الأمة لا إليه و قد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلامأنه قال : “نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة ” الكافي ج ٢ ص ٦٣١ باب النوادر الحديث ١٤ ، فمن لا يعرف ذلكسيشتبه عليه الأمر أو ستصبح الآيات متشابهة بالنسبة إليه و لكننا إذا عرفنا هذه القاعدة العامة سيرتفع التشابه أو لاينعقد التشابه بالنسبة إلينا أساساً ، و إليكم بعض الأمثلة : قال تعالى : ” وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” سورة الأنعام : ٦٨ فإذا عرفنا أن الخطاب و إن كان متوجهاً بحسب الظاهر إليه صلى الله عليه و آله إلا أن المقصود غيره لم نشتبه في فهم الآيةولا تصبح الآية متشابهة لنا ـ أي لا يحدث اشتباه و لا تشابه ـ مضافاً إلى أن القرائن الداخلية و الخارجية و الأدلة العقلية والنقلية تنفي عروض النسيان للنبي صلى الله عليه و آله فهو من المخلصين ـ بفتح اللام ـ بل أفضلهم و أكملهم و المخلَصون قد يئس الشيطان من السيطرة و التسلط عليهم من أول الأمر عندما طلب النَظِرة إلى يوم الدين فأعطاه الله سؤاله فقال الشيطان : ” لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ولأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ” سورة الحجر ٣٩ ـ ٤٠ بل قد صرح القرآن بأن الشيطان لا سلطان له على عباده فكيف بأشرف خلقه على الإطلاق محمد صلوات الله عليه و آله حيث قال : ” إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ” سورة الحجر : ٤٢ مضافاً إلى الأدلة العقلية و النقلية الدالة على عصمته الكبرى .. و بهذا يتبين أن المقصود في جميع الآيات المشابهة للآية المذكورة من هذه الجهة كقوله تعالى : ” وَلَوْلاً أَنْثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ” سورة الإسراء : ٧٤ و عن الامام الصادق عليه السلام : ” عنى بذلك غيره ” الكافي ج ٢ ص ٦٣١ ذيل الحديث ١٤ ، و كقوله تعالى : ” لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” سورة الزمر : ٦٥ وقوله جل و علا : ” الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” سورةيونس : ٩٤ ـ ٩٥ , و غيرها من الآيات ..
تنبيهان :
١ ـ أحياناً لا تكون الآية متشابهة فهي محكمة واضحة الدلالة و لا يوجد في اللفظ شيء يحتاج إلى التأويل و الإرجاع إلى المحكمات و لكن الفهم الصحيح لها يحتاج إلى معرفة سبب نزولها ، و من جملة الآيات التي يلتبس علينا الأمر و يشتبه الانسان في فهم المقصود منها إذا لم نأخذ سبب نزولها بعين الاعتبار قوله تعالى : ” لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” سورة المائدة : ٩٣ ، فمن الممكن أن يخطأ الإنسان في فهم هذه الآية أو يسيء فهمها من في قلبه زيغ و مرض فيَضِلّ ويُضِلّ الآخرين في حكم الأطعمة و ينشر حلية جميع الأطعمة شريطة الإيمان و العمل الصالح فلا يبقى محرم في المأكولات والمشروبات لا سيما إذا أخذ بعين الإعتبار أن الآية من آيات سورة المائدة التي تُعدّ آخر سورة نزلت ـ من السور الطوال ـ وهيناسخة غير منسوخة ، كما روي عن قدامة بن مظعون أنه قال قال الله تعالى ” ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا و آمنوا وعملوا الصالحات ” قال فأنا أطعمها ـ أي الخمر ـ وأعمل صالحا فاُنكر عليه فرجع عنه ـ راجع المبسوط للشيخ الطوسي قدس سره الشريف ـ و لكن بمراجعة سبب نزول الآية يتبين لنا أن الآية في مقام بيان أمر آخر و ذلك أن الآيات القرآنية كانت تدريجية النزول ـ في النزول التفصيلي ـ و من ثم كانت الأحكام أيضاً تدريجية البيان فلم تكن الأحكام جميعها قد بُيِّنت للجميع فكانوا يأكلون أو يشربون ما نزلت الآيات بتحريمها بعد ذلك و كان بعض المسلمين قد ماتوا قبل نزول تلك آيات التحريم فتساءل المسلمون : ما مصير المسلمين الذين ماتوا و هم كانوا يشربون أو يأكلون ما حرّمته هذه الآيات فنزلت آية المائدة : ” لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. ” و إليكم نص الحديث بشأن سبب نزول الآية : ” لما نزل تحريم الخمر و الميسر و التشديد فيأمرهما قال الناس من المهاجرين و الأنصار يا رسول الله قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر و قد سماه الله رجسا وجعله منعمل الشيطان وقد قلت ما قلت أفيضر أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا ؟ فأنزل الله( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية ) فهذا لمن مات أو قتل قبل تحريم الخمر ، والجناح هو الاثم على من شربها بعد التحريم” تفسير القمي ج ١ ص ١٨١ ـ ١٨٢ .
و نفس هذا السبب في التباس الحكم الشرعي على البعض جارٍ في آية السعي بين الصفا و المروة حيث أنها تقول بأنه لا جناح في الطواف و السعي بينهما :” إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ” سورة البقرة : ١٥٨ ، و عدم الجناح دليل الجواز بينما يفتي الجميع بالوجوب بل يُعدّ السعي من أركان الحج ، وسبب الالتباس هو عدم معرفة سبب النزول و أنها واردة في مقام توهم الحظر من قِبَل بعض المسلمين فنزلت الآية و قالت أن السعي ليس بمحظور ، و لا ينافي نفيُ الإثم والجناح وجوبَ السعي إذا كان النفي لأجل توهم الحظر، وقد ورد في سبب نزول الآية أمران الأول ما عن الامام الصادق عليه السلام في وصف حجة الوداع و فيه : ” فطاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام ثم عاد إلى الحجر فاستلمه وقد كان استلمه في أول طوافه ثم قال : إن الصفا والمروة من شعائر الله فأبدء بما بدء الله تعالى به ، وإن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله عز وجل : ” إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما … ” الكافي ج ٤ ص ٣٤٥ باب حج النبي صلى الله عليه و آله الحديث ٤ ، والثاني ما روي من أنه : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنة ؟ فقال: فريضة ، قلت : أوليس قال الله عز وجل :”فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ” قال : كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول الله صلى الله عليه و آله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل و ترك السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا : يا رسول الله إن فلانا لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام فأنزل الله عز وجل ” فلا جناح عليه أن يطوف بهما ” أي وعليهما الأصنام ، الكافي ج٤ ص ٤٣٥ باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيه الحديث ٨ . و هذا النوع من الالتباس الناتج عن عدم العلم بأسبابالنزول أو القرائن قد صنفه البعض قي المتشابهات و سماه بالتشابه العرضي .
٢ ـ عدّ بعض العلماء الحروف المقطعة في القرآن الكريم من المتشابهات و لا بأس به إلا أنه قابل للمناقشة أيضاً حيث أن الحروف المقطعة قد فُسِّرت بأمور كثيرة و منها ـ و ربما يكون أهمها ـ أنها رموز بين الله تعالى و بين رسوله صلى الله عليه وآله و لا يعرف ما ترمز إليه إلا هو تعالى و رسوله و أهل بيته الذين هم بمنزلة نفسه الشريفة ، و الرموز ليست موضوعة لمعان خاصة حتى يشتبه الأمر على الناس أو بعضهم فيحملوها على معانٍ غير مقصودة بل هي من حيث الوضع اللغوي لا معنى لها لأنها لم توضع لمعنى خاص حتى يشتبه المعنى المقصود بغيره ، و على أية حال قد ورد في بعض الأحاديث إشارات إلى حكمة ورود الحروف المقطعة في القرآن الكريم منها ما رواه العلامة المجلسي في بحاره ج ٨٩ ص ٣٨١ الحديث ١٤ : ” … والعلة الأخرى في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليختص بمعرفتها أهل العصمة والطهارة ، فيقيمون به الدلالة ،و يظهرون به المعجزات و لو عم الله تبارك وتعالى بمعرفتها جميع الناس ، لكان ذلك ضد الحكمة ، وفساد التدبير ، وكان لايؤمن من غير المعصوم أن يدعو بها على نبي مرسل ، أو مؤمن ممتحن ، ثم لا يجوز أن لا تقع الإجابة بها مع وعده ،واتصافه بأنه لا يخلف الميعاد … الخ “
حكمة وجود التشابه في القرآن و فوائده :
إلى هنا تبين لنا أسباب و عوامل التشابه ، و أما الحمكة و الفائدة من وجود المتشابهات فيتلخص في عدة أمور :
١ ـ من الممكن أن يكون أحد الحِكـَم و الفوائد هو امتحان الناس حيث أن الآية ـ آية تقسيم آيات القرآن إلى محكمات و متشابهات ـ تقول أن من في قلبه زيغ يتبع المتشابهات لإيقاع الفتنة بين الناس و العمل على إلقاء الشبهات بينهم وتحريف عقيدة العوام و .. فوجود المتشابهات امتحان للناس ليتميز المؤمن الصالح من الفاسق و المنافق و المنحرف ..
٢ ـ ذكر البعض أن من جملة عوامل و أسباب وجود المتشابهات في القرآن هو تحريك الناس و عقولهم نحو البحث والتحقيق ، إلا أن هذا لا يعد من أسباب و عوامل وجودها بل من الممكن أن يكون من الفوائد المترتبة على وجودها إلا إذا اُريدمن السبب العلة الغائية ، فكما أن من جملة الفوائد و العلل الغائية لإرسال الرسل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام من إثارة دفائن العقول : ” فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ” نهج البلاغة الخطبة الأولى ، كذلك وجود المتشابهات في القرآن الكريم يمكن أن يؤدي هذا الغرض في بعض الجوانب ..
٣ ـ أشار أمير المؤمنين عليه السلام فيما نقله عنه صاحب الاحتجاج إلى حكمتين و فائدتين في غاية الأهمية لوجودالآيات التي لا يدرك معانيها إلا الله و الراسخون في العلم ، الأولى منع أهل الباطل من ادعاء العلم الذي لم يجعله الله لهم والثانية وضع الناس في موضع يضطروا معه للرجوع إلى ولاة الأمر الحقيقيين المنصوبين من قِبَل الله عز و جل للولاية الإلهيةو خلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ، و إليكم نص الحديث ـ و هو حديث طويل ينقل أجوبته عليه السلام علىأسئلة من يسأله عن أمور متعدد ، و نحن ننقل منه ما هو الشاهد لما نحن فيه ـ : ” … ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته ، ورأفته بخلقه ، و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه ، قسم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه : يعرفه العالم و الجاهلو قسما : لا يعرفه إلا من صفى ذهنه ، ولطف حسه ، وصح تميزه ، ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما : لا يعرفه إلا الله، و أمناؤه ، والراسخون في العلم ، وإنما فعل الله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته ، تعزّر او افتراء على الله عز وجل ، و اغترارا بكثرة من ظاهرهم ، وعاونهم ، وعاند الله عز وجل ورسوله ” الاحتجاج ج ١ ص ٣٧٦ .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أيوب الجعفري
١٤ جمادى الآخرة ١٤٣٦ هـ ق _
الموافق ١٨ / ٤ / ٢٠١٥ م